محمد قواص
يُراقِب لبنان، بسياسييه ومختلف فئاته، التحوّلات الجارية في المنطقة، وما قد ينتج عنها من تداعيات تفتح الباب أمام إيجاد حلّ للانسداد السياسي في هذا البلد. وتسعى هذا الورقة إلى قراءة ما يمكن أن يحمله الاتفاق السعودي الإيراني برعاية الصين، تحديداً، من عوامل جديدة تؤثر على حالة المراوحة القائمة في لبنان، كما تُحلل تداعيات عودة سورية إلى جامعة الدول العربية على التوازنات اللبنانية. وتطرح الورقة سيناريوهات محتملة لمآلات أزمة لبنان السياسية، تأخذ بعين الاعتبار مواقف القوى الدولية المهتمة بالشأن اللبناني.
لبنان إزاء الاتفاق السعودي-الإيراني والتقارب العربي مع دمشق
يشكل الاتفاق السعودي-الإيراني الذي أُبرم برعاية الصين في بيجين، في 10 مارس الماضي، عاملاً مستجدّاً على الأزمة السياسية والاقتصادية في لبنان. وعلى الرغم من عدم وضوح المداولات التي أدت إلى هذا “الاتفاق التاريخي” بين الرياض وطهران، وعدم إمكانية استنتاج مفاعيله وتداعياته على ملفات النزاع الإقليمي، بما فيها ملف لبنان، فإن التيارات السياسية اللبنانية المتعارضة فسَّرت الاتفاق واستخلصت عِبَره بما يتناسب مع أهوائها الخاصة.
فمثلاً، يعتقد التحالف الذي يقوده حزب الله أن هذا الاتفاق يُعزز فرضياته بخصوص النفوذ الإيراني في لبنان، ويُقوّي خيارات الحزب في التأثير على المستقبل السياسي للبلد، خصوصاً لجهة انتخاب رئيس جديد للجمهورية لم يستطع مجلس النواب اللبناني، خلال جلسات متعددة، من انتخابه خلفاً للرئيس السابق ميشال عون الذي انتهت ولايته في نهاية أكتوبر 2022. وبشكل أساسي، تقوم رؤية حزب الله والتيارات السياسية اللبنانية المتحالفة معه على فرضية أن في ثنايا اتفاق بيجين مقايضة تُسهّل وفقها إيران الوصول إلى تسوية في اليمن مقابل السماح بتسويةٍ لبنانيةٍ ما تكون مرجّحة لخيارات طهران وحزب الله الموالي لها في لبنان. وعلى الرغم من غياب أي مؤشّرات حقيقية ودلائل حسّية تدعم هذه المقاربة، فإن هذا المعسكر السياسي لا يزال يرى في “الوفاق” السعودي الإيراني، وفي استعادة سورية مقعدها داخل جامعة الدول العربية، ما يدعم افتراضاته الخاصة حول نتائج اتفاق بيجين.
بدورهِ، شكّل تطوّر العلاقات العربية مع النظام السوري عاملاً جديداً آخر أنعش آمال حلفاء دمشق في لبنان باستعادة النفوذ والامتيازات التي كانوا يمتلكونها في مرحلة “الوصاية” التي امتدت في مراحل مختلفة من التدخل العسكري السوري في لبنان الذي بدأ عام 1976. وعلى الرغم من انسحاب القوات السورية من لبنان إثر اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري عام 2005، فإن حلفاء دمشق، لاسيما الذين ثابروا على زيارة العاصمة السورية وتأكيد استمرار تحالفهم معها، بقوا مُعوّلين على عودة النفوذ السوري إلى بلدهم.
ومع أن القوى السياسية اللبنانية على اختلاف مشاربها كانت تراقب، بقلق من جهة وترحيب من جهة ثانية، خطوات دول عربية للتقارب مع النظام في سورية وتنشيط العلاقات الدبلوماسية مع دمشق خلال السنوات الأخيرة، غير أن التحوّل السعودي بصدد العلاقات مع سورية، خصوصاً في الفترة التي تلت إبرام الاتفاق السعودي-الإيراني، قد حضّر لبنان لتوقّع تداعيات لهذا التطوّر على موازين القوى السياسية في البلد.
وقد تراوحت ردود الفعل على هذا التحوّل بين التشكيك والامتعاض عند البعض؛ وبين الترحيب والاغتباط لدى البعض الآخر. وبدا أن لبنان راح يقيس الأمور بجديّة منذ دعوة السعودية وزير الخارجية السوري فيصل المقداد لزيارة المملكة؛ فزار جدّة في 12 أبريل الماضي، وما تلا ذلك من زيارة لنظيره السعودي فيصل بن فرحان إلى دمشق في الـ 20 من نفس الشهر. وقد عوّلت القوى السياسية اللبنانية المعارضة لدمشق على اعتراض بعض الدول العربية على عودة سورية إلى جامعة الدول العربية لتعطيل التطبيع العربي الشامل مع النظام في سورية، وعدم دعوته لحضور القمّة العربية. غير أن الاجتماع التشاوري لبحث مسألة العلاقات العربية مع دمشق الذي حضره وزرارء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى نظرائهم من مصر والعراق والأردن، في جدة في 15 أبريل الماضي، كما الاجتماع الذي عقده نفس الوزراء بهذا الشأن إضافة إلى نظيرهم السوري في عمّان في الأول من مايو، قد انتهيا إلى تفاهمات هيأت لقرار صدر عن جامعة الدول العربية في 7 مايو باستئناف دمشق أنشطتها السياسية كاملة داخل الجامعة، ما قاد لاحقاً إلى دعوة الرئيس السوري وحضوره لأعمال القمّة العربية التي انعقدت في جدّة برئاسة السعودية في 19 من نفس الشهر.
المشهد السياسي اللبناني في ظل المتغيرات الأخيرة
يُعدُّ كلٌّ مِن حدثي الاتفاق السعودي-الإيراني، وإعادة دمج دمشق في “الحضن العربي”، تطوّرين لافتين في لبنان، بسبب ما تملكه دمشق وطهران من نفوذ وتحالفات قد تؤدي إلى تقوية حظوظ مرشح الحلف الإيراني-السوري في لبنان للوصول إلى سدة رئاسة الجمهورية اللبنانية. ولا يزال حزب الله وحركة أمل، أو ما يطلق عليهما اسم “الثنائي الشيعي”، يدعمان ترشُّح زعيم تيار المردة سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية. وفرنجية حليف لـ “الثنائي”، ولطالما أكد ارتباطه بالنظام السوري وامتلاكه صداقة شخصية مع الرئيس الأسد. وتعود علاقة عائلة فرنجية في لبنان وعائلة الأسد في سورية إلى جد المرشح فرنجية، رئيس الجمهورية الراحل سليمان فرنجية.
غير أن الوقائع تتحدث عن معطيات مضادة لا تذهب، حتى الآن، لصالح المرشح فرنجية. فتحالف حزب الله لا يملك الأكثرية البرلمانية التي تُمكِّنه من فرض مرشحه رئيساً للبنان، ناهيك من أن فرنجية لا يحظى بغطاء ميثاقي مسيحي بسبب رفض جلّ التيارات السياسية المسيحية لترشحه، بما فيها “التيار الوطني الحر” المتحالف مع حزب الله، والذي أسّسه الرئيس السابق ميشال وعون ويرأسه حالياً صهره الوزير الأسبق جبران باسيل. كما أن التيارات اللبنانية الأخرى المعارضة للحزب ما زالت متدثّرة بموقف سعودي لا يزال بعيداً عن تسهيل انتخاب فرنجية.
واستمر الموقف السعودي على حاله حتى بعد اتفاق بيجين. وتسرَّب أن الرياض رفضت الخطة الفرنسية التي طُرِحَت في اجتماع ثلاثي على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، في 22 سبتمبر 2022، واكتفى المجتمعون ببيان يحثّ لبنان على انتخاب رئيسه. كما شهدت باريس عدة اجتماعات سعودية فرنسية تطورت إلى اجتماع أوسع شارك به ممثلون عن الرياض وباريس وواشنطن والقاهرة والدوحة في 9 فبراير الماضي، فيما يُنتظر أن يلتئم الاجتماع الخماسي في العاصمة القطرية قريباً للتداول في سيناريوهات من شأنها مساعدة لبنان وسياسييه على تجاوز الانسداد الحالي، ودفعهم للتوافق على انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
وبقي الموقف السعودي الذي عبَّر عنه كلٌّ من وزير الخارجية السعودي، وسفير المملكة في لبنان وليد البخاري، يؤكد حياد الرياض بشأن اختيار اللبنانيين لرئيسهم. وقد جال البخاري على كثير من القيادات السياسية في لبنان، واستقبل قيادات أخرى، بمن فيهم مرشح تحالف حزب سليمان فرنجية. غير أن زيارة السفير السعودي منافس فرنجية، مرشح بعض التيارات المناوئة لحزب الله ميشال معوّض، وطبيعة المواصفات التي تتمناها السعودية لرئيس لبنان، يعكسان عدم رغبة السعودية في إعطاء أي غطاء يدعم ترشُّح فرنجية.
وكانت الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى لبنان، بين 26 و28 أبريل الماضي، لافتةً، إذ أعلن فيها عدم تدخل بلاده في شأن اختيار اللبنانيين لرئيسهم، ودعم توافقهم على نحو ما أظهرهُ الموقف السعودي. وسبق للسفير الإيراني في لبنان، مجبتي أماني، أن تبنّى في 11 مارس الماضي في تغريدة موقف وزير الخارجية السعودي، وعدَّهُ موقف الجمهورية الإسلامية بشأن مقاربة الأزمة اللبنانية. وكان الوزير السعودي قد صرَّح في نفس اليوم أن “لبنان يحتاج إلى تقارب لبناني وليس لتقارب إيراني سعودي”.
وعكست زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى دمشق، في 3 مايو، أجواءً جديدة داخل التحالف الإيراني-السوري من المتوقع أن يكون لها تداعيات على التوازنات اللبنانية. جاء توقيت الزيارة قبل أيام من إعلان جامعة الدول العربية عودة دمشق إلى صفوفها، وقبل أسبوعين من توجه الرئيس الأسد إلى جدّة لحضور القمة العربية. ووقعت خلال هذا اتفاقات جديدة عُدَّت استراتيجية في علاقات البلدين. وعلى الرغم من أن زيارة رئيسي كانت سُورية الطابع والأجندة، فإن الحدث ألقى بظلاله على واقع لبنان ومستقبل تأثّره بتحالف طهران ودمشق الذي لا يبدو أن عودة سورية إلى جامعة الدول العربية ستخفف من واقعه.
ومع أن حزب الله يسعى إلى الضغط على بقية الجماعات السياسية، بما فيها التيار الحليف الذي يتزعمه جبران باسيل، فإن أسئلة تدور حول ما إذا كان طرح اسم فرنجية هو مجرد مناورة يقوم بها الحزب لتقوية أوراقه على طاولة تسوية لإنتاج رئيس آخر. ويُعتَقد في هذا الصدد، ووفق ما يصدر عن المنابر الرسمية والسياسية والإعلامية الإيرانية، أن طهران جديّة في الالتزام باتفاق بيجين مع السعودية، وأنها لن تدعم في هذه المرحلة خيارات سياسية في لبنان تتعارض مع الخيارات السعودية في هذا البلد. غير أن المناورة العسكرية التي نفَّذها حزب الله في 21 مايو، في بلدة عرمتي على بعد 20 كيلومتراً من “الخط الأزرق” الفاصل بين لبنان وإسرائيل، على الرغم من رسائلها التقليدية باتجاه إسرائيل، قد أثارت أسئلة بشأن الرسائل المرتبطة بخيارات الحزب الداخلية عامة، والرئاسية خاصة.
إضافة إلى هذه التطورات، تعمل قطر من خلال وفود سياسية وأخرى أمنية زارت لبنان على المساهمة في استكشاف وجهات النظر اللبنانية ثم الدفع باتجاه الالتقاء حول خياراتٍ رجَّحت معلومات أنها قد تكون لصالح قائد الجيش جوزيف عون. ومع أن ثمة مَن يفترض أن تحركات قطر تجري بالتنسيق مع السعودية في ملف لبنان، لاسيما أن الدوحة باتت عضواً في اللقاء الخماسي الدولي الإقليمي بشأن لبنان، والذي التأم في باريس ومن المقرر التئامه في الدوحة في يونيو الجاري، غير أن مصادر لبنانية شككت في مسألة تنسيق أعمال الوفود مع السعودية.
السيناريوهات المحتملة
بناء على ما هو متوفّر من معطيات داخلية، وما استجد من تطورات خارجية، فإن استشراف مستقبل الأزمة الرئاسية اللبنانية يدور حالياً حول سيناريوهات ثلاثة رئيسة:
الأول، بقاء لبنان من دون رئيس للجمهورية على أن تُصرّف أعمال حكومته الحكومة الحالية برئاسة نجيب ميقاتي، وبحيث تستمر القوى السياسية في التعايش لإدارة البلد وتجنّب انحدار وضعه إلى درك كارثي. ويعوّل هذا السيناريو على استمرار الدول المانحة، العربية والأجنبية، في إرسال الدعم الإنساني، أخذاً في الاعتبار وجود عدد كبير من اللاجئين السوريين أيضاً في الأراضي اللبنانية، في ظل غياب تسوية سياسية تنتج سلطة في لبنان تثق تلك الدول بها لضخّ الدعم الدولي المشروط بالإصلاحات التي وضعها صندوق النقد الدولي.
الثاني، حصول تسوية دولية إقليمية تدعم خططاً يُنتخب فيها سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية مقابل تعيين رئيس حكومة يكون ممثلاً للتيارات السياسية المعارضة لحزب الله. وسبق أن سوَّقت فرنسا هذا السيناريو باقتراح تعيين نواف سلام، وهو قاض عمل في محكمة العدل الدولية وشغل سابقاً منصب سفير لبنان في الأمم المتحدة، رئيساً للحكومة ممثلاً للمعسكر المعارض لحزب الله مقابل انتخاب فرنجية مرشح الحزب رئيساً للجمهورية. وعلى رغم أن فرنسا عادت وأكدت في 20 أبريل، بعد تعثُّر ما تسوّقه ورفض الأمر من داخل لبنان وخارجه، عدم وجود مرشح لديها لرئاسة الجمهورية اللبنانية، غير أن هذا السيناريو لا يزال متداولاً ولم يخرج من دوائر البحث.
الثالث، التوصل إلى تسوية من نوع آخر تأتي بشخصية حيادية طالما طالب بها البطريرك الماروني بشارة الراعي، وتيارات سياسية مناوئة لحزب الله. ويقوم هذا السيناريو على موافقة حزب الله وحلفائه على اسم رئيس محايد يحظى بقبول الفرقاء، وسبق أن تردد اسم قائد الجيش العماد جوزيف عون، مع العلم أن أسماء أخرى طُرحت قد تكون بديلاً (كان آخرها الوزير السابق جهاد أزعور، الذي أعلنت المعارضة اللبنانية رسمياً، في 4 يونيو، ترشيحه لشغل هذا المنصب). ويقوم هذا السيناريو أيضاً على حقيقة أن الدول المانحة، كما صندوق النقد والبنك الدوليين، ما برحوا يطالبون بشخصية يمكن الوثوق بها تكون بعيدة عن المنظومة السياسية الراهنة، بما يُشجِّع المانحين على إعادة ضخّ الأموال لانتشال لبنان من أزمته الاقتصادية التاريخية.
استنتاجات
مع أن قابلية تأثُّر لبنان بالتحوّلات الإقليمية، لاسيما الاتفاق السعودي الإيراني، وعودة سورية إلى الجامعة العربية، تبدو عالية، نتيجة ما لطهران ودمشق والرياض من نفوذ مباشر لدى التيارات السياسية اللبنانية، لكن لم تظهر حتى الآن مفاعيل هذه التحوّلات على الداخل اللبناني، وما يمكن أن تنتجه من تسويات لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، تحديداً.
وفي المحصلة، لم يلمس لبنان إلا مواقف سعودية إيرانية تؤكد حيادهما في مسألة الرئاسة، ودعمهما توافق اللبنانيين في هذا الشأن، ما يعكس حرص الرياض وطهران على عدم المسّ بالتوازنات والتفاهمات التي صدرت في بيان اتفاق البلدين في بيجين، وحرصهما على عدم ترسيخ حالة التنافر داخل المشهد السياسي اللبناني.
ومن المتوقع أن تنعكس التحولات الإقليمية، التي قد تحتاج بعض الوقت حتى تأخذ مداها، على أجواء المداولات الدولية التي تشارك بها فرنسا والولايات المتحدة تمهيداً لإيجاد تفاهمات خارجية يُمكِن أن تضغط على الداخل اللبناني لإنهاء الشغور في موقع الرئاسة في هذا البلد. ومن الممكن أن تظهر توافقات ما في الاجتماع الخماسي الإقليمي الدولي الخاص بلبنان والمنتظر عقده قريباً.
.
رابط المصدر: