أضواء على التداعيات المحتملة لقرار المحكمة الاتحادية العراقية

نرمين سعيد

 

أثار قرار المحكمة الاتحادية العليا في العراق بشأن إيقاف إرسال الأموال إلى إقليم كردستان بشكل شهري، والخاصة برواتب موظفي الإقليم، خلافات سياسية جديدة بين حكومة الإقليم -الذي يتمتع بحكم ذاتي حسب الدستور العراقي- والحكومة الاتحادية. وتسبب هذا القرار كذلك في خلافات بين قوى ائتلاف “إدارة الدولة”، الذي يجمع القوى السياسية العراقية التي شكّلت الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني، وأبرزها “الإطار التنسيقي” و”تحالف السيادة” والحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. ويشكل القرار تغريدًا يبعد عن السرب بمسافات طويلة فيما يتعلق بحلحلة الأمور العالقة بين إقليم “كردستان” العراق وبغداد، وعلى هذا يمكن رصد أبرز تداعيات قرار المحكمة الاتحادية في عدد من الجوانب شديدة التأثير على مستقبل المشهد السياسي العراقي.

تداعيات القرار

● تصعيد الخلافات داخل ائتلاف “إدارة الدولة”: تكمن خطورة التصعيد في أنه يحدث داخل الائتلاف الذي شكل الحكومة الحالية والذي خرج بالعراق من نفق الفراغ السياسي المظلم الذي قبع فيه منذ انتخابات أكتوبر الأخيرة، وكان ذلك ملموسًا بوضوح من خلال استقراء تصريحات رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود برزاني التي أشار خلالها إلى أن قرار الاتحادية يمثل “انتهاكًا للحقوق والمبادئ” التي استقر عليها الدستور العراقي، مضيفًا أن “استحقاقات إقليم كردستان حق مشروع”. وكان الانعكاس الأوضح في التفكك المرتقب أنه أكد أن حقوق كردستان الشهرية جزء من البرنامج السياسي المتفق عليه والذي أوصل شياع السوداني لكرسي رئاسة الحكومة.

وقد وصل التصعيد داخل الائتلاف إلى وجود تبليغ من قبل الحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة بمقاطعة اجتماعات الائتلاف بسبب عدم الالتزام بالاتفاقات السياسية التي على إثرها شُكلت حكومة السوداني وأُسس ائتلاف إدارة الدولة. ويظل رد الفعل الأكثر بروزًا هو زيارة رئيس إقليم كردستان، نيجيرفان بارزاني، إلى تركيا بعد صدور قرار الاتحادية ولقائه بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ويمكن الإشارة إلى إن زيارة رئيس الإقليم إلى أنقرة بعد ساعات من صدور قرار المحكمة الاتحادية تمثل رسالة واضحة للحكومة المركزية في بغداد بأن للإقليم خياراته السياسية للردّ على هذا القرار.

● تجميد حالة الحوار بين أربيل وبغداد: على إثر قرار المحكمة الاتحادية قررت حكومة إقليم كردستان وقف الحوار مع بغداد وإلغاء زيارة رفيعة المستوى كان موعدها مقررًا بالفعل والتي تعد ضمن سلسلة زيارات تم تبادلها منذ وصول السوداني إلى السلطة، وهو تطور للأمور في اتجاه غير مرغوب بالنسبة لاستقرار الحالة السياسية في العراق.

● خلق حالة من السخط لدى الأكراد في العراق: وذلك لأن قرار المحكمة الاتحادية يعني أن الموظفين في الإقليم لن يكونوا قادرين على الحصول على رواتبهم لأجل غير مسمى حتى الآن، وهو ما يخلق حالة من تخلي الحكومة المركزية عنهم تضاف إلى ما سبق من وقوف بغداد صامتة أمام الاستهداف العسكري الإيراني والتركي لمواقع في كردستان العراق.

● فتح المجال أمام الانتقادات السياسية للمحكمة الاتحادية: وذلك بالرجوع إلى أن المحاكم الدستورية والعليا لها بعد سياسي في قراراتها بالاعتماد على أنها تتعامل في الأساس مع الدساتير التي هي وثائق اجتماعية وسياسية واقتصادية واجتماعية، ومن المهام الأساسية للمحكمة حماية الحقوق والحريات، وأن تدافع عن المبادئ الدستورية وتحمي حقوق المواطن العراقي أينما كان، ومهما كانت قوميته أو دينه أو مذهبه، ولما كان القرار الأخير يحرم مواطنين عراقيين من حقوقهم فهو قد يكون مطعونًا في دستوريته.

دلالات التوقيت

يبدو توقيت القرار بعيدًا عن “العفوية” لأنه يتزامن مع عدد من القضايا الحيوية على الساحتين الإقليمية والدولية؛ فعلى الصعيد الإقليمي، يتزامن القرار مع الرغبة الإيرانية المحمومة في فرض سيطرتها على العراق ويفهم ذلك من الحالة الهستيرية التي أصابت الخارجية الإيرانية بعد نجاح العراق في تنظيم “كأس الخليج” وما يمثله ذلك من تقارب مع محيطه العربي، وبعد أن أشار “السوداني” إلى الخليج العربي بوصفه خليجًا عربيًا وليس خليجًا فارسيًا. وعلى الصعيد الدولي، فهناك أزمة ضخمة في مسألة الطاقة على خلفية الحرب الروسية- الأوكرانية، وبالتالي فإن الحكومة الاتحادية تجد أن مسألة الغاز والنفط الموجودة في إقليم كردستان يجب أن يتم حلها جذريًا. وبشكل أكثر تفصيلًا على مستوى التوقيت فإن قرار المحكمة الاتحادية يهدف إلى:

● عرقلة مصالح الولايات المتحدة في العراق: نظرًا إلى الحالة غير المستقرة لأمن الطاقة التي أفرزتها الحرب الروسية -الأوكرانية ورغبة الولايات المتحدة في تأمين مصدر مستقر للطاقة في الفترة المقبلة فقد عملت على التوسط بين أربيل وبغداد للوصول إلى اتفاق بهذا المعنى مما دفع بالأطراف العراقية المطلعة إلى ضرب مشروع الاتفاق حتى لا يتم استغلال الإقليم في لعبة الحرب عن طريق تأمين مصدر طاقة مستقر لتركيا يحد من تعاملها مع الطاقة الروسية والإيرانية.

● الخلافات داخل التنسيقي: تدرك قوى الإطار التنسيقي أن تصاعد الخلاف مع باقي أطراف تحالف إدارة الدولة قد يؤدي في نهاية المطاف إلى سقوط حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، ويبدو هذا مطروحًا في الوقت الحالي بسبب عدد من الملفات الخلافية داخل التنسيقي والتي تتضمن المناصب الأمنية التي ما زالت بعض قوى الإطار التنسيقي، تحديدًا المسلحة منها، والحديث هنا عن كتائب “حزب الله” العراقي وعصائب أهل الحق، مصرةً على الاستحواذ عليها، كجهاز الأمن الوطني وجهاز المخابرات وجهاز مكافحة الإرهاب. وقد رفض السوداني عددًا من الأسماء التي أراد التنسيقي فرضها عليه وتحديدًا لأن السوداني يدرك جيدًا مخاطر تسليم هذه المناصب للفصائل المسلحة، خصوصًا على مستوى العلاقة الأمنية مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، والتفاهمات الأمنية والاستخبارية مع بعض دول الجوار الإقليمي، بشأن العديد من الملفات التي يأتي في مقدمتها تنسيق الجهود لمكافحة تهديدات تنظيم “داعش”. وفي الوقت الذي يرغب فيه رئيس الوزراء الحالي في الحفاظ على هذا المستوى من العلاقات مع الولايات المتحدة، ترغب قوى في الإطار التنسيقي في ضرب هذه العلاقات لصالح التكتل الموالي لإيران، وفي هذا استباق لزيارة وزير الخارجية العراقي المرتقبة إلى واشنطن لاستكمال جولات الحوار الاستراتيجي.

● أزمة الدولار: منذ مطلع الأسبوع الماضي، بدأت ملامح أزمة اقتصادية جديدة تعصف بالعراق، بعد الارتفاع المفاجئ في قيمة الدولار الأمريكي مقابل الدينار العراقي، وهو ارتفاع جاء بعد سلسلة من العقوبات التي فرضها البنك الفيدرالي الأمريكي على عدد من البنوك العراقية المرتبطة بفصائل مسلحة موالية لإيران، التي يُشتبه بوقوفها خلف عملية تهريب الدولار إلى خارج العراق، وهدفت هذه العقوبات إلى منع عمليات التهريب بسبب ارتفاع مؤشرات الفساد، وفرض كذلك تشديدًا أكبر على حركة الحوالات. وكانت شبكة “إيران إنترناشيونال” قد كشفت في وقت سابق الأسباب التي أدت لانخفاض قيمة الدينار العراقي، موضحة أن الولايات المتحدة تمنع دخول الدولار إلى إيران، وتفرض على العراق حصر التبادل التجاري معها بالدينار العراقي فقط.

استخلاصًا، يبقى أمام الأكراد عدد من الخيارات التي تتضمن تحركات سياسية مثل التقارب مع تركيا وهو ما انعكس في زيارة رئيس الإقليم عشية صدور القرار، وقد يلجأ الأكراد إلى عرقلة عمل الحكومة الحالية من خلال المطالبة بتنفيذ الاستحقاقات التي وقعها الاطار شرطًا لتشكيل حكومة السوداني وأولها قانون الانتخابات وانتخابات مجالس المحافظات وإعلان موعد للانتخابات المبكرة، مع الأخذ بالحسبان أن البرلمان العراقي رفض بالفعل تعديل قانون الانتخابات ولذلك فقد يتم تصعيد الأمور إلى حد الإعلان عن خروج او تجميد حصة الأكراد داخل الحكومة والبرلمان ومقاطعة العملية السياسية والعودة الى إحياء العلاقة بين أربيل والحنانة في سير على خطى السيد مقتدى الصدر. ومن ناحية أخرى، ربما لا ترغب القوى داخل الإطار التنسيقي في التصعيد حتى مرحلة اللا عودة ومحاولة التعامل السياسي مع رغبة “السوداني” في الفكاك من الوصاية السياسية المفروضة عليه من قبل نوري المالكي وقيس الخزعلي وربما ترتب هذا الفهم بعد زيارة إسماعيل قآاني الخاطفة إلى بغداد والتي هدفت بشكل أساسي إلى احتواء الخلافات المتزايدة داخل التنسيقي وتحالف إدارة الدولة خصوصًا أن طهران لا تريد ظهورًا سياسيًا للتيار الصدري مرة أخرى في الوقت الذي أبدى فيه مقتدى الصدر أمارات لذلك، ومن ثم فإن إيران أمام مهمة من المستحيل أن تقبل بالفشل فيها.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/75337/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M