أزمة السياسة النقدية في لبنان وسبل الخروج منها

فرحات أسعد فرحات

 

مقدمة:

السياسة النقدية هي مجموع الأساليب والأدوات التي تعتمدها المصارف المركزية في دول العالم والتي تؤثر تأثيراً مباشراً في حركة وحجم النقد عرضاً – وطلباً – في تلك الدولة، من خلال أدوات كثيرة أهمها: الفائدة، الاحتياطي الإلزامي للمصارف، السندات الحكومية السيادية، ومعدل الفائدة على الاحتياطي النقدي، من خلال تعاميم وإجراءات يجب أن تتخذ بناء على سياسة اقتصادية واضحة للدولة.

وعادة ما تتسم السياسة النقدية إما بسياسة محافظة لخفض معدلات التضخم المالي في السوق، وامتصاص السيولة النقدية، من خلال جذب الودائع، من طريق رفع أسعار الفائدة، ورفع الاحتياطي الإلزامي للمصارف؛ وإما بسياسة تدعو إلى الاستثمار عن طريق أسعار فائدة منخفضة، وخفض نسب الاحتياطي الإلزامي، بهدف زيادة معدلات النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل للمواطنين في تلك الدولة.

يتم وضع السياسة النقدية للمصرف المركزي بناءً على سياسة اقتصادية واضحة المعالم تضعها الحكومات، وتتغير بتغير الظروف الاقتصادية. ولكن في أشباه الدول حيث لا خبراء في مراكز القرار الحكومي ولا سياسات أو خططاً اقتصادية واضحة، على المصرف المركزي القيام بها بناءً على التقارير الاقتصادية التي تصله عن مستويات التضخم والبطالة والنمو الاقتصادي للدولة. وقد يتعاون مع وزارة المالية المسؤولة عن السياسة المالية للدولة في رسم أطر مشتركة لسياسة اقتصادية عامة تكون أكثر ملاءمة وإنتاجية.

السياسة النقدية التي اعتمدت في لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية وترسخت مع قدوم حكومة رفيق الحريري في 31 تشرين الأول/أكتوبر 1992 وحاكم مصرف لبنان (المصرف المركزي) رياض سلامة في آب/أغسطس 1993 اعتمدت بصورة رئيسية على جذب الودائع بالعملة الوطنية مقابل إعطائها فوائد مرتفعة كانت الأعلى في المنطقة، لمدة تجاوزت الأحد عشر عاماً، في ظل حكومات وعهود مختلفة، إلا أنها لم تتغير؛ ما دفع بعض الاقتصاديين إلى رفع الصوت مطالبين بضرورة إلغاء تلك السياسات، إلا أن رضى الساسة، وغياب أي سياسة اقتصادية واضحة للدولة، تنعكس على سياسة نقدية متينة، وتحقيق الجهاز المصرفي عوائد مرتفعة، وثبات سعر الصرف، أدت إلى تجاهل دور السياسة النقدية في انخفاض مستويات الاستثمار الخاص، وفي زيادة معدلات البطالة، وارتفاع العجز في الميزان التجاري.

إلا أن مضاعفات السياسة النقدية غير المشجعة على الاستثمار والإنتاج، والأزمة السورية وتأثيراتها في خفض الصادرات، وتدني مستويات السياحة وإيراداتها نتيجة العقوبات من دول الخليج العربية، كل هذه العوامل وغيرها، أدت إلى زيادة العجز في الميزان التجاري والنمو السلبي للاقتصاد، وإغلاق مؤسسات، وارتفاع معدلات البطالة؛ إضافة إلى التجاذبات السياسية وسياسة المصرف المركزي في التدخل لضمان مستوى مستقر للعملة الوطنية مقابل الدولار أدت إلى إحراق وضياع قسم كبير من احتياطيه النقدي بالعملات الصعبة. هذه العوامل أيضاً ساهمت في ضعف ثقة المودع، وأدّت إلى تحويل معظم الودائع المصرفية إلى الدولار على حساب العملة الوطنية‏[1]، وهذا انعكس انخفاضاً في قدرة البنك المركزي على المواجهة وعلى التدخل، فأدى إلى وجود سعر غير رسمي للعملة في السوق الموازية، وضعف الاحتياطي من السلع الرئيسية، نتيجة ضعف القدرة على تمويل الاستيراد، فأدى إلى أزمة نقدية واقتصادية في البلاد، انفجرت في إثره ثورة شعبية عارمة في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019.

هذه الدراسة تشرح وتوضح أصل السياسة النقدية التي اعتمدت منذ ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية وعودة السلم وإعادة الإعمار إلى يومنا هذا، لمحاولة الإجابة عن السؤال التالي: هل كانت السياسة النقدية التي اتُّبعت هي الأنجح، وكيف يمكن الخروج من الأزمة الراهنة بناء على تجارب السنوات السابقة؟

أولاً: تكلفة استقطاب الودائع بالليرة اللبنانية بعد الحرب الأهلية

انتهت الحرب الأهلية اللبنانية في منتصف تشرين الأول/أكتوبر 1990، فتعاقب على السلطة في لبنان أربع حكومات وعهد حاكمين لمصرف لبنان خلال فترة عامين‏[2]: أولها حكومة برئاسة سليم الحص التي استقالت بتاريخ 24 كانون الأول/ديسمبر 1990، وكان سعر الصرف حينها 790.45 ليرة لبنانية لكل دولار أمريكي، وثانيها حكومة برئاسة عمر كرامي مدتها من 24 كانون الأول/ديسمبر 1990 ولغاية 16 أيار/مايو 1992، وقد شهد نصفها الأول تذبذب بحدود 10 إلى 15 بالمئة من السعر الأصلي قبل أن يرتفع سعر الصرف في آذار/مارس 1992 إلى 929.26 ليرة لبنانية للدولار، ويرتفع بعدها ليصل في شهر أيار/مايو 1992 إلى 1621.11 ليرة لبنانية للدولار.

الحكومة الثالثة برئاسة رشيد الصلح من 16 أيار/مايو 1992 ولغاية 31 تشرين الأول/أكتوبر 1992، التي وصل سعر الصرف فيها إلى أعلى مستوياته وذلك في أيلول/سبتمبر 1992 إلى 2527.75 ليرة لبنانية لكل دولار، قبيل الانتخابات النيابية – الأولى بعد الحرب الأهلية – وصولاً إلى تولي الحكومة الرابعة الرئيس رفيق الحريري بتاريخ 31 تشرين الأول/أكتوبر 1992، التي أعطت ثقة للاقتصاد اللبناني وللمودعين، فأخذ سعر صرف العملة الوطنية في الانخفاض التدريجي.

1 –  تغيُّر سعر صرف العملة الوطنية في حقبة ما بعد الحرب الأهلية

يظهر الرسم البياني الرقم (1) تغيُّر سعر صرف الليرة اللبنانية في الحقبة الممتدة من انتهاء الحرب الأهلية إلى ما بعد تسلم رفيق الحريري رئاسة الحكومة.

الرسم البياني الرقم (1)

تغيّر سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار في حقبة ما بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية

المصدر: مصرف لبنان، مديرية الإحصاءات والدراسات الاقتصادية، أسعار الصرف.

يظهر من الرسم البياني الرقم (1) أن الدولار الأمريكي مع انتهاء الحرب كان يساوي 886.67 ليرة لبنانية، وأكبر انخفاض لقيمة العملة الوطنية كان في أيلول/سبتمبر 1992 في عهد حكومة رشيد الصلح وحاكمية المصرف المركزي بيد ميشال الخوري، حيث هبطت قيمة الليرة إلى 2527.75 مقابل كل دولار. إلا أن سعر صرف الليرة انخفض بعدها إلى 2248.1 ليرة لبنانية خلال شهر تشرين الأول/أكتوبر. لكن الثقة بالليرة أخذت تعود مجدداً مع تولي رفيق الحريري رئاسة الحكومة في 31 تشرين الأول/أكتوبر 1992 بعد عامين من انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، حيث تواصل انخفاض سعر الصرف إلى 1911.76 ليرة لبنانية لكل دولار في تشرين الثاني/نوفمبر، ثم إلى 1850.62 ليرة لبنانية في كانون الأول/ديسمبر 1992 وصولاً 1748.4 ليرة لبنانية لكل دولار في آذار/مارس 1993؛ وتابع في ذلك المستوى إلى حين تعيين حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في آب/أغسطس 1993 حيث كان حينها عند مستوى 1727.14 ليرة لبنانية لكل دولار أمريكي.

2 – أسعار الفائدة التي أعطيت برغم الاستقرار النقدي في الدولة

الحقبة التي تتناولها الدراسة، منذ عام 1992 ولغاية عام 1997، هي الحقبة الرئيسية التي رتبت ديناً عاماً على الدولة اللبنانية، ثم من بعدها أصبح هناك تكلفة الدين العام وهي مجموع الفوائد على القروض التي يتوجب على الدولة دفعها لمقرضيها، وبما أن المصرف المركزي هو مصرف الدولة فقد ساهم في تمويل هذه الدولة من خلال إصدار سندات خزينة يتم جذب أفراد أو مؤسسات للاكتتاب بها وطنياً ودولياً.

وبالنسبة إلى أسعار الفائدة التي تم اعتمادها في هذه الدراسة هي التي ترتب تكلفة على المصرف المركزي، فكما هو معلوم، نسب الفائدة على سندات الخزينة هي فرعان: الأولى Discount rate (التي يحصل عليها المستثمر) والثانية هي Yield rate (التي يدفعها المصرف المركزي فعلياً) ويكون الفارق بين السعرين هو سمسرة يجنيها الوسيط الذي قام بجذب المودعين وعادة من يؤدي هذا الدور هو المصارف التجارية، المحلية منها والأجنبية، وأحياناً كثيرة يؤدي المصرف المركزي هذا الدور فيسجل الفارق في باب أرباحه.

وانطلاقاً من دراستنا للتكلفة التي كابدها مصرف لبنان من أجل جذب الودائع بالعملة الوطنية اللبنانية خلال الحقبة الماضية، فهنا علينا احتساب Yield rate وليس ما جنى المودع.

أ – نسبة الفائدة Yield rate التي دفعها المصرف المركزي على سندات الخزينة لمدة ثلاثة أشهر

الرسم البياني الرقم (2)

معدل الفائدة المدفوعة لأجل 3 أشهر على سندات الخزينة بين 1992 و1997

المصدر: مصرف لبنان، مديرية الإحصاءات والدراسات الإقتصادية.

يتبين من الرسم البياني الرقم (2) أن نسب الفائدة على سندات الخزينة التي دفعها المصرف المركزي لمدة ثلاثة أشهر وصلت إلى نسبة 34.2 بالمئة في آب/أغسطس وأيلول/سبتمبر 1992 متزامنة مع ارتفاع سعر الصرف إلى حدود 2527.75 ليرة لبنانية، كأداة في لجم التضخم الحاصل في الدولة؛ لتنخفض إلى 19 بالمئة ثم إلى 13 بالمئة عند نهاية عام 1992 وترتفع مجدداّ إلى 21 بالمئة في شهر شباط/فبراير 1993 وتبقى بمستويات مرتفعة حتى أواسط عام 1994 بالرغم من استقرار سعر الصرف، وهو أمر غير مبرر إطلاقاً، وبخاصة أن تلك الحقبة تميزت بأنها حقبة سلم وإعادة الإعمار وضخ الإنفاق الاستثماري في الدولة.

ب –  معدّل الفائدة التي دفعها المصرف المركزي على سندات الخزينة لمدة ستة أشهر

الرسم البياني الرقم (3)

معدل الفائدة المدفوعة على سندات الخزينة لأجل 6 أشهر خلال 1992 و1997

المصدر: مصرف لبنان، ﻤﺩﻴﺭﻴﺔ الإحصاءﺍﺕ ﻭﺍﻟﺩﺭﺍﺴﺎﺕ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻴﺔ.

يتبين من الرسم البياني الرقم (3) أن معدلات الفائدة المدفوعة من جانب المصرف المركزي بلغت خلال شهري آب/أغسطس وأيلول/سبتمبر 1992 مستويات 35.28 بالمئة، ثم انخفضت إلى مستوى 21.3 بالمئة خلال شهر تشرين الأول/أكتوبر، ثم إلى 15 بالمئة لمدة ثلاثة أشهر لترتفع بعدها إلى 22 بالمئة في شباط/فبراير – آذار/مارس 1993 عندما كان سعر الصرف 1748.4 ليرة لبنانية في مقابل كل دولار أمريكي، ثم لتنخفض إلى حدود 20 بالمئة حتى أوائل 1994، ثم تهبط في تشرين الثاني/نوفمبر إلى 14.54 بالمئة وترتفع مرة أخرى لتصل إلى أعلى معدل في أيلول/سبتمبر – تشرين الأول/أكتوبر 1995 بلغ 27.9 بالمئة و27.3 بالمئة بالرغم أن سعر صرف العملة الوطنية كان على عتبة 1612.26 ليرة لبنانية لكل دولار أمريكي.

ج – معدلات الفائدة المدفوعة من جانب المصرف المركزي على سندات الخزينة لأجل عام واحد

الرسم البياني الرقم (4)

معدلات الفائدة المدفوعة على سندات الخزينة لأجل عام واحد بين أعوام 1992 و1997

المصدر: مصرف لبنان، مديرية الإحصاءات والدراسات الإقتصادية.

يظهر من الرسم البياني الرقم (4) أن معدلات الفائدة وصلت إلى مراحل قياسية في مرحلتين، الأولى في آب/أغسطس – أيلول/سبتمبر 1992 حيث بلغت 34.2 بالمئة وهي مرحلة انهيار سعر صرف العملة الوطنية؛ وفي المرحلة الثانية، أيلول/سبتمبر – تشرين الأول/أكتوبر 1995، مع أن سعر الصرف كان عند حدود 1612.26 ليرة لبنانية مقابل كل دولار. وعلى الرغم من وجود استقرار سياسي حينها، وتمديد لرئاسة الياس الهراوي في تشرين الأول/أكتوبر ذاك العام، مع معدل نمو للناتج المحلي الإجمالي يساوي 6.449 بالمئة، فإن الفائدة بلغت 37.85 بالمئة ثم 36.86 بالمئة.

يظهر من الرسوم البيانية الثلاثة السابقة، ولسخرية الأرقام، أن معدلات الفائدة كانت ترتفع لمعدلات قياسية لمدة شهر أو شهرين فقط لتعود إلى مستوياتها السابقة، مع عدم وجود مبرر لذاك الارتفاع، وبخاصة أن الناتج المحلي الإجمالي كان يشهد معدلات نمو مضطردة حينها، بدأت بـ 10.766 بالمئة عام 1993 ثم 8.105 بالمئة عام 1994 ثم 6.449 بالمئة عام 1995 وصولاً إلى 11.286 بالمئة عام 1996.

كان يجب استخدام السياسة النقدية لتحويل النقد المتوافر حينها لتمويل مشاريع القطاع الخاص، وزيادة الاستثمار الإنتاجي في البلد، وهو ما كان يمكن أن يساهم في خفض البطالة وزيادة النمو المضطرد على المدى الطويل بحسب عمر المشاريع المنشأة، الأمر الذي كان يمكن أن يضمن بدوره حركة نمو اقتصادي في القطاعين العام والخاص وليس في قطاع واحد فقط؛ ويضمن أيضاً تحقيق معدلات نمو اقتصادي مستقر على المدى الطويل – على عكس ما حصل بعد ذلك حيث انخفضت معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 1 بالمئة عام 1997 ثم إلى 3.666 بالمئة عام 1998، مقابل نمو سلبي بمعدل – 0.526 بالمئة عام 1999. إلا أن سياسة الفوائد المرتفعة طوال تلك المدة لم تكن لتساهم بذلك؛ وهو ما يطرح علامات استفهام حول سبب اعتماد تلك السياسات النقدية، وحول مغزى هذا الارتفاع لمدة شهرين فقط بنسب أكبر وأعلى من معدلاتها في الشهور التي تسبق أو التي تلحق، وهل هي لاستقطاب ودائع من أفراد أو مؤسسات معينة؟ وهذا الاستفهام هو في رسم السلطات الرقابية والقضائية، لدراسة هذه الأرقام ورفع السرية المصرفية عن الجهات التي استفادت خلال تلك المراحل وإن كان من بينها رجال نافذون.

ثانياً: إيرادات الأفراد في مقابل إيداعاتهم النقدية في سندات الخزينة

عادة ما يقارن أي مستثمر بين الفائدة المعمول بها في السوق، والعائد الاستثماري الذي قد يحصل عليه نتيجة تحمله مخاطر الاستثمار وانتظاراً لسيرورة المشروع وجنيه للأرباح، إلا أنه وبناء على الجداول السابقة، كان المستثمر يجد نفسه محاطاً بإمكان إيداع أمواله أو جزء منها على هيئة سندات خزينة ولآجال قصيرة فيكون العائد عليها منافساً للعائد الذي قد يجنيه من أي مشروع استثماري مقترح قد يقوم به.

سنعطي مثـلاً هنا، انطلاقاً من احتساب معدل الفائدة Discount Rate الذي يجنيه المودع، وسنأخذ مثال الودائع لأجل متوسط هو ستة أشهر.

الرسم البياني الرقم (5)

معدّل الفائدة المقبوضة من قبل المودعين على سندات الخزينة
لأجل ستة أشهر خلال أعوام 1992 و1997

المصدر: مصرف لبنان، مديرية الإحصاءات والدراسات الإقتصادية.

يظهر من الرسم البياني الرقم (5) أن معدل الفائدة التي كان يمكن لأي مستثمر أن يحصل عليها طوال تلك الحقبة منذ بداية عام 1992 ولغاية أواخر عام 1996، مرتفع وينافس أي إرادة استثمارية، وبخاصة مع وصولها إلى درجة 19.83 بالمئة خلال شهري شباط/فبراير وآذار/مارس 1993 ومن ثم تذبذبها بين 18.6 بالمئة طوال الحقبة من نيسان/أبريل 1993 لغاية كانون الأول/ديسمبر 1993 و17.8 بالمئة في كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير 1994 لينخفض بعدها إلى ما يقارب 16 بالمئة طوال المدة الممتدة حتى أيلول/سبتمبر 1994؛ ثم ليرتفع من جديد مع بداية عام 1995 وفي ذروة الاستقرار السياسي والإنفاق الحكومي إلى 15.53 بالمئة في شباط/فبراير 1995، ثم إلى 16.52 بالمئة في آذار/مارس 1995 وصولاً إلى 17.25 بالمئة في أيار/مايو 1995 و19.58 بالمئة في حزيران/يونيو 1995 ليصل إلى 24.08 – 24.5 بالمئة في أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر 1995، مع العلم أن كل هذه الحقبة كانت حقبة إعادة الإعمار والبذخ الحكومي على مشاريع البنية التحتية وعودة السياحة الخارجية من مغتربين وعرب إلى لبنان.

ثالثاً: تأثير السياسة النقدية التي اعتُمدت في مشهد الاقتصاد الكلي

اعتمد المصرف المركزي منذ بداية عام 1993 سياسة جذب الإيداعات من الداخل والخارج من أجل تمويل الحكومة ومشاريع الإنفاق على البنية التحتية. في المقابل ساهمت معدلات الفائدة المرتفعة في خفض معدلات التضخم المالي في السوق؛ الناتج من عمليات إعادة الإعمار والإنفاق الحكومي المرتفع حينها من أموال داخلية وقروض خارجية؛ وقد استفادت المصارف أيضاً من تلك السياسة في تعظيم ودائعها وزيادة إيراداتها من مصدر واحد أوحد هو الدولة اللبنانية، إلا أن ارتداداتها كانت سلبية على القطاع الخاص، الذي فقد مصدر تمويل مهماً هو المصارف، حيث عجز قسم مهم منه عن الاقتراض بالفوائد المرتفعة وبضمانات خيالية كان يطلبها الجهاز المصرفي تقرب من ثلاثة أضعاف قيمة القرض، أصبحت المصارف تفضل إقراض الدولة بفوائد سخية، مع ثقتها بالحكومات المتعاقبة.

إن سياسة جذب الإيداعات بالعملة الوطنية ساهمت أساساً في انخفاض سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار الأمريكي وزيادة قيمتها، بفعل تزايد الطلب عليها نتيجة الفوائد المرتفعة، وما حققه ذلك للمصرف المركزي من وفورات وأرباح ناتجة من ثبات سعر الصرف وتدخل المركزي في السوق لتأمين بقاء السعر على ذلك المستوى مما أدى إلى ازدياد حجم الاحتياطي النقدي بالعملات الأجنبية.

إلا أن هذه السياسة كان يجب أن تترافق مع سياسة مرنة لتمويل القطاع الخاص، لا أن تستمر لأكثر من أحد عشر عاماً، بل كان يجدر أن تتغير مع تحقيق سعر صرف مستقر نسبياً بسقف 1777.89 ليرة لبنانية لكل دولار في شباط/فبراير 1993 وحتى 1703.14 ليرة لبنانية في شباط 1994 لكنه استمر في الانخفاض التدريجي شهراً بعد آخر، نتيجة الاستقرار الحكومي، والدعم العربي – والدولي لرئيسها، وبخاصة مع تحقيق معدلات نمو اقتصادي حقيقي ناتج من حجم الإنفاق على مشاريع البنية التحتية وما سمي إعادة الإعمار لمختلف المرافق العامة؛ والذي لم يقابله تشجيع الإنفاق الاستثماري للقطاع الخاص بفعل سعر فائدة غير مشجِّعة، فلم يُستفد منه في تطوير المنشآت الاقتصادية، ولا في زيادة التوظيف للمواطنين؛ حيث من النتائج المباشرة لسياسة الفوائد السخية هي ضرب المؤسسات التي قد تتمول عن طريق المصارف التجارية، لأن فائدة الإقراض المعمول بها أصبحت من الأعلى وتنافس نسبة الربحية التي قد يحصل عليها المستثمر من أي مشروع قد يقوم به.

1 – سياسة القروض المتبعة في المصارف

إن سياسة القروض التي اعتمدتها المصارف التجارية كانت سياسة سلبية، حيث لم يكن المصرف المركزي موجهاً لسياسة أصلب في ما خص التوجه نحو تمويل الاستثمار في القطاعات الإنتاجية التي تخلق فرص نمو مستدام، مع إيجاد فرص عمل حقيقية لتساهم في بناء اقتصاد منتج لأمد طويل، لا يكون عرضة لأي تهديد أمني، وبخاصة عندما تكون في بلد مهدد من عدو على حدودك مباشرة. في حين كان الخيار الذي اتُّبع، للأسف تمويل قروض للمشاريع السياحية، والحركة التجارية بصورة رئيسية مع نسب أقل للقطاعات الإنتاجية، كالصناعة والزراعة، في غياب تام لأي سياسة اقتصادية واضحة المعالم؛ مع سياسة تشجيعية للأفراد لأخذهم قروضاً إنفاقية واستهلاكية، وهو ما شجع المواطنين على الاستهلاك والشراء لمختلف السلع والخدمات، فظهر ذلك في تملك أسر عدة سيارات، وفي نفقات السفر والسياحة الخارجية، وهذا ساهم في عجز الميزان التجاري إلى حدود غير مسبوقة، أدى إلى وقوع البلاد في أزمة عملات صعبة أخيراً في أيلول/سبتمبر 2019.

الرسم البياني الرقم (6)

نسبة زيادة عدد البطاقات المصرفية بيد المقيمين في لبنان

المصدر: مصرف لبنان، مديرية الإحصاءات والدراسات الإقتصادية، البطاقات المصرفية.

يظهر من الرسم البياني الرقم (6) كيف تضاعف عدد حاملي البطاقات المصرفية (الدائنة والمدينة على السواء) خلال مدة 16 سنة، فقفزت من 628,259 بطاقة في كانون الثاني/يناير 2003 إلى 1,745,857 بطاقة في كانون الثاني/يناير 2012 وصولاً إلى 2,674,870 بطاقة في كانون الثاني/يناير 2019، أي تضاعفت بمعدل 4.25 مرة؛ وهذه البطاقات تدفع الأفراد إلى الاستهلاك التلقائي كون أجرهم، أي نتيجة عملهم لشهر كامل، موضوعاً فيها ويمكن لهم استخدامها متى أرادوا ذلك، مع فوائد سخية وإمكان الكشف على الرصيد وبخاصة إذا كان حامل تلك البطاقة موظفاً. بل ساهمت تلك السياسة في أن كل من لديه أجر ثابت شهرياً يمكنه أخذ قرض شخصي بضمانة أجره وحتى لو تجاوزت قيمة القرض الاثني عشر ضعفاً، وأحياناً الخمسة عشر ضعفاً، ومن دون الحاجة إلى أي كفيل أو ضامن، بينما أي صاحب مشروع لا يستطيع أخذ قرض لتمويل شراء مواد أولية أو شراء آلة جديدة إلا بضمان عقاري، أو بكفالة شخصية من موظف له أجر ثابت.

2 – نسب الفائدة التي كانت تعطيها المصارف لزبائنها

بعد ارتفاع نسبة الفائدة الذي لاحظناه في الرسوم البيانية ذوات الأرقام (1) و(2) و(3)، ومع ثبات سعر الصرف عند حدود 1507.5 ليرة لبنانية لكل دولار أمريكي منذ كانون الأول/ديسمبر 1997، أصبحت السياسة المعلنة للمصرف المركزي هي الحفاظ على استقرار سعر الصرف عند هذا المستوى، فأصبح المصرف يتدخل في السوق لشراء وبيع العملة الوطنية في مقابل العملات الصعبة للحفاظ على سعر اسمي غير واقعي لليرة اللبنانية يكون المصرف المركزي محركه ولاعباً محورياً في تحديده.

الرسم البياني الرقم (7)

معدل الفائدة على الخصومات والقروض المعطاة من جانب البنوك التجارية

المصدر: مصرف لبنان، مديرية الإحصاءات والدراسات الإقتصادية.، أسعار الفائدة – البنوك التجارية.

يظهر من الرسم البياني الرقم (7) أن أسعار الفائدة على الخصومات والقروض التي كانت تُعطى من جانب المصارف التجارية وطوال المدة الممتدة من آذار/مارس 1992 ولغاية آذار/مارس 2005 وصلت في آذار/مارس 1992 إلى نسبة 42.8 بالمئة وأقصاها في أيلول/سبتمبر 1992 إلى نسبة 51.13 بالمئة ثم أخذت تنخفض إلى حدود أدنى، فوصلت في آذار/مارس 2003 إلى 15 بالمئة وهذا يميط اللثام عن أن السياسة النقدية طوال مدة 11 عاماً كانت سياسة طاردة للاستثمارات، وغير مشجعة لها. إذ أن أسعار الفائدة انخفضت إلى ما يقارب 11 بالمئة في آذار/مارس 2005 بعدها وبقيت تتذبذب على مستويات متقاربة من ذلك حتى أيلول/سبتمبر 2009، مع العلم أن تلك المرحلة شهدت ظروفاً سياسية بالغة التعقيد عصفت بلبنان ابتداءً باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في منتصف شباط/فبراير 2005 وصولاً إلى حرب إسرائيل على لبنان في تموز/يوليو – آب/أغسطس 2006 إلى حصول حركة احتجاجات وإضرابات في الشارع في عامي 2007 و2008 وصولاً لاتفاق الدوحة في 21 أيار/مايو 2008 الذي أدى لتشكيل حكومة وحدة وطنية وانتخاب رئيس جديد للبلاد، وبالتالي طوال الفترة الماضية الجو العام لم يكن مشجعاً لأي استثمار يذكر بالرغم من معدلات الفائدة المنخفضة نسبياً عن سابقها والتي كانت تتذبذب بين  9  بالمئة و11 بالمئة، حيث بلغت في آذار/مارس 2006 نسبة 10.18 بالمئة، وفي آذار/مارس 2007 نسبة 10.56 بالمئة وفي آذار/مارس 2008 نسبة 9.92 بالمئة، وبالتالي ما الذي كان عائقاً عن إعطاء أسعار فائدة في هذا المستوى عندما كان ينعم لبنان في أيامه الوردية سابقاً، ما دامت تعطى في وقت الأزمات السياسية.

كيف ندرك أن معدلات الفائدة التي عُمل بها مرتفعة، نقارنها بمعدلات الفوائد في دول مشابهة للبنان، من ناحية عدد سكانها، وموقعها الجغرافي وخانة التصنيف لدى صندوق النقد الدولي في المستوى المعيشي لسكانها، وهل عانت أزمات داخلية، حيث يظهر نتيجة ذلك، وجود دول مشابهة، الأردن، وبلغاريا؛ فنكون أمام الرسم البياني الرقم (8) لأسعار الفائدة التي عُمل بها في تلك الدول مقارنة بلبنان.

الرسم البياني الرقم (8)

سعر فائدة الإقراض التي عُمل بها في دول مشابهة للبنان

المصدر: صندوق النقد الدولي، الأبحاث، مؤشرات التنمية العالمية.

يتبين من الرسم البياني الرقم (8) أن الدول قد تقع في مخاطر اقتصادية وسياسية إلا أنها تعود لتذبذب سعر فائدة الاستدانة بناء للسياسة النقدية التي ترغب في ترسيخها في تلك الدولة، ففي عام 1998 كان معدل الفائدة في بلغاريا 14 بالمئة، وفي الأردن 12.6 بالمئة بينما كان في لبنان 20.15 بالمئة – عام 2002 بلغ معدل فائدة الإقراض 9.2 بالمئة في بلغاريا، و10 بالمئة في الأردن مقابل 16.6 بالمئة في لبنان بالرغم من أن لبنان كان يعيش أيامه الوردية في تلك المرحلة حيث عقدت في بيروت القمة العربية بحضور بارز لمعظم القادة العرب، ثم القمة الفرنكفونية، وبوجود رئيس حكومة كان يعطي ثقة لوضع لبنان الاقتصادي، وفي ظل تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، ألم يكن من الواجب حينها أن تكون أسعار الفائدة على الاستدانة أقل لتشجيع الاستثمار وإطلاق النمو في المدن والبلدات التي حررت مثـلاً، وهو ما كان يمكن أن يدفع إلى خفض مستويات البطالة في تلك المناطق، وتحقيق التنمية اللامركزية، وبخاصة أن لبنان يتميز عن الدولتين المذكورتين بقوة ومتانة قطاعه المصرفي وبحجم ودائع يتجاوز ما يوجد في كلتا الدولتين مجتمعتين.

مع الإشارة إلى وجود قروض مدعومة من المصرف المركزي مباشرة بفوائد للاستدانة أقل كثيراً تصل إلى 1 و2 بالمئة سنوياً؛ إلا أن هذه القروض – وقد كنا على دراية وحذرنا منها تكراراً وكما أظهرت التحقيقات القضائية أخيراً – كانت تعطى للمحظيين من أهل السياسة والمقربين منهم، وكانت مغلفة بالرغبة في القيام بمشاريع استثمارية إلا أنها تنفق على شراء العقارات أو إيداعات في المصارف وجني الفارق في أسعار الفائدة، وبالتالي لم تساهم نسبة كبيرة منها في تحريك الدورة الاقتصادية وخلق فرص عمل للمواطنين كما يجدر أن تقوم به.

رابعاً: الحرب السورية وتأثيرها في لبنان

انطلاق الحرب في سورية في آب/أغسطس 2011، كان له تأثير أساسي في الاقتصاد اللبناني حيث تحيط سورية بلبنان من الشمال والشرق وتشكل امتداداً له للدخول إلى العمق العربي، فتسهل حركة الترانزيت، وتصدير البضائع الزراعية والصناعية من خلال أراضيها، كما يزور لبنان آلاف السياح الخليجيين، والعراقيين والأردنيين، مروراً بالأراضي السورية؛ فوقعت الكارثة لا على سورية فقط، بل على لبنان أيضاً، كون سورية تمثل رئته العربية؛ زد على ذلك هجرة مئات آلاف السوريين الذين مروا بأوضاع اقتصادية كارثية نتيجة هربهم من منازلهم ومناطقهم إلى مناطق أكثر أمناً في لبنان، وتخبط الساسة فيه، وعدم القيام بأي إجراءات علاجية فورية، فبدأت تبرز الارتدادات على الاقتصاد اللبناني مع بداية عام 2012 في ظل اشتداد الأزمة ودخول العنصر الإرهابي والعسكري على الصراع في سورية.

نسب النمو في لبنان في ظل الأزمة السورية

هناك طريقتان لاحتساب نسبة النمو في أي دولة، الدخل المحلي الإجمالي (GNI)، وإجمالي الناتج المحلي (GDP)، الأول يقوم باحتساب دخل المواطنين داخل البلد وخارجه، والثاني باحتساب الإنتاج داخل الدولة من مواطنين وأجانب؛ وفي حال لبنان الذي يعيش أكثر من ضعفي عدد مواطنيه خارج حدود الدولة، من العقلاني والمنطقي والعلمي احتساب النمو الاقتصادي بناء على تغير إجمالي الناتج المحلي من عام إلى آخر.

سيظهر من خلال الجدول الرقم (1) أرقام من البنك الدولي حول حجم الناتج المحلي للفرد (بسعر الدولار المحلي، أي مع احتساب القدرة الشرائية للمواطن في بلده/لبنان)، وبسعر الدولار الدولي (أي احتساب كم من السلع والخدمات يمكن للدولار شراؤه في الولايات المتحدة الأمريكية) وهذا يساعد على احتساب القدرة الشرائية لدخل الفرد مقارنة بدول أخرى، ومعدل نمو الناتج المحلي الإجمالي، وحجم الناتج المحلي الإجمالي الكلي.

يظهر من الجدول الرقم (1)، كيف انخفض معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي من 8 بالمئة عام 2010 إلى عتبة 1 بالمئة عام 2011، وصولاً إلى حدود تقارب الصفر في آخر عامين؛ كما أن الناتج المحلي للفرد (بالسعر المحلي للدولار)، لم يتغير كثيراً على مدى 10 أعوام.

وهكذا، إن أي أزمة اقتصادية يكون لها ذيول، وتظهر ملامحها قبل أن تبدأ بسنوات، إلا أن السلطات النقدية قد يُغشى على بصرها فلا ترى ما يتهدد اقتصاد الوطن وأمن مواطنيه، على الرغم من أهمية السياسة النقدية في تقويم الاعوجاج وتصويب الأمور، إلا أنها للأسف كانت غائبة عن النظر والمعالجة، حيث كان يجب على مصرف لبنان القيام بسياسة تشجع المصارف التجارية على ضخ السيولة في السوق، وبخاصة للاستثمار المباشر، إلا أن ما اعتمده كان أكثر إيلاماً للاقتصاد بفعل إعادة استقطاب الرساميل لضخها كودائع في المصارف حيث اشتهرت الدورات الثلاث لهذه السياسة بأنها في كل مرة كان يتم السؤال عن متانة الوضع النقدي اللبناني كان الجواب لدينا: حجم احتياطي بقيمة معينة من العملات الصعبة وبالتالي الوضع النقدي بألف خير؛ وذلك إنما له علاقة مباشرة بالخلفية الوظيفية لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي كان يعمل كوسيط لجذب السيولة والأموال لأحد أكبر بيوت المال في فرنسا، وبالتالي غابت عن سلامة ما هي السياسات التي وجب على أي مصرف مركزي القيام بها وتأثيراتها المباشرة في نسب النمو، وخلق استثمارات في حقول متنوعة وتأثيرها المباشر في خلق فرص عمل للآلاف من المواطنين.

أزيد، إن من موجبات أي سياسة نقدية هي زيادة نسب النمو وخلق فرص عمل، مع الحفاظ على متانة النقد، إلا أن النقد هنا يؤدي دوراً مسانداً للنمو ولا يكون هو الدافع في أي سياسة نقدية؛ لماذا؟ لأن زيادة معدلات النمو الحقيقية الناتجة من الاستثمار المباشر للمؤسسات في القطاعين العام والخاص، لها تأثير في خفض مستويات البطالة وفي توزيع المداخيل على فئات المجتمع كافة وعدم ترسخها في يد أقلية تمتلك أغلب نسب الودائع.

من هنا، وفي ظل أزمة نقدية تعصف بلبنان أخيراً، حيث وصل سعر صرف الليرة مقابل الدولار إلى حدود 1900 ليرة لبنانية في السوق السوداء، ونسبة بطالة بحسب وزارة العمل اللبنانية‏[3] تتجاوز حدود 25 بالمئة للقوى القادرة على العمل، وتصل إلى حدود 37 بالمئة لمن هم دون الـ25 عاماً وأغلبهم من المتخرجين حديثاً من الجامعات والمعاهد، حيث يتخرج سنوياً بين 30 و35 ألف طالب، بينما السوق الداخلية لا تستوعب أكثر من 5 آلاف وظيفة، وفي انخفاض نسب النمو الاقتصادي إلى الصفر؛ وإفلاس العديد من الشركات، ووجود بطالة مقنعة بصور مختلفة، علينا التفكير ملياً ما السياسات النقدية الواجب على أي مصرف مركزي اعتمادها في ظروف كهذه، وما الحلول التي يمكن للسلطات النقدية تطبيقها سريعاً من أجل الخروج من الأزمة الراهنة، وهدفها زيادة الاستثمار، وخلق فرص عمل جدية للمواطنين، وتنمية المناطق كافة، وتحقيق نمو اقتصادي للوطن.

خامساً: الاستنتاجات والحلول

السياسات النقدية التي يمكن للمصرف المركزي اعتمادها للخروج من الأزمة

1 – تشجيع الاستثمار وخلق فرص عمل للمواطنين

أ – إعادة توجيه دور المصارف اللبنانية كمساهم في التطوير والريادة الاقتصادية للمؤسسات والشركات اللبنانية، ومفعِّل لحركة الريادة والتصدير.

ب – خفض الفائدة للإقراض لرياديي الأعمال والمؤسسات القائمة (عمرها يتجاوز الثلاث سنوات): دفعت نسب البطالة العالية التي عصفت بلبنان خلال السنوات الماضية، آلاف الشباب الكفوئين إلى التوجه نحو خلق مشاريع فردية. من هنا، من واجب السلطات النقدية خفض الفائدة للإقراض بالنسبة إلى قروض الشركات متناهية الصغر إلى الصغيرة والمتوسطة، التي تبلغ بين 5 آلاف دولار و200 ألف دولار بفائدة لا تتجاوز الـ 10 بالمئة على القروض بالعملة الوطنية. مع ضرورة تقديم تلك الشركات أو المؤسسات التي ترغب في التمويل دراسة عن الجدوى الاقتصادية لتلك المشاريع.

ج – خفض الفائدة للإقراض بالنسبة إلى رياديي الأعمال والشركات الناشئة (عمرها يقل عن ثلاث سنوات) إلى 12 بالمئة والتي تبلغ قيمة القروض بين 5 آلاف دولار و100 ألف دولار أمريكي، مع ضرورة تقديم الأفراد دراسة جدوى اقتصادية تبين أهمية تلك المشاريع وقدرتها على خلق فرص عمل، للمواطنين اللبنانيين بطريقة مباشرة.

د – خفض سعر الفائدة لقروض المشاريع المنوي تنفيذها خارج العاصمة (كمؤسسات ناشئة/ومؤسسات قائمة) إلى 7 بالمئة وتساهم في تنمية المدن الثانوية الرئيسة (طرابلس، صور، صيدا، زحلة وغيرها) بقروض بين 5 آلاف دولار و200 ألف دولار، مع ضرورة تقديم دراسات جدوى اقتصادية وإظهار أهميتها في تطوير المرافق الرئيسة (سياحة، صناعة، زراعة، خدمات) في تلك المناطق والمدن.

هـ – خفض سعر الفائدة للقروض المنوي تنفيذها في المدن والبلدات خارج المدن الرئيسة إلى 5 بالمئة، على أن يقدم صاحب تلك المشاريع دراسة جدوى وأحقية بتلك القروض لتطوير أو تنفيذ مشاريع حيوية ضرورية ومهمة لتلك المناطق مع دراسة عدد فرص العمل التي تولد هناك.

و – بالنسبة إلى القروض التجارية تخضع الأحكام لقوانين المصارف الخاصة، مع ضرورة ألّا يتجاوز سقف القروض الـ 25 بالمئة من القيمة الفعلية لمخزون الشركة الحالي، وضرورة الطلب من أصحابها الذين تتجاوز خبرتهم الـ10 أعوام في حقل تجاري مع إثبات نجاحهم فيه، إمكان تنويع محفظتهم بمشاريع حيوية في قطاعات أخرى أهمها الصناعة بفائدة تفضيلية تصل إلى 7 بالمئة، على ألّا تتجاوز قيمة تلك القروض الـ200 ألف دولار من محفظة المصرف وبمشاركة من أصحاب المشروع بـ 25 بالمئة من رأسمال تلك المشاريع.

ز – محفظة القروض الاستثمارية: يجب زيادة معدلات القروض الاستثمارية الإنتاجية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة على ألّا تقل سنوياً عن 15 بالمئة من حجم الودائع داخل المصارف.

ح – القروض الاستهلاكية: يرتفع سعر الفائدة لقروض شراء السيارات الحديثة التي يتجاوز سعرها عشرين ألف دولار أمريكي لغاية 13 بالمئة سنوياً للسيارة الأولى، و15 بالمئة للسيارة الثانية، و17 بالمئة للسيارة الثالثة (أسعار الفوائد هي الأقل ولكل مصرف اتباع سعر يتجاوزها أو يساويها).

ط – القروض الشخصية: يرتفع سعر الفائدة للقروض الشخصية إلى 15 بالمئة كحد أدنى (للمصرف حرية اتخاذ أسعار فائدة تتجاوزها وبما يتوافق مع مصلحته السوقية).

ك – محفظة القروض الاستهلاكية: يجب ألّا تتجاوز محفظة القروض الاستهلاكية والشخصية والبطاقات الائتمانية للمصارف الـ 10 بالمئة من قيمة الودائع التي لديها.

ل – الرقابة على القروض كافة: ينفذ مصرف لبنان من خلال دائرة يقترحها هو تلك المهمات، التدقيق في القروض المدعومة أو التي دعمت سابقاً أو حالياً وإن قامت بما تعهدت به، وإن لم يكن ذلك يتم تغريمها ومحاسبتها قانونياً.

م – دعم إنشاء مصارف متخصصة: تتبع للقطاع الخاص مدعومة بقروض بفائدة 2 و3 بالمئة وعلى أمد متوسط من 5 لغاية 7 سنوات لتمويل القطاعات التكنولوجية والمعرفية والصناعية والزراعية والحرفيين والمشاريع في الأرياف والقرى والبلدات اللبنانية.

ن – الرقابة على القروض: تقوم دائرة الرقابة على المصارف بالرقابة على نسب تلك القروض من المحفظة، وأسعار الفائدة المنفذة، وآجال القروض، وإن كانت تتوافق مع الشروط العامة للمركزي والخاصة للمصرف… إلخ.

س – نشر مؤشرات شهرية وفصلية للعموم: على لجنة الإحصاءات والدراسات في مصرف لبنان، اعتماد معيار شهري لقياس نسبة التوظيف في البلد، ونسبة التضخم، ونسبة النمو الاقتصادي، وفروع القروض المنفذة من خلال المصارف التجارية، ما يأتي من باب تعزيز الشفافية النقدية للبلد.

2 – سعر صرف العملة الوطنية

أ – وجوب فرض هامش لتذبذب سعر صرف العملة الوطنية: إن سياسة تثبيت سعر الصرف غير محبّذة على الإطلاق، وبخاصة في دولة فيها من التجاذبات السياسية الكثير، فكأن تثبيت سعر الصرف يصب في باب طمأنة السياسي وليس المواطن، وعلى السلطات النقدية، ومن أجل عدم التدخل دائماً في السوق وتآكل الاحتياطي النقدي من العملات الصعبة، فرض هامش لتذبذب سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار الأمريكي؛ فحين تزداد الثقة، ترتفع القدرة الشرائية للمواطن بعملة وطنه، وعندما ترتفع التهديدات والمخاطر، أو حين يثير طرف من أطراف السياسة الداخلية مشاكل واضطرابات مع شريكه في الوطن، يرتفع سعر صرف العملة الوطنية وتنخفض قيمتها مقابل الدولار، وهو ما يجعل صاحب الأمر السياسي يتحمل تبعات تصرفاته وتصريحاته، والحَكم هنا يكون المواطن.

كذلك إن سعر الصرف، عندما يكون متحركاً وغير ثابت، يسمح للمصرف المركزي بالتدخل بناء على حركة الميزان التجاري للدولة، فيؤثر خفض سعر الصرف إلى حدود معقولة – لا تضرب أصحاب المداخيل المتدنية التي تقبض بالليرة اللبنانية – في رغبة الأفراد في شراء سلع وطنية على حساب السلع والمشابهة لها المستوردة من الخارج.

ب – سهولة مراكمة النقد الأجنبي: تساهم سياسة خفض تدخل المركزي في السوق، إلى مراكمة المصرف المركزي للعملات الصعبة نتيجة عدم تدخله المستمر واليومي.

ج – ضمان سرية تطبيق هذه السياسة لمنع المضاربة وعدم اللجوء إلى سوق موازية: يجب عدم تطبيق هذه السياسة في الأزمات كونها تثير القلق بين المودعين، بل يجري تنفيذها تدريجاً مع ملاءمة الوضع الاقتصادي والاستقرار السياسي في البلاد، حيث يمكن تطبيق هامش 10 بالمئة صعوداً ونزولاً على سعر الصرف، لنصل مع نهاية المدة (عام) إلى سعر صرف ضمن هامش العشرين في المئة صعوداً ونزولاً (سياسة سرية وغير معلنة تعتمد لمنع المضاربة).

3 – ضرورة استخدام العملة الوطنية

أ – السحوبات النقدية: السحوبات النقدية عبر الصراف الآلي أو المباشرة من المصارف في معظم دول العالم تتم بالعملة المحلية، وهذا ما يجب أن يُتَّبعَ في لبنان مهما كانت عملة الوديعة.

ب – يجب أن تكون الفواتير من المؤسسات والشركات كافة العاملة على الأراضي اللبنانية الصادرة في لبنان بالعملة الوطنية، ولا يجوز أبداً أن يتم تسعير أو فوترة السلع أو الخدمات بعملة أخرى.

ج – على وزارة الاقتصاد ضمان استخدام العملة الوطنية في كافة المؤسسات العاملة على الأراضي اللبنانية، إذ على المؤسسات كافة تَسَلُّم مقبوضاتها المباشرة وغير المباشرة بالعملة اللبنانية مع مخالفات جدية وموجعة للمخالفين.

د – قيام حملة إعلامية لتشجيع المواطنين على استخدام العملة الوطنية في جميع مدفوعاتهم ومشترياتهم.

4 – القروض الإسكانية

أ – إن سياسة إعطاء قروض الإسكان المدعومة لمن يحتاج الوطن إليهم يجب أن تكون لأصحاب المداخيل المتدنية والمتوسطة من أجل تعظيم قدراتهم الشرائية، وتحسين مستواهم المعيشي، وإحساسهم بالأمن الاجتماعي وتثبيتهم في وطنهم، وهي هنا يجب ألّا تكون لمن يرغب في شراء منزل، بل لمن يحتاج الوطن إليه للبقاء في أرضه ومجتمعه وعدم السفر والهجرة إلى الخارج، وبالتالي لأصحاب المهن الحرة (أطباء، محامين، مهندسين، صيادلة… إلخ)، أساتذة ومعلمين، مبادري الأعمال، أصحاب المؤسسات متناهية الصغر، والصغيرة (الذين يخلقون فرص عمل) والحرفيين؛ على ألّا تقل خبرتهم في الحقول كافة التي عملوا بها عن ثلاث سنوات في الوطن بعد التخرج الجامعي أو المهني.

ب – بالنسبة إلى موظفي القطاع العام والخاص: يجب أن تكون السياسة الإسكانية وشروط إعطاء القروض ضمن قروض إسكانية للمصارف بناء لسياسة العرض والطلب ضمن هامش أسعار يقارب سعر فائدة القروض الإسكانية المدعومة كونه مشروعاً لأمد طويل يتجاوز العشرة أعوام إلا أن معدل الفائدة لا يساويها.

ج – كمية القروض المدعومة وتوزعها: إن القروض المدعومة تقدم من خلال طرفين في لبنان هما: المؤسسة العامة للإسكان وتستهدف أصحاب المداخيل المتدنية والمتوسطة، ومصرف الإسكان الذي يستهدف أصحاب المداخيل المتوسطة بقيمة تتجاوز المؤسسة العامة للإسكان، إلا أن قيمة القروض أصبحت متشابهة أخيراً من كلا المصدرين، فقد كان وما زال سقفها 270 مليون ليرة للمؤسسة العامة وتم خفض قيمة قرض مصرف الإسكان إلى300 مليون ليرة، ومن كلا المصدرين على صاحب القرض أن يشارك بنسبة من قيمة العقار الذي يرغب في شرائه، وهي تكون نحو 20 بالمئة مع ضمان قدرته على السداد.

وبالتالي إذا ما كان حجم الطلب السنوي بمعدل 5 آلاف شقة والقروض الإسكانية متوقفة منذ بداية عام 2018، نكون أمام حاجة في السوق إلى نحو عشرة آلاف شقة؛ إلا أن الأسعار انخفضت، والعامان كانا كفيلين بخفض الثقة بالشراء والتملك، وبهجرة البعض، وبدفع البعض إلى الإيجار. كما ليست كل القروض ضمن هذا الهامش، فقروض المصارف تؤدي دوراً خاصاً لزبائنها وللمغتربين وهي تتجاوز قيمتها الحجوم المتداولة ضمن المؤسسة ومصرف الإسكان، إلا أن دور الدولة يجب أن يكون من خلال المصرف المركزي في دعم أصحاب القدرات المتدنية وليس أصحاب القدرات المتوسطة العليا الذين يرغبون في شراء منازل فارهة كما حصل سابقاً، وبدعم من يشتري منزلاً لأول مرة، وبالتالي يمكن اعتماد احتياطي بقيمة مليار دولار سنوياً كفيل بحل الأزمة الإسكانية وإشباع الطلب الداخلي.

د – ضرورة وأهمية الالتزام التام بشروط الإقراض: يجب فرض رقابة على الجهات المصرفية، ومؤسسات التخمين العقاري والأفراد العاملين في هذا القطاع، لضمان أن الأشخاص المؤهلين والقادرين على السداد هم فقط من يحق لهم الاقتراض، وإلا فالإيجار يبقى عامـلاً مسانداً حيث ليس على الجميع واجب شراء العقار إن لم يكن قادراً على السداد وإن لم تكن لديه الرغبة للشراء والتملك.

5 – تفعيل عمل البورصة

أ – تعزيز الشفافية: إن الشركات المدرجة ضمن البورصات عليها أن تتمتع بشفافية عرض نتائجها المالية الفصلية والسنوية على الجمهور، كما يساهم إدراجها في زيادة قيمتها السوقية، وفي معرفة سعرها السوقي في حال حصول أي عملية بيع أو استحواذ مستقبـلاً، كما يكون هناك رقابة من الجمهور على مجلس إدارتها، وبالتالي تطوير عمل بورصة بيروت كفيل بتطوير العمل ضمن شركات القطاع الخاص الكبرى في كل الحقول والمجالات، ومن ضمنها المصارف وشركات التأمين، وذلك لضمان عملها بطرائق محصّنة، وبرقابة على آلياتها، وبابتعاد العائلية من الغوص بها. من هنا أهمية تطوير عمل بورصة بيروت، لضمان استقرار تلك المؤسسات وأهمية تشجيع الشركات الكبرى والمتوسطة على اختلاف فروعها وأنشطتها – من خلال ضمانات نقدية أو ضريبية – من إدراج نسبة لا تقل عن 20 بالمئة من رأسمالها الفعلي وليس الإسمي من خلال البورصة، كما ضرورة دعم الأفراد على الشراء والاستحواذ والاستثمار في الأسهم والسندات المصدرة. فهل من المنطقي أن يكون عدد الشركات المدرجة في بورصة بيروت اليوم عشر شركات فقط ‏[4]؟

ب – تفعيل التمويل التملكي في الشركات كافة من خلال آليات أسواق المال: على المصرف المركزي ضمان تمويل الشركات المتوسطة والكبرى من خلال أسواق المال والبورصة أحد أركانها الرئيسة، مع ضمان جعل المصارف الخاصة لاعباً في إدارتها لتلك الإصدارات وعمليات التمويل من الجمهور مقابل شراء وتملك جزء من ملكية تلك المؤسسات.

ج – تمويل مؤسسات الدولة اللبنانية: يمكن الدولة اللبنانية متى رغبت في الحصول على تمويل، أن تعرض في بورصة بيروت لنسبة من أسهم بعض شركاتها ومؤسساتها، وبالتالي يقوم القطاع الخاص والأفراد بالشراء، وهو ما يعزز نقدية تلك المؤسسات وفي المقابل يضمن ملكيتها من جانب مواطنين ومؤسسات لبنانية وليس خصخصتها بالمجان لمؤسسات أجنبية. وفي المقابل يصبح لها مجلس إدارة يمكن محاسبته على النتائج المالية السنوية، إذا ما اقترنت بشفافية التعيين ووجود مؤسسات تدقيق ورقابة على ميزانياتها.

6 – مستوردات الدولة

أ – ضمان شراء الدولة لسلع رئيسة من خلال المصرف المركزي: يمكن المصرف المركزي، كونه مصرف الدولة، إدارة شراء الدولة اللبنانية لعقود تمويلها من سلع رئيسية أهمها النفط والغذاء، ما يساهم في خفض السمسرات والفساد ووجود الكارتيلات، حيث لا يمكن لدولة حمايتها وتغذيتها في استيراد سلع رئيسة، ولا يجب للمصرف المركزي أن يمول عبر سندات سيادية أو من خلال احتياطيه لتلك المشتريات، من هنا يمكنه إدارة مناقصات دولية للشراء، وضمان رقابته عليها، كونه السلطة النقدية المولجة الدفع بالعملة الصعبة؛ مع ضمان عدم دعم هذه العمليات بل بيعها بسعر الاستيراد مع إضافة رسوم على العملية للمصرف المركزي لتغطية نفقاته.

ب – خفض سيطرة عملة أجنبية واحدة على معظم المستوردات: وذلك يمكن من خلال مشتريات الدولة المباشرة عن طريق المصرف المركزي، القيام بمناقصة دولية مع ضمان مشاركة موردين متعددين من مختلف الدول، ما يخفض الضغط على عملة المطلوبات/الاستيراد للقطاع الخاص التي لا يمكن التحكم فيها وفي مصادرها بنسبة كبيرة وبخاصة في ظل اقتصاد حر.

7 – الديون السيادية للدولة

أ – إدارة الديون السيادية: كما ظهر في الجداول السابقة، إن أسعار الفائدة وعلى مراحل طويلة من الزمن كانت من الأعلى على الإطلاق إذا ما قورنت بدول تتشابه مع لبنان بمستويات الدخل، والتصنيف الائتماني، وحجم السكان، وضعف الموارد الطبيعية، وبالتالي يجب إعادة جدولة الديون انطلاقاً من سعر الفائدة الذي كان مطبقاً في تلك الدول، وذلك يساهم في خفض تكلفة الدين العام اللبناني، وذلك بعد نقاش جدي مع المصارف اللبنانية.

ب – تأمين الرقابة الفعلية على مصروفات الدولة: إن الدولة اللبنانية ليست بحاجة إلى تمويل جديد بقروض جديدة لمشاريع تنوي القيام بها، فالمصرف المركزي ليست مهمته تمويل كل مشاريع الحكومة حتى التي تشوبها شبهات فساد، أو محسوبية، وبخاصة أن الاحتياطي النقدي له وظائف مختلفة، أهمها: ضمان استقرار سعر الصرف، وضمان حقوق المودعين، وسلامة القطاع النقدي والمصرفي، وبالتالي إذا ما صرف هذا الاحتياطي على مشاريع وهمية، أو مشاريع لا فائدة منها، فستضعف قدرة المصرف المركزي على التدخل والقيام بدوره المحوري والمطلوب منه وبخاصة في ظل ظروف استثنائية كالتي يتعرض لها البلد.

ج – المحاسبة والرقابة: المصرف المركزي مؤسسة مستقلة عليه واجب الرقابة السابقة واللاحقة على مشاريع الدولة التي يمولها، وبالتالي عليه معرفة أين وكيف صرفت الأموال التي أعطاها للحكومات ومن يتحمل مسؤوليتها، وعليه المطالبة بالمحاسبة عن أمواله واحتياطياته إن كانت قد صرفت بطرائق مشبوهة.

8 – تأمين حقوق المودعين

أ – ضبط العمل المصرفي الداخلي والخارجي: إن عمل لجنة الرقابة على المصارف لا يقتصر على فروع المصارف التجارية داخل لبنان، بل يتعلق أيضاً بأعمال تلك المصارف في الخارج، والشركات التابعة كافة، حيث عليها واجب مراقبة حركة أصولها، وودائعها، واستثماراتها في الداخل والخارج لضمان أن ملاءتها على درجة عالية من الأمان ما يؤمن ويضمن حقوق المودعين.

ب – تقرير مفصل من لجنة الرقابة على المصارف: يتضمن كل الأشخاص النافذين (زعماء، وأفراد حكومات، ورجال أعمال، وأقاربهم وعائلاتهم) استفادوا من قروض ليس لهم حق بها، وضمان إرجاعها للجهات المصرفية التي أخذت منها، وإن تعذر ذلك رفع الاحتياطي النقدي الإلزامي ووضع اليد مؤقتاً على الأموال الخاصة للمصارف من أجل ضمان حقوق المودعين.

خاتمة (خلاصات وتوصيات)

للجواب عن الجزء الأول من الإشكالية التي طرحت: هل كانت السياسة النقدية التي اتبعت هي الأنجح؟

يظهر من خلال الجداول المستقاة من مصرف لبنان، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، التي تم الاعتماد عليها في دراستنا هذه، أن السياسة النقدية التي اعتمدت طوال الحقبة الماضية حمّلت البلاد تكاليف باهظة من خلال نسب فائدة عالية لحقبة طويلة من الزمن استفادت منها المصارف والمودعون الكبار بصورة رئيسية من خلال إيداعاتهم وشرائهم لسندات الخزينة اللبنانية بفائدة كانت الأعلى في سنوات تميزت بأنها سنوات نمو اقتصادي بفعل رضا عربي ودولي عن لبنان، مع وجود شخصية سياسية بدور اقتصادي لها ثقلها كانت لاعباً رئيسياً في السياسة الداخلية، وحجم إنفاق هائل على هيئة قروض في إعادة ترميم ما هدمته الحرب الأهلية وصولاً إلى إعمار وبناء مناطق تهدمت في حروب شتى؛ كذلك إن الارتفاع في سعر الفائدة لشهر أو شهرين ثم عودتها إلى سعرها الطبيعي ما قبل ذلك، يحتاج إلى تدقيق ومحاسبة القضاء إن وجد.

في المقابل إن سعر الفائدة المرتفع ساهم في خسارة كثير من أصحاب المشاريع ورياديي الأعمال من قدرتهم على تمويل مشاريعهم وتطويرها، وبالتالي ساهم في تدني نسب التوظيف في البلاد، ورفع معدل البطالة إلى مستويات قياسية، وخفض النمو الاقتصادي مع ظروف معيشية سيئة، وزيادة الهجرة لكوادر عليا، إضافة إلى جعل كثير من اللبنانيين يهرعون على أبواب السياسيين للمعالجة الصحية أو لتعليم أبنائهم ما كان سبباً رئيسياً في انفجار 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019.

أما الجواب عن الجزء الثاني من الإشكالية: كيفية الخروج من الأزمة الراهنة بناء على تجارب السنوات السابقة؟ لقد تم هنا اقتراح بعض الحلول من خلال السياسة النقدية من وجهة نظر واحدة للمساهمة في الخروج من الأزمة الراهنة التي تعصف بلبنان – وتم اقتراح أسعار فائدة بناء على وضع السوق اليوم، التي يمكن خفضها مستقبـلاً. وبالتأكيد هناك الكثير من الأفكار الجدية التي يمكن اعتمادها والأخذ فيها، وعلى يقين أن السياسة النقدية المسؤول عنها المصرف المركزي بتأثيره المباشر في المصارف التجارية التي يضع فيها المقيمون والمغتربون حجم ودائع عالية ومرتفعة تتجاوز 176 مليار دولار (أيار/مايو 2019)‏[5] أي ثلاثة أضعاف حجم الناتج المحلي الإجمالي للدولة لعام 2018، هي كفيلة بتقويم الاعوجاج الحاصل وبتطوير الاستثمار من خلال استثمار جزء من هذه الودائع، مع تحقيق أرباح وعوائد للمصارف من خلال عمليات التمويل هذه. في المقابل، هي تساهم في تطوير المنشآت الاقتصادية الحالية، وبناء منشآت جديدة، وتوفير فرص عمل للآلاف من المواطنين، واستقطاب قدرات المتخرجين من الجامعات والمعاهد اللبنانية، وتنمية متوازنة للمناطق، وتحقيق التنمية الاجتماعية، وتطوير معدلات النمو الاقتصادي في الدولة.

المصادر:

(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 490 في كانون الأول/ ديسمبر 2019.

(**) فرحات أسعد فرحات: باحث ومستشار اقتصادي – لبنان.

[1] «70 بالمئة من الودائع اللبنانية محرّرة بالعملات الأجنبية،» نشرة ABL الشهرية الصادرة عن جمعية مصارف لبنان (أيار/مايو 2019)، الافتتاحية؛ وذلك قبل 5 أشهر من الأزمة التي شهدنا خلالها كثيراً من عمليات التحويل النقدي إلى عملات صعبة.

[2] رئاسة مجلس الوزراء، تاريخ المجلس، عهد الرئيس الياس الهراوي.

[3] المصدر: المجلس الاقتصادي والاجتماعي، تقرير عن البطالة في لبنان، أرقام وزارة العمل (آذار/مارس 2019).

[4] المصدر: بورصة بيروت، الشركات المدرجة.

[5] جريدة النهار اللبنانية، المصدر: رويترز، 23 تموز/يوليو 2019، مقابلة مع رئيس جمعية مصارف لبنان سليم صفير.

 

رابط المصدر:

https://caus.org.lb/ar/%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%B3%D8%A8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AE/?fbclid=IwAR1awsLYxykMisudcYop207MYzMlU9j_Pe2TXYn0z4sr0UtWzKyM-BRcNyg

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M