في منطقة آسيا الوسطى، لا تجد إيران أو القومية الفارسية على وجه التحديد، دولة أو شعبًا أكثر قربًا وتجانسًا من الناحية الثقافية من طاجيكستان؛ فالأخيرة وإيران كانتا حتى 300 عام مضت تحت مظلة دولة سياسية واحدة. وعلى الرغم من زوال تلك الوحدة وبقاء أوجه كثيرة للخلافات السياسية في الوقت الراهن، إلا أن التشابكات الثقافية والاجتماعية تجعل شعبي البلدين متجانسين إلى حدٍ كبير، خاصة وأن لغتهما الرسمية واحدة وهي الفارسية، مع اختلاف طريقة كتابتها فقط في طاجيكستان بالحروف اللاتينية.
ومع أن أفغانستان تملك حدودًا جغرافية واسعة مع إيران تبلغ حوالي 936 كيلومتر وتُعد الفارسية لغة رسمية بها، إلا أن أوجه التقارب الثقافي بينهما تتركز بشكل أكبر لدى أقوام الطاجيك والهزارة القريبة من القومية الفارسية. ولا يخفى أيضًا أن لدى إيران مشكلاتٍ عدة على أصعدة مختلفة مع أفغانستان مثلما هو الحال مع طاجيكستان، وإن كانت تلك الملفات أكثر تعقيدًا في الواقع مع كابل منها مع دوشنبه.
وعلى أي حال، على الرغم من الاتهامات العديدة الموجهة من جانب طاجيكستان لإيران بدعم عمليات عنف في أراضيها أو مشاركتها في “سكب الزيت على النار” في الحرب الأهلية الطاجيكية (1992-1997)، إلا أن الحكومة الإيرانية المحافظة الحالية التي تولت الحكم في أغسطس 2021 تولي اهتمامًا غير مسبوق منذ عام 1979 بشأن تعزيز العلاقات مع دوشنبه. فقد كانت الزيارة الأولى للرئيس إبراهيم رئيسي عقب توليه السلطة رسميًا إلى طاجيكستان، وقد أعقبتها اتصالاتٌ أخرى على مستوى أقل، منها محادثات وزيري نفط البلدين في مارس الماضي.
وكان من بين مؤشرات توجه البلدين إلى تقوية هذا التعاون الثنائي افتتاح إيران يوم الثلاثاء 17 مايو 2022 مصنعًا لإنتاج الطائرات المسيرة من دون طيار من طراز “أبابيل-2” في العاصمة الطاجيكية دوشنبه، لتصبح هذه الخطوة أحد أبرز أوجه التعاون المشترك في تاريخ البلدين الحديث. فلماذًا إذًا أقدمت إيران على هذه الخطوة على الصعيد العسكري، والتي تفسر دوافعُها أيضًا بعض أسباب توجه طهران في الآونة الأخيرة إلى تعزيز العلاقات مع الطاجيك؟
يستخدمها الحرس الثوري منذ سنوات .. ما خصائص “أبابيل-2″؟
تُعد مجموعة نماذج الطائرات من دون طيار الإيرانية التي يُطلق عليها اسم “أبابيل” من أهم أنواع “الدرونز” التي تنتجها إيران. وتتشابه “أبابيل” مع مجموعة “الدرونز” الإيرانية الأخرى “مهاجر” من حيث تعدد أنواعها، ولكن الأخيرة تتفوق عليها بقدراتها العملية. وكانت إيران قد بدأت في إنتاج “أبابيل” خلال فترة الحرب مع العراق عام 1986، حيث كان يجري استخدامها آنذاك لمرة واحدة حتى أواخر ذلك العقد، ولم تكن تستطيع حمل أكثر من 40 كيلوجرام من المواد المتفجرة.
وبعد انتهاء الحرب في 1988، بدأت طهران تطوير هذه المجموعة “أبابيل” وخصصت لها خط إنتاج محلي. فقد عملت على تزويدها بجهاز (GPS) وأصبح طيرانها أكثر أمنًا وإقلاعها تلقائيًا، وزودت بقدرات تجعل بالإمكان إرسال المعلومات إلى القاعدة المشغلة لها عبر عدد من القنوات.
وتتم صناعة بعض أنواع “أبابيل”، التي تصل إلى 3 نماذج حتى الآن، من مادة الألومنيوم والبعض الآخر من أكثر من مادة مشتركة معًا، ويُستخدم نوعان من المحركات لها الأول هو نموذج “WAE-342” والثاني “Vanckle Engine P-73”. ومع ذلك، فإن نموذج “أبابيل-2” الذي تم الكشف عنه عام 1999 مزود بمحرك من نوع “P-73”.
وقد أنتجت طهران العديد من نسخ نموذج “أبابيل-2” حتى الآن، وتستخدمها وحدات الجيش الإيراني والحرس الثوري منذ سنوات. ويبلغ ارتفاع طائرة “أبابيل-2” نفسها مترًا واحدًا، بينما يصل طولها إلى 2.8 متر وعرض جناحها 3.25 متر. وتستطيع طائرات “أبابيل-2” الطيران لمدة 1.5 ساعة ولمدى عملياتي يصل إلى 200 كيلومتر. وبإمكان هذه الطائرة أيضًا الطيران حتى ارتفاع 11 ألف قدم عن سطح الأرض وأداء مهام استطلاع وتمشيط داخل مساحة تعادل 770 كيلومتر مربع.
ويتم السيطرة على هذه الطائرة عن بُعد، حيث تستخدم نظام (GPS/INS) الملاحي، وتوظف خصائص التحكم الذاتي. ويدفع حركة هذه الطائرة “أبابيل-2” إلى الأمام “المحرك المتردد/ المكبس الحراري 2 سلندر” ويستهلك وقودًا يصل إلى 5 ليترات لكل 60 دقيقة. ويمكن إطلاق “أبابيل-2” من على متن السفن البحرية والزوارق. وقد استخدمها على هذا النحو الحرس الثوري الإيراني خلال السنوات الماضية.
لماذا افتتحت إيران مصنعًا لإنتاج “أبابيل-2” في طاجيكستان؟
قبل حوالي 3 أسابيع، وافق مجلس النواب الأمريكي على مشروع قانون يقضي بإيقاف عمليات تصنيع الطائرات من دون طيار في إيران. وبموجب ذلك، قالت الولايات المتحدة إن الأفراد الذين يدعمون صناعة هذه الأنواع من الطائرات (الدرونز) في إيران عمدًا سيخضعون للعقوبات. وحصل هذا المقترح على موافقة 424 صوتًا مقابل رفض عضوين فقط. ومن المقرر أن يُطرح على مجلس الشيوخ الأمريكي خلال المرحلة المقبلة.
ومع ذلك، أقدمت إيران وطاجيكستان على افتتاح ذلك المصنع مؤخرًا، وهو ما يمكن تفسير أسبابه على النحو التالي:
- البحث عن مصدر دخل جديد في ظل العقوبات على قطاع النفط:
يمثل افتتاح إيران لذلك المصنع في دوشنبه، بحضور رئيس الأركان العامة للجيش الإيراني محمد باقري ووزير الدفاع الطاجيكي شير علي ميرزا، الحدث الأول من نوعه بالنسبة لها في دولة خارجية. فقد نُشر العديد من التقارير الدولية خلال الأشهر الماضية التي أوضحت أن إيران صدّرت أنواعًا من الطائرات من دون طيار إلى عدد من الدول والجماعات، مثل تلك النشطة على أرض العراق، وإلى الجيش الإثيوبي، كان أبرزها طائرات “مهاجر”.
يعني هذا أن تلك الصادرات الإيرانية لم تكن إلا تجربة أولية لاستعمال هذه الطائرات على أرض الميدان، لتأتي الخطوة التالية ممثلة في إنشاء أول مصنع لها في الخارج يختص بإنتاج “أبابيل-2”. إن تصدير طهران لهذه المعدات العسكرية يهدف بالدرجة الأولى إلى إيجاد مصادر دخل مالية بديلة عن النفط، الذي لطالما يشوب تصديره إلى الخارج حالة من الغموض في ظل فرض عقوبات دولية عليه، أو على الأقل إضافة منبع جديد للعملة الصعبة إلى جانب الطاقة. ولا يخفي بعض المسؤولين الإيرانيين ذلك الأمر عند حديثهم عن استراتيجية مواجهة العقوبات الدولية على إيران.
ولعل لجوءهم إلى تصنيع وتصدير الطائرات المسيرة على وجه التحديد يرجع لسهولة تصنيعها محليًا وتصديرها إلى الخارج. ولكن، حتى الآن يتركز تصدير الطائرات الإيرانية المسيرة إلى الدول الحليفة أو الجماعات الوكيلة، مثل “حزب الله” اللبناني أو “الحوثيين” في اليمن.
- الدعاية العسكرية انطلاقًا من طاجيكستان:
أخذًا في الحسبان سعي إيران إلى لتحول إلى مُصدّر دولي للسلاح حسبما تُطلق بعض وسائل الإعلام المحلية في طهران، فإن إنشاء الأخيرة مصنع “دوشنبه” في طاجيكستان يأتي في سياق الدعاية الإعلامية الخارجية التي ترغب إيران من ورائها في التحول إلى دولة محورية في تصدير السلاح.
ويُلاحَظُ هنا أن طهران تسير بشكل تدريجي في هذا المسار، فقد بادرت في البداية بإرسال طائرات من دون طيار إلى بعض الوكلاء أو الدول الخارجية، ثم تحولت مؤخرًا لإقامة مصنع لإنتاج هذه الطائرات في طاجيكستان؛ أي أنها تريد إرسال رسالة مفادها أنها على استعداد لتصدير الأسلحة إلى أي دولة، خاصة تلك الدول التي لا تربطها علاقاتٌ جيدة بالولايات المتحدة.
- تعزيز التعاون المشترك لمواجهة “طالبان” في أفغانستان:
توظف إيران عملية بيع السلاح في سبيل توطيد علاقاتها مع مختلف الدول. حيث تركز تصدير معداتها العسكرية إلى الدول الحليفة أو الصديقة لها سواء في إقليم الشرق الأوسط أو خارجه.
وفي هذا الإطار، تسعى إيران إلى تنمية مستوى علاقاتها مع دوشنبه ليس على المستوى العسكري فقط، بل وعلى مستويات عدة أخرى اقتصادية وأمنية. وقد تعزز هذا التوجه لدى صانع القرار الإيراني والطاجيكي أيضًا بعد وصول حركة “طالبان” إلى الحكم في أفغانستان في شهر أغسطس 2021. فالبلدان يواجهان تحدياتٍ أمنية وسياسية كبيرة مشتركة منذ ذلك الحين، برغم اختلاف تعاطي البلدين إزاء حركة “طالبان” بعد وصولها للحكم العام الماضي.
فطاجيكستان تتخذ موقفًا عدائيًا واضحًا تجاه “طالبان”، على النقيض من الطرف الإيراني الذي وإن لم يكن راضيًا عن توجهات الحركة إلا أنه يحاول تأمين مصالحه. لذا، فمنذ أغسطس 2021، بدأ المعارضون لـ “طالبان” اللجوء إلى طاجيكستان المجاورة، وكان من بينهم قائد الجبهة الوطنية للمقاومة في ولاية “بنجشير” الأفغانية، أحمد مسعود. ولاحقًا، اتخذ الرئيس الطاجيكي، إمام علي رحمون، قرارًا بتقليد مسعود أعلى وسام شرف، وهو ما أثار حفيظة “طالبان”.
وهنا، يجب الإشارة إلى أبرز عاملين يسببان المخاوف لطاجيكستان بعد وصول “طالبان” إلى الحكم في كابول:
– الأول: المخاوف المشتركة مع إيران بشأن مستقبل قومية الطاجيك في أفغانستان:
فمن المعروف أن “طالبان” تنتمي إلى قومية البشتون القريبة من باكستان منها إلى القومية الفارسية في إيران وطاجيكستان التي ينحدر منها بالأساس الطاجيك الأفغان. ويمثل هؤلاء الطاجيك ثاني أكبر قومية من حيث العدد في جميع أنحاء أفغانستان، وهم بالأساس يرفضون حكم “طالبان” للبلاد.
لذا، يساور طهران ودوشنبه الكثيرُ من المخاوف بشأن مستقبل التعامل “الطالباني” مع الطاجيك في أفغانستان، خاصة مع ورود أنباء عن استعداد جبهة أحمد مسعود للحرب ضد الحركة. وسيعزز توجه الرئيس الطاجيكي إمام علي رحمون ضد “طالبان” الأفغانية تأييد المواطنين في بلاده له بشأن دعمه للطاجيك الأفغان؛ إذ إن هذه المسألة ترتبط بأبعاد قومية أكثر منها أمنية محلية، بجانب أن قرب إجراء الانتخابات الرئاسية في دوشنبه سوف يحفز رحمون على المضي قدمًا في تعاونه مع إيران ضد الحركة.
– الثاني: المتشددون الطاجيك وتهديد حكومة رحمون:
فقد انتقل العديد من المتشددين في طاجيكستان إلى أفغانستان بعد استيلاء حركة “طالبان” على الحكم العام الماضي. وتخشى دوشنبه وحكومة الرئيس رحمون من تعاون هؤلاء المتشددين الطاجيك مع “طالبان” وتهديدهم لطاجيكستان ولحكم رحمون نفسه.
وعليه، يرى الطرفان أن هناك مخاوف بشأن مستقبل الأمن في إقليمهم بعد وصول “طالبان” مرة أخرى للحكم ومستقبل أمن بلادهم ذاتها، علاوة على دعمهم المشترك لقومية الطاجيك المعادية لـ “طالبان” في أفغانستان. ويستلزم هذا بالتالي تطوير التعاون العسكري بين البلدين، والذي يشكل افتتاح مصنع “دوشنبه” لإنتاج الطائرات المسيرة “نقطة عطف” فيه على حد تعبير رئيس أركان الجيش الإيراني باقري.
فامتلاك دوشنبه لهذا النوع من الطائرات قد يساعدها في المستقبل القريب على مواجهة “طالبان” أو حلفائها، خاصة إذا تطور الموقف في أفغانستان إلى حد الحرب التي باتت إحدى أبرز السيناريوهات المطروحة خلال الأيام المقبلة.
- عدم رضاء طاجيكستان عن سياسة تركيا في آسيا الوسطى:
لقد أسهمت طبيعة السياسة التركية في آسيا الوسطى في تقارب طاجيكستان بشكل أكثر مع إيران. فعندما طلبت دوشنبه مؤخرًا الدعم الإقليمي من تركيا في سياق خلافها الحدودي مع قيرغيزستان، أرسلت أنقرة لها بعض المعدات العسكرية التي اشتملت على طائرات من دون طيار. ولكن ما أغضب الطاجيك هنا كان تقديم تركيا أيضًا الدعم لخصم طاجيكستان أي قيرغيزستان، ما جعل الطاجيك مستائين من هذا الموقف التركي، وقادهم في النهاية إلى قبول الدعوات الإيرانية للتقارب الثنائي.
الخلاصة
مع أن الخلافات لا تزال قائمة بين إيران وطاجيكستان بشأن عددٍ من الملفات السياسية، إلا أن التطورات الإقليمية خاصة الممثلة في وصول “طالبان” الأفغانية إلى الحكم قد دفعت الطرفين إلى التقارب سويًا ومحاولة تنحية الخلافات جانبًا. وعلى الرغم من أن قبول طاجيكستان افتتاح إيران مصنع للطائرات المسيرة في العاصمة يجيء في إطار سعيها إلى التنسيق مع إيران بشأن التطورات في إقليم آسيا الوسطى، إلا أن الأجندة الإيرانية على الجانب الآخر تحمل من وراء هذا الافتتاح أهدافًا أخرى تتمثل في محاولة توفير مصدر دخل جديد عن طريق بيع الطائرات المسيرة، وليصبح ذلك المصنع بمثابة دعاية لها.
.
رابط المصدر: