في خضم الحرب الجارية على الساحة الأوكرانية، والتي حملت تداعيات سلبية هائلة تجاوزت الحدود الأوكرانية وطالت أغلب –إن لم يكن كل– دول العالم، بما فيها الولايات المتحدة؛ أعلنت شركة “لوكهيد مارتن” الأمريكية، في 9 مايو الجاري، أنها تعتزم مضاعفة إنتاج صواريخ “جافلين” التي أثبتت نجاحها في مساعدة الجيش الأوكراني على التصدي للتصعيد العسكري الروسي. الأمر الذي يعني أن الحرب الروسية الأوكرانية لم تحمل فقط المزيد من الضغوط على الاقتصاد الأمريكي الذي يصارع للتعافي بعد الموجات المتتالية من جائحة كورونا، وإنما حملت في ذات الوقت نوافذ وفرصًا لدعم وتعزيز صناعة الأسلحة الأمريكية.
صناعة الأسلحة…شبكة مصالح ودائرة نفوذ:
يبدو أن صناعة السلاح قد هيمنت على السياسة الخارجية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، وقد أثبتت في أكثر من مناسبة أنها طوق النجاة للاقتصاد الأمريكي؛ إذ إن تجارة السلاح أضحت ضمن أكثر السلع تأثيرًا في حراك الاقتصاد العالمي. وتعد الولايات المتحدة حاليًا دولة الإنتاج والتصدير الأولى. وارتباطًا بذلك، تظهر صناعة السلاح الأمريكية -في المناسبات المختلفة– في صورة “المنقذ” من الأزمات الاقتصادية الذي بإمكانه تجاوز حالة الركود وارتفاع معدل البطالة واضطراب مناخ الأعمال.
إن توسع صناعة السلاح وتطورها أدي إلى نمو ما يسمى “المجمع العسكري –الصناعيMilitary–industrial complex” الذي يضم الشبكة الكاملة للعقود وتدفقات الأموال والموارد بين الأفراد والشركات والمؤسسات لمقاولي الدفاع والمتعاقدين العسكريين الخاصين و”البنتاجون” و”الكونجرس” والإدارة. وقد سمحت سياسة “الباب الدوار Revolving Door”، أي الانتقال في المناصب بين شركات الأسلحة والمناصب الحكومية بزيادة تأثير هذا اللوبي على السياسة الأمريكية؛ فعلى سبيل المثال، كان وزير الدفاع الحالي “لويد أوستن” عضوًا في مجلس إدارة شركة Raytheon (التي تعد واحدة من خمس شركات تصنيع أسلحة أمريكية تهيمن على صفقات الأسلحة الرئيسية في العالم) قبل انضمامه إلى الإدارة.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الرئيس الأمريكي “دوايت أيزنهاور” قد تنبه إلى خطورة هذا اللوبي؛ إذ قال في خطاب له عام 1958: “علينا ألا نسمح لهذا للتجمع الصناعي العسكري بأن يهدد حياتنا وديمقراطيتنا”. ويُطلق على التوجه القائم على زيادة الإنفاق العسكري لتحفيز النمو الاقتصادي مصطلح “الكينزية العسكرية”.
وفقًا لبيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، يشهد الإنفاق العسكري على مستوى العالم تزايدًا كبيرًا وصل إلى 2113 مليار دولار؛ كانت أكبر خمسة منفقين في عام 2021 هي الولايات المتحدة والصين والهند والمملكة المتحدة وروسيا، حيث شكلوا معًا 62 في المائة من الإنفاق. وقد بلغ الإنفاق العسكري الأمريكي 801 مليار دولار في عام 2021، بانخفاض 1.4 في المائة عن عام 2020. كما ارتفع التمويل الأمريكي للبحث والتطوير العسكري (R & D) بنسبة 24 في المائة بين عامي 2012 و2021.
وطبقًا لتقرير معهد ستوكهولم (SIPRI) حول أفضل 100 شركة منتجة للأسلحة والخدمات العسكرية لعام 2020، تملك الولايات المتحدة أكبر عدد من الشركات (41 شركة) المصنفة ضمن أفضل 100 شركة في جميع أنحاء العالم. وقد استحوذت هذه الشركات على 54 في المائة من مبيعات الأسلحة المجمعة لأفضل 100 شركة. منذ عام 2018، كانت جميع شركات الأسلحة التي تحتل المراتب الخمسة الأوائل في التصنيف موجودة في الولايات المتحدة الأمريكية.
وارتباطًا بذلك، احتلت شركة “لوكهيد مارتن” المرتبة الأولى منذ عام 2009؛ وفي عام 2020، بلغ إجمالي عائداتها من مبيعات الأسلحة والخدمات العسكرية 58.2 مليار دولار أو 11 في المائة من إجمالي مبيعات الأسلحة في أفضل 100 شركة. وتحتل “رايثيون تكنولوجيز” المرتبة الثانية في ترتيب أكبر شركات الأسلحة في العالم؛ إذ بلغت مبيعات الأسلحة 36.8 مليار دولار.
واحتلت شركة “بوينج”، إحدى أكبر الشركات المصنعة للطائرات العسكرية في العالم، المرتبة الثالثة بمبيعات وصلت إلى 32.1 مليار دولار. أما شركة “نورثروب جرومان”، فقد احتلت المرتبة الرابعة بمبيعات أسلحة بلغت 30.4 مليار دولار. واحتلت شركة “جنرال دايناميكس” المرتبة الخامسة بمبيعات أسلحة بلغت 25.8 مليار دولار، أي ما يعادل 4.9 في المائة من إجمالي مبيعات الأسلحة لأفضل 100 شركة. ومن ثم، يتضح أن صناعة السلاح الأمريكية تتمتع بقوة ضخمة تمكنها من التأثير بل وتوجيه بعض السياسات لصالحها.
وفي هذا السياق، أفاد تقرير لموقع Open Secrets، بأن خمسة من أكبر مقاولي الدفاع في البلاد (“لوكهيد مارتن”، و”بوينج”، و”نورثروب جرومان”، و”رايثيون تكنولوجيز”، و”جنرال دايناميكس”) قد أنفقوا 60 مليون دولار في عام 2020 للتأثير على السياسة. وأوضح أيضًا أن هناك روابط قوية بين الإدارة الأمريكية وصناعة الأسلحة؛ ففي عام 2020، عمل 73% من أعضاء جماعات الضغط البالغ عددهم 663 موظفًا في شركات الدفاع بالحكومة الفيدرالية، وهي أعلى نسبة مقارنة بأي صناعة أخرى. مضيفًا أن ما يسمى بـ “الباب الدوار” موجود أيضًا في الكونجرس؛ إذ يعمل عدد كبير من الموظفين لصالح أعضاء في لجان القوات المسلحة والعلاقات الخارجية بمجلسي النواب والشيوخ أو اللجان الفرعية لمخصصات الدفاع، وضمن جماعة ضغط لشركات الدفاع في ذات الوقت أو بشكل تتابعي.
نوافذ الاستفادة من الحرب الجارية
قال “لي هايدونج”، الأستاذ في معهد العلاقات الدولية بجامعة الشؤون الخارجية الصينية، لصحيفة “جلوبال تايمز”، إن “شن حروب دامية هو الدافع وراء بقاء المجمع الصناعي-العسكري الأمريكي، وهو مدفوع أيضًا بأن يؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار والفوضى في العالم.” الأمر الذي يعني أن الحروب تعد منافذ دعم قوية لصناعة السلاح الأمريكية انطلاقًا من كونها دافعًا باتجاه زيادة التصنيع من جانب، ومعززًا لتجارة السلاح من جانب آخر؛ إضافة إلى كون ساحات الحروب ميادين لاختبار واستعراض الأسلحة الحديثة.
ويبدو في هذا الإطار أن الحرب الروسية الأوكرانية ليست استثناءً؛ فعلى الرغم من الضغوط الاقتصادية الكبيرة التي تواجهها الولايات المتحدة، والتي دفعت بالتضخم إلى أن يصل إلى أعلى مستوى له منذ 40 عامًا، إلا أن الحرب تحمل في ذات الوقت فرصة لتحقيق مكاسب كبرى لــــــ”المجمع العسكري – الصناعيMilitary–industrial complex”.
بعد يومين من الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، ومع اتجاه المسؤولين الأمريكيين إلى التأكيد على إنهاء الحروب الأمريكية التي استمرت لعقود، صوتت لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب –على غير المتوقع- على تحديد ميزانية الدفاع لعام 2022 بزيادة وصلت إلى 24 مليار دولار. تلك الزيادة من المرجح استغلالها في خضم الحرب الروسية الأوكرانية الجارية، خاصة مع اتجاه واشنطن لتكثيف الدعم العسكري المقدم إلى أوكرانيا من جانب، وتعزيز قوة حلفاء “الناتو” بشكل عام، وفي أوروبا الشرقية بشكل خاص، من جانب آخر.
بعبارة أوضح، فإن التهديدات الكبيرة التي تواجهها أوروبا حاليًا بسبب الحرب قد أدت إلى هواجس أمنية دفعت الدول الأوروبية إلى تعزيز دفاعاتها؛ الأمر الذي يعني في مضمونه فرص تزايد مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى أوروبا. فعلى سبيل المثال، ووفقًا لمصادر حكومية أمريكية تحدثت لوكالة “رويترز”، قررت ألمانيا شراء طائرات من طراز “إف-35” من صنع شركة “لوكهيد مارتن” لتحل محل طائرة “تورنادو” القديمة. وأفادت بعض الأنباء نقلًا عن مسؤول حكومي بولندي قوله إن وارسو تريد على عجل شراء أنظمة “ريبر” المتطورة للطائرات المسيرة من الولايات المتحدة.
وفي سياق موازٍ، تعمل الصراعات –بشكل عام– كمختبرات لتقنيات الأسلحة الناشئة التي تحمل قدرًا أكبر من الدعاية نتيجة التغطية الإعلامية الكثيفة للبؤر الساخنة. مثل: استخدام قنبلة الانفجار الجوي ذات الذخائر الضخمة (موآب)، المعروفة باسم “أم القنابل”، في أفغانستان لاستهداف عدد صغير من مقاتلي “داعش”. وفي خضم الحرب الجارية، أصبح لدى شركات الأسلحة الأمريكية مساحة أكبر لاستغلال الساحة الأوكرانية المشتعلة للترويج والدعاية لبعض التقنيات والأسلحة الجديدة، الأمر الذي سيسهم في زيادة مبيعاتها حول العالم وليس في أوروبا فقط.
وارتباطًا بذلك، أعلنت شركة “لوكهيد مارتن” أنها تعتزم مضاعفة إنتاج صواريخ “جافلين” المضادة للدبابات، والتي أثبتت نجاحها في مساعدة الجيش الأوكراني في التصدي للتصعيد الروسي. وأوضح “جيمس تايكليت”، الرئيس التنفيذي للشركة، في تصريحات لشبكة “سي بي أس نيوز” إن شركته تهدف إلى مضاعفة الإنتاج حتى يصل إلى 4 آلاف صاروخ سنويًا؛ مشيرًا “إلى أن الشركة تتوقع زيادة الطلب على تلك المنظومة المتطورة، والتي تسمى بـ”كابوس المدرعات”، بكميات كبيرة”، ومتوقعًا أن يزداد الطلب على منتجات الشركة بسبب التهديدات المتزايدة لروسيا والصين.
هذا، وقد قام الرئيس “جو بايدن”، خلال النصف الأول من مايو الجاري، بزيارة منشأة تابعة للشركة في ولاية ألاباما التي تصنع منظومة صواريخ “جافلين” بالتعاون مع شركة “رايثيون تكنولوجيز”. وأطلق خلال هذه الزيارة بعض التصريحات الدعائية دعمًا لهذه الشركات، قائلاً إن “بعض الآباء الأوكرانيين قد سموا أطفالهم باسم ذلك الصاروخ…..أسماء مثل جافلين وجافلينا”.
وعلى الرغم من الحديث عن تواضع المكاسب التي ستحصل عليها شركات الأسلحة الأمريكية حتى الآن، إلا أنها قد تشهد زيادة كبيرة في المستقبل. فقد ذكر “جريج هايز”، الرئيس التنفيذي لـشركة “ريثيون”، أن “ارتفاع مستوى التوترات في آسيا والشرق الأوسط وأوروبا الشرقية سيؤدي إلى ازدياد المبيعات دوليًا، لكن ليس مباشرة بل في وقت لاحق من العام 2022 وما بعده”.
ورأى “جيمس تايكليت”، الرئيس التنفيذي لشركة “لوكهيد مارتن” أن وجود “منافسة جديدة بين القوى العظمى” من شأنها أن تؤدي لزيادة الإنفاق العسكري الأمريكي. وفي ذات السياق، أوضح “إريك جوميز”، الخبير في السياسة الدفاعية لدى “معهد كاتو”، إن “اختيار الجيوش الأوروبية التزود بمقاتلات “إف-35″ يعد نبأً سارًا لمقاولي السلاح الأمريكيين”. وبهذا، يتضح أن الأرباح المتوقعة من الحرب لم تُجنَ بعد، وأن الشهور القادمة وربما السنوات قد تحمل المزيد من الأرباح وتزيد من قوة “المجمع العسكري –الصناعيMilitary–industrial complex”.
مجمل القول، إن الحرب الروسية الأوكرانية لا تحمل وجهًا وحيدًا يعكس التداعيات الاقتصادية السلبية، وإنما تحمل وجهًا آخر يتعلق بالمكاسب والأرباح التي ستحققها صناعة الأسلحة بالولايات المتحدة. المشهد الذي يحمل في طياته مجموعة من الأمور؛ يتصل أولها باستفادة واشنطن من حرب لا تجري على أرضها وليست طرف مباشر فيها؛ وينصرف ثانيها إلى مساعي العمل على تجاوز التداعيات الاقتصادية السلبية عبر تعزيز صناعة السلاح الأمريكية؛ ويتعلق ثالثها بمسألة أن تعامل واشنطن مع الحرب الجارية لا ينطلق بالضرورة من أبعاد قيمية وإنما يستند في جزء منه إلى مصالح اقتصادية ومالية؛ ويرتبط ذلك بالنقطة الرابعة المتعلقة بأن موقف واشنطن من الحرب والتعامل مع الحلفاء عبر الأطلسي سيتأثر في جانب منه بموقف المجمع الصناعي – العسكري.
.
رابط المصدر: