مقدمة
يشهد إقليم (ناغورنو كاراباخ) في أذربيجان مواجهات عسكرية منذ 27 سبتمبر/أيلول 2020 مع القوات الانفصالية والأرمينية، في جولة صراع تعد الأشد والأطول منذ توقيع اتفاق هدنة بين الدولتين عام 1994. وقد تبادلت دولتا أذربيجان وأرمينيا الاتهامات بقصف المدنيين، وتجنيد المقاتلين من خارج دولتيهما على أساس عرقي. وهددت المواجهات بتوسع رقعتها إلى حرب إقليمية ولو بالوكالة، خصوصاً بعد دعم تركيا القوي لأذربيجان في حقها بتحرير أرضها، ومحاولة أرمينيا استغلال موقف تركيا لجر دول إقليمية إلى الصراع ومساندتها بذريعة وضع حد للنفوذ التركي في منطقة القوقاز.
استطاعت أذربيجان في هذه الجولة أن تستعيد بعض مناطقها المحتلة، محدثة مفاجأة في موازين القوى والتكتيكات العسكرية، وخاصة فعالية الطيران المسير الذي حصلت عليه من تركيا.
وفي 7 أكتوبر/تشرين الأول 2020 أعلنت أذربيجان إحباط هجوم أرميني بالصواريخ استهدف خط أنابيب النفط الأذربيجاني عبر جورجيا إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، الذي يبعد نحو 50 كم من جبهة المواجهة.
اتسمت المواقف الدولية بالدعوة إلى وقف الحرب واللجوء للحوار، وبدت مواقف بعض الدول، وفي طليعتها روسيا، مغايرة لما اعتادت عليه أرمينيا على الأقل.
يبحث تقدير الموقف في أبعاد الصراع الأذري الأرميني على إقليم (ناغورنو كاراباخ)، ويستشرف سيناريوهات مستقبله.
خلفية عامة عن الإقليم وخصائصه
يقع إقليم (ناغورنو كاراباخ) داخل الأراضي الأذربيجانية، وتبلغ مساحته نحو 4800 كم2، ويقدر عدد سكانه بنحو 150 ألفاً، ويتكون من خمس محافظات، إلا أن أغلب سكانه من الأرمن وأقلية أذربيجانية. وقد تسبب إعلان الإقليم ذي الأغلبية الأرمينية، عام 1991، الانفصال عن أذربيجان عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، في اندلاع الصراع، وقد اتهمت أذربيجان أرمينيا بدعم الانفصاليين. وأدَّت المواجهات في مايو/أيار 1992 إلى احتلال أجزاء أخرى من أذربيجان، منها ممرّ لاتشين الذي يُعد حلقة الوصل الوحيدة بين كاراباخ وأرمينيا.
تضاريس الإقليم أغلبها جبلية، وفيه أنهار تستغل في إنتاج الكهرباء والري، وموارد الإقليم الاقتصادية محدودة، ويتركز النشاط الاقتصادي على الزراعة وتربية الماشية وبعض الصناعات الغذائية، ومن المحاصيل المشهورة الحبوب والقطن والتبغ.
ابعاد الصراع
تعد دوافع الصراع الأذربيجاني الأرميني على إقليم (ناغورنو كاراباخ) متعددة ومركبة، تتداخل فيها الأبعاد المحلية والثنائية بالإقليمية، وتحفز الصراع ثارات تاريخية وتعقيدات الجغرافيا الجيوسياسية والاقتصادية.
– البعد التاريخي للصراع بين الأرمن والأتراك، الذي يعتبر الأذربيجانيين منهم، حيث تتعمد أرمينيا استحضار الدور التركي كفاعل في تحقيق أذربيجان التقدم العسكري على الأرض، وتستدعي الخصومات التاريخية في محاولة لجر دول أخرى للتدخل مباشرة، وأبرز تلك الدول روسيا.
– البعد الجغرافي: فأرمينيا تحتل، إضافة إلى إقليم (ناغورنو كاراباخ)، خمس محافظات أخرى غربي أذربيجان، منذ أكتوبر/تشرين الأول 1993، إضافة إلى أجزاء واسعة من محافظتي (آغدام) و(فضولي)، وتشكل الأراضي المحتلة نحو 20 بالمئة من أذربيجان، وهو الوضع الذي ما يزال قائماً إلى اليوم بعد التوقيع على اتفاق هشّ لوقف إطلاق النار في مايو/أيار 1994.
– البعد الاقتصادي: يعد أحد الأسباب الرئيسية، فمن ناحية تعمل أذربيجان على زيادة مواردها المالية واستغلال ثرواتها، ومن ناحية أخرى تحاول الأطراف الإقليمية تهديد أنابيب النفط الممتدة إلى تركيا، التي تحاول تقليل اعتمادها على الغاز الروسي والإيراني وتنويع خياراتها بما ينعكس إيجاباً على تقوية قرارها السياسي، كما أنها تحاول أن تمر مصادر الطاقة إلى أوروبا عبر أراضيها ومياهها.
– البعد الجيوسياسي: تعمل إيران وروسيا ودول أوروبا على وضع العراقيل أمام توجهات تركيا إلى إعادة تقوية علاقاتها مع دول القوقاز؛ حتى لا يتوسع نفوذ تركيا.
المواقف الدولية من الصراع
المواقف الدولية تقر في مجملها بحق أذربيجان بإقليم (ناغورنو كاراباخ) المنسجم مع الحدود الجغرافية لها مع أرمينيا والقوانين الدولية، ورغم ذلك فإن بعض الدول تبني مواقفها وفق عوامل وحسابات سياسية واقتصادية أخرى، متوجسة من استفادة تركيا من انتصار أذربيجان في تقوية تواصلها مع دول القوقاز التي تربطها معها ثقافة وعرق مشترك، ومن ثم تمدد النفوذ التركي واستفادته من موارد جديدة في محيط وساحات تلك الدول، وأبرزها إيران وروسيا وفرنسا.
وكانت مجموعة مينسك (OSCE Minsk) قد أُنشئت عام 1992 بهدف التوصل إلى تسوية سلمية للنزاع بين أذربيجان وأرمينيا حول إقليم (ناغورنو كاراباخ)؛ من قِبل مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا (CSCE) الذي غُيِّر اسمه فيما بعد إلى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE)، لكن المجموعة فشلت في تحقيق هدف تأسيسها. وتترأس المجموعة على نحو مشترك كل من روسيا وفرنسا والولايات المتحدة، في حين تضم في عضويتها تركيا وفنلندا وألمانيا وبيلاروسيا وهولندا والسويد والبرتغال وإيطاليا، بالإضافة إلى أرمينيا وأذربيجان.
وسبق لمنظمة التعاون الإسلامي (تضم 57 دولة، ومقرها مدينة جدة السعودية) أن أعلنت رفضها للانتخابات التي أجريت في إقليم (ناغورنو كاراباخ) الأذري، في 31 مارس/آذار 2020؛ لأن أرمينيا تحتله.
تركيا
منذ اليوم الأول للمواجهات العسكرية أعلنت تركيا صراحة وقوفها مع أذربيجان في تحرير أراضيها من الاحتلال الأرميني، معلنة وضع كل إمكاناتها في مساندة أذربيجان، لكونهم ينتسبون إلى عرق واحد، وهم من ثم شعب واحد. وقد جاء موقف المعارضة وكثير من الشعب مسانداً لموقف حكومته، ونظمت بعض المنظمات مسيرات وأنشطة مناصرة لإخوانهم الأذر.
وضعت تركيا كل ثقلها السياسي واللوجستي في تعزيز موقف أذربيجان، وقد برزت في هذه الحرب قدرات الطيران التركي المسير (بيرقدار) في تدمير الأهداف والمعدات العسكرية الأرمينية، مدعومة بمقاطع الفيديوهات التي كشفت حجم الخسائر التي تعرضت لها القوات الأرمينية وأضعفت موقفها.
ولوحظ تصدر وزارة الدفاع التركية لتغطية أخبار المواجهات العسكرية نقلاً عن مصادر أذربيجانية، في إشارة إلى مدى اهتمام تركيا بنتائج الصراع ودعمها لأذربيجان.
وقد أجرى وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو زيارة إلى العاصمة الأذربيجانية (6 أكتوبر/تشرين الأول 2020) لتأكيد دعم بلاده لأذربيجان.
من جانبه جدد الناطق باسم الرئاسة التركية مطالب رئيس أذربيجان، إلهام علييف، بأن على المجتمع الدولي وضع جدول زمني لانسحاب القوات الأرمينية من الأراضي المحتلة.
روسيا
منذ اندلاع الحرب تركز الموقف الروسي على دعوة طرفي الصراع إلى وقف إطلاق النار واعتماد التفاوض، وعلى الرغم من أن روسيا تعد الحليف الرئيس لأرمينيا، ولها قاعدة عسكرية في أرمينيا، فإن الموقف الروسي جاء مغايراً لما اعتادته أرمينيا، التي حرصت منذ بداية هذه الجولة من الصراع على استدعاء التدخل الروسي، في حين أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (7 أكتوبر/تشرين الأول 2020) أن بلاده مستعدة للوفاء بالتزاماتها أمام أرمينيا كحليف، إلا أن الأعمال القتالية لا تجري على أراضيها. جاء ذلك في اتصال أجراه معه رئيس أذربيجان، إلهام علييف.
ويُقرأ الموقف الروسي على أنه رد فعل على تطور علاقة أرمينيا مع الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية، وانشغال روسيا في أكثر من ساحة صراع، وربما تفضيلها استمرار التفاهم مع الأتراك في هذه المرحلة.
إيران
تتعامل إيران مع الصراع الأذربيجاني الأرميني حول إقليم (ناغورنو كاراباخ) بحذر وإدراك لخطورته على أمنها القومي، بناء على بُعدين مهمين؛ الأول داخلي يتمثل في الخشية من انتقال الصراع إلى ما بين الأرمن والأذر الإيرانيين الذين يربطهم عرق مشترك مع الأذريين والأتراك، ويتمتع أرمن إيران بنفوذ رغم محدودية عددهم، وبالمقابل تظاهر أذر إيران مستنكرين موقف بلادهم من الصراع الأذربيجاني الأرميني.
البعد الثاني هو زيادة النفوذ التركي وتقوية الروابط العرقية على حساب التباينات المذهبية، حيث يتبع كثير من الأذر المذهب الشيعي.
وقد أعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية أن بلاده أعدت مقترحاً لحل الأزمة بين أذربيجان وأرمينيا وتتشاور معهما بشأنه.
وتجدر الإشارة إلى أن النموذج السياسي الأذربيجاني أقرب للنموذج التركي ويختلف عن النموذج الإيراني (ولاية الفقيه)، رغم أن الأغلبية في أذربيجان وإيران تتبع المذهب الشيعي، وهو ما يعني أن نموذج أذربيجان السياسي سيكون ملهماً للشيعة على حساب النموذج الإيراني، ولو بمستويات محددة.
الموقف الغربي
يأتي في طليعة مواقف الدول الغربية موقف فرنسا، التي هي إحدى دول مجموعة مينسك، التي عجزت أو تجنبت الضغط لحل الصراع، أو الضغط على أرمينيا للانسحاب من الأراضي الأذربيجانية التي تحتلها. وينعكس سوء علاقات فرنسا مع تركيا على موقف الأولى من الصراع، حيث تنحاز فرنسا لأرمينيا على حساب حقوق أذربيجان المعترف بها دولياً؛ فقد قال وزير الخارجية الفرنسي جان-إيف لودريان، أمام لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الوطنية (البرلمان) بخصوص النزاع في إقليم ناغورنو كاراباخ: إن هناك “(…) تدخلاً عسكرياً لتركيا، مما قد يؤدي إلى تدويل الصراع”.
ودعت فرنسا والولايات المتحدة وروسيا، في بيان مشترك، إلى وقف إطلاق النار في إقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه بين الجانبين الأذربيجاني والأرمني في أسرع وقت ممكن.
وفي حين بدا الموقف الأمريكي محدوداً وكأنه متأثر بحالة الانشغال الداخلي بانتخابات الرئاسة، دعا وزير خارجية ألمانيا، هايكو ماس، أذربيجان إلى القبول بهدنة بعدما وافقت أرمينيا عليها.
الموقف العربي
مواقف الدول العربية حاولت أن تمسك العصا من المنتصف، فالسعودية أكدت أنها تتابع التطورات بين أرمينيا وأذربيجان بـبالغ القلق، حاثة الطرفين على وقف إطلاق النار وحل النزاع وفقاً لقرارات مجلس الأمن. وعلى ذات السياق جاء الموقف المصري الذي حث كل الأطراف على الحوار من أجل الوصول إلى تسوية بالطرق السلمية وفقاً لمقررات الشرعية الدولية. أما قطر فقد أجرى أميرها، تميم بن حمد آل ثاني، اتصالات بالرئيسين الأذربيجاني والأرميني، ودعا الطرفين إلى “تهدئة الأوضاع والعمل على حل الخلاف بين البلدين عبر الحوار والطرق الدبلوماسية، بما يحفظ مصالح البلدين والشعبين”.
من جهة أخرى بدت مواقف وسائل الإعلام العربية منقسمة في هذه الجولة وفقاً لطبيعة علاقات دولها مع تركيا، حيث انعكست ميولها في تغطيتها للصراع وإبراز المواقف، فتبنى بعضها موقف أرمينيا والأخرى أذربيجان، أما أغلب المواقف الشعبية (العربية) فقد انحازت إلى أذربيجان.
حالة التراجع في المواقف العربية الرسمية تجاه القضايا العربية والإسلامية قد تنعكس سلباً مستقبلاً على مكانة الدول العربية، وضعف مناصرة الدول والشعوب الإسلامية للقضايا العربية.
السيناريوهات
يتضح من خلال الصراع الأذربيجاني الأرميني مدى التعقيد فيه، على المستوى الثنائي والإقليمي والدولي، بسبب تقاطع المصالح، ومحدودية الخيارات في هذه الجولة، ولذلك يمكن استشراف مستقبل الصراع في سيناريوهين رئيسين قد تؤثر فيهما متغيرات فرعية.
السيناريو الأول: استمرار الحرب
يفترض هذا السيناريو استمرار الحرب بين أذربيجان وأرمينيا، حيث يحاول الطرفان فرض إرادتهما على الأرض وتثبيت مكتسباتهما، فمن جهة تسعى أذربيجان إلى تحرير أرضها مدعومة بالشرعية الدولية وفارق الإمكانات التي توفرت لها خلال الفترة الماضية وأعطتها أفضلية مقدرة، ومن جهة أخرى تحاول أرمينيا دفع المجتمع الدولي لتغيير موقفه من احتلالها للإقليم بحجة تمكين المقيمين فيها من تمثيل إقليمهم والاعتراف بكيانهم.
يدعم هذا السيناريو العداوات التاريخية وحالة التحشيد العرقي لطرفي الصراع، وصعوبة التسوية؛ نظراً لوجود الإقليم ذي الأغلبية الأرمينية داخل الأراضي الأذربيجانية، وكذلك توقع استمرار تركيا في دعم خيار أذربيجان العسكري، وتوفيرها الغطاء السياسي واللوجستي بهدف تحقيق مكاسب على الأرض كخيار إجباري، وفرض تغيير معادلات التفاوض بما يحافظ على سيادة أذربيجان على أراضيها المحتلة من قبل أرمينيا كخيار آخر.
يضعف هذا السيناريو طول الصراع واستحالة حسمه، وأن الصراع ونتائجه في هذا المنطقة لمصلحة تركيا، وهو ما يدفع بالدول المحيطة والمناوئة للنفوذ التركي إلى محاولة فرض وقف إطلاق النار، ولو بدعم أرمينيا سياسياً وحتى عسكرياً، وفي طليعة هذه الدول روسيا وفرنسا واليونان وإيران، وهو ما ينعكس سلباً على مستقبل الصراع، وينقله إلى حرب بالوكالة.
السيناريو الثاني: التوصل إلى تهدئة
يتوقع هذا السيناريو “المرجح” أن تضطر الدولتان، وخصوصاً أذربيجان ومن ورائها تركيا، إلى القبول بوقف إطلاق النار في مرحلة لاحقة، بناء على أن هذه المرحلة قد حققت هدفها، من خلال استعادتها بعض المناطق المحتلة ودفع المواقف الدولية للضغط على أرمينيا لإيجاد تسوية عادلة، وبوادر ذلك دعوة رئيس وزراء أرمينيا لتقديم تنازلات مشتركة.
ينطلق هذ السيناريو من فرضية صعوبة تمكن أذربيجان من إنهاء الاحتلال الأرميني لأراضيها خلال العمليات العسكرية الراهنة، أو على المديين القريب والمتوسط، نظراً لعدة عوامل، أبرزها اتساع جغرافية الأراضي المحتلة، التي تعادل 20% من أراضي أذربيجان، وتثبيت أرمينيا لوجودها في تلك المناطق، إضافة إلى تعدد الداعمين الدوليين لأرمينيا، وغياب الفارق الكبير في الإمكانيات اللوجستية التي يمكن أن تحقق مكاسب على الأرض، في مقابل وجود مقاومة وتعبئة رسمية وشعبية أرمينية.