تتجه أنظار العالم في الآونة الأخير نحو أفريقيا باعتبارها قارة الثروات، وذلك في ظل ما تمتلكه القارة من قدرات لا تزال غير مستغلة؛ إذ تحتوي على 30% من احتياطيات المعادن في العالم، ويوجد بها نحو 65% من الأراضي الصالحة للزراعة. كما تشكل أكبر احتياطيات العالم من الكوبالت والألماس والبلاتين واليورانيوم، ويرتكز نحو 90% من معدني الكروم والبلاتين في القارة السمراء، بالإضافة إلى نحو 40% من الذهب العالمي، وقرابة 10% من المياه المتجددة العزبة.
كل هذا شكل دافع قوي لدى القوى العظمى لمحاولة الفوز بتلك الكنوز المخبأة، فقد دعا الرئيس الأمريكي جو بايدن 49 رئيسًا أفريقيا لحضور قمة أمريكية أفريقية، الأمر الذي فتح باب التساؤل حول ماهية فلسفة التحرك الأمريكي تجاه أفريقيا وكيف تختلف عن التحركات الصينية في القارة السمراء.
وللوقوف بصورة أكثر دقة على تحركات القوى الكبرى في الداخل الأفريقي، دعونا نستعرض مقارنة بين التبادل التجاري الأفريقي الصيني والأمريكي، حيث تمثل الصين الشريك الأول لأفريقيا في حين تأتي الولايات المتحدة في المرتبة الثالثة، حيث يشكل حجم التبادل التجاري الصيني الأفريقي نحو 250 مليار دولار في مقابل نحو 64 مليار دولار حجم التبادل التجاري الأمريكي الأفريقي، ويشير الشكل التالي إلى تطور حجم التبادل التجاري بين أفريقيا وكلا من الصين والولايات المتحدة خلال الفترة (2017- 2022).
اتصالًا مع استشراف الصورة بشكل أكثر دقة، دعونا نعود إلى الوراء مع بزوغ الصين كقوى عظمى واستعراض كيف تحركت داخل أفريقيا منذ ما يقرب من 20 عامًا، فقد غزتِ الصين أفريقيا بالمال والنفوذ. إذ تزامنت البدايات الأولى للنفوذ الاقتصادي الصيني في أفريقيا منذ انطلاق منتدى التعاون الصيني الإفريقي سنة 2000، والذي تضاعف على أثره حجم التبادل التجاري بين القارة السمراء والصين وحتى اليوم أضعاف كثيرة، إذ ارتفع حجم التبادل من 10 مليارات دولار إلى 250 مليار دولار، وارتفعت نسبة حجم التبادل التجاري الصيني الإفريقي في الحجم الكلي للتجارة الخارجية الإفريقية من 3.82% إلى 20.5%، وزاد إجمالي حجم الاستثمارات الصينية في أفريقيا من 500 مليون دولار إلى 30 مليار دولار.
فقد استثمرت الشركات الصينية، في مشروعات استكشاف النِّفْط وتشييد البنية التحتية والطرق والسكك الحديدية وفي برامج الزراعة والتعليم. كما توسعت الصين في بناء الطرق والجسور والسدود بتكاليف أقلَّ وفي وقت أقلَّ ممَّا كان الأفارقة يتَوَقَّعونه. وكان النهج الصيني للحَفْر بحثًا عن النِّفْط في أفريقيا يرتكز على الاكتشافات الصغيرة، بخلاف نهج الولايات المتحدة التي ترتكز على الاكتشافات الكبيرة. لكن الأمر المُهِمَّ هو أن الصين صارتْ أحدَ اللاعبين الكبار في مجال النِّفْط في أفريقيا.
كما درَّبتِ الصين آلاف الأفارقة في جامعات صينية، وأرسلتْ آلاف الأطباء إلى أفريقيا، إلى جانب مضاعفة المساعدات الصينية إلى أفريقيا بحلول عام ٢٠٠٩، وتدريب خمسة عشر ألفًا مهنيًا محترفًا، وتقديم مِنَح دراسية لأربعة آلاف طالب أفريقي، وتقديم المساعدة بشأن مشكلات الزراعة بالقارة. أيضًا، شطبت الصينُ ١٠ مليارات دولار من الديون الثنائية المستحقَّة على بعض الدول الأفريقية.
هذا ولم يقتصر التعاون الصيني الأفريقي على الجانب الاقتصادي فقط، فقد اتسع نطاقه ليصبح عسكريًا مع بناء الصين لأول قاعدة عسكرية لها خارج حدودها في جيبوتي، الأمر الذي أثار حفيظة الولايات المتحدة وهذا ما أشار تقرير للكونجرس صدر عام 2021، والذي يلخص فيه التحركات الصينية في أفريقيا فقد قال البنتاجون إن الصين ربما تنظر في مسألة إقامة المزيد من القواعد العسكرية في دول مثل كينيا وسيشيل وتنزانيا وأنغولا.
إجمالًا، يمكن وصف طبيعة العلاقات الصينية الإفريقية، بأنها علاقات تقوم على المساواة والشراكة كون الصين تروج لنفسها باعتبارها اقتصادًا ناشئًا بما تمثل دولة ندّ، وقدوة في النهوض للدول الأفريقية وليس لها أي أجندة استعمارية. ويمكن تلخيص أهم أهداف الصين في أفريقيا من خلال النقاط التالية:
أولًا: الأهداف الاقتصادية، التي تتمثّل في الحصول على المواد الأولية أو المواد الخام، مثل النفط والمعادن.
ثانيًا: الحاجة لأسواق جديدة، وبخاصة في مناطق مثل أفريقيا لا تجد فيها منافسة تذكر من البضائع الغربية. ولدى أفريقيا سوقًا واعدة، ولمواطنيها قوة شرائية صاعدة. وتقدّر الأمم المتحدة أن عدد سكان أفريقيا سيبلغ حوالي 2.4 مليار نسمة بحلول 2050.
ثالثًا: الاستفادة من الكتلة التصويتية للقارة الأفريقية في المحافل الدولية، وخاصة في قضايا مهمة، مثل قضية “الصين الموحدة” التي تشمل الصين وتايوان وهونغ كونغ.
رابعًا: امتلاك الصين مصالح أمنية في أفريقيا، ولاسيّما في المناطق المطلّة على الممرات المائية، مثل السودان وإثيوبيا وأرتيريا والصومال
خامسًا: الغذاء، فمع التوسّع الصيني في الصناعة واستهلاك المياه والمساحات في التصنيع، تحتاج الصين في المستقبل إلى تأمين احتياجاتها الغذائية من خلال مشروعات غذائية عملاقة في أفريقيا.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، نلاحظ ارتكازها بصورة رئيسة على النفط والمواد البترولية، كما أن السياسة الأمريكية في كثير من الأحيان قد رفعت شعار أمريكا أولًا، وذلك في عهد الرئيس ترامب، دون الالتفات لحل مشاكل القارات الأخرى، والتركيز على الشأن الأمريكي بما أفسح معه المجال أمام الصين لمد نفوذها بصورة كبيرة، وإحكام سيطرتها الاقتصادية على أغلب المناطق الأفريقية.
مما سبق، يتضح لنا أن الدور الاستثماري والاقتصادي والتجاري الذي لعبته الصين خلال الفترة الأخيرة في أفريقيا، يعدّ دورًا فاعلًا ومتميزًا مقارنة بالدور الأمريكي، ولكن يجب أن نضع في الاعتبار أن الدور الأمريكي آخذ في الازدياد مع القمة الأخيرة التي دعت لها الولايات المتحدة، ولكن هذا يفتح التساؤل حول المسار الذي سيؤول إليه التسابق الأمريكي الصيني على أفريقيا.
.
رابط المصدر: