تعاون مصر مع صندوق النقد: الدلالات والتوقعات

أحمد بيومي

 

توصلت مصر إلى اتفاق مع المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي، على ترتيب تمويلي جديد مدته 46 شهرًا في إطار تسهيل الصندوق الممدد لمصر بقيمة 3 مليارات دولار أمريكي، ويأتي هذا التعاون بعد الجهود الكبيرة التي بذلتها الدبلوماسية الاقتصادية المصرية على مدار العشرة أشهر الأخيرة، للتوصل إلى تفاهم مع الصندوق بشأن هذا التمويل، والحقيقة أن الأمر لا يتعلق بالتمويل بقدر ما يتعلق بحزمة السياسات الشاملة التي يتم تنفيذها للحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي، وتمهيد الطريق لنمو شامل يلعب فيه القطاع الخاص الدور الأكبر.

تتضمن الخطط الإصلاحية استهداف لخفض معدلات التضخم، وضبط أوضاع المالية العامة لاستمرار انخفاض مسار الدين العام، وتعزيز شبكة الحماية الاجتماعية بالنسبة للمواطنين، وتطبيق منظومة تسعير مرنة للعملة المحلية، وتلك السياسات هي أمر يُنظر لها على أنها سيكون لها قدرة على المساهمة في استعادة الثقة في مسار الاقتصاد المصري خلال الفترة المقبلة، وهو ما سيكون له دور مهم في تعزيز حصول مصر على تمويلات إضافية من شركاء مصر المحليين والإقليميين والدوليين. لكن قبل الحديث عن مكتسبات هذا التعاون ربما يجب علينا الإجابة على بعض التساؤلات في ذهن القارئ وهي، لماذا لجأت مصر إلى الصندوق؟ ولماذا ينظر لذلك التعاون بالمثمر والإيجابي؟ وما هو مستقبل الاقتصاد المصري خلال الفترة المقبلة؟

جفاف التمويلات

شهد عام 2022 العديد من الأحداث المتوالية التي خلقت أزمة مركبة، فبداية الأمر كان العالم يخطو خطواته الأولى بحذر لاستعادة عافيته من جائحة كورونا، التي أثقلت موازنات الدول عالميًا ومحليًا بالديون بهدف الإنفاق على برامج السياسات العامة الصحية، وتلك الاتفاقات كانت سببًا في صدور العديد من القرارات التي سمحت لعجز الموازنات بالعديد من البلدان عالميًا ومنها مصر بزيادة إجمالي العجز الكلي بالبلاد، بهدف الإنفاق على توفير مستلزمات الرعاية الطبية والحفاظ على صحة مواطنيها، لكن وفي ظل هذه الموازنات المنهكة، وأزمات الشحن العالمية التي تسمى بسلاسل التوريد (شح في توريد البضائع عالميًا بسبب زيادة الطلب بشكل مفاجئ وعدم قدرة سفن الشحن البحري على الوفاء بذلك الطلب بشكل فوري)، جاءت الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير من عام 2022 لتخلق واقعًا عالميًا جديدًا، لتضيف إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية وأزمات سلاسل التوريد مزيدًا من الارتفاع في تلك السلع، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الطاقة، وتلك الارتفاعات في الأسعار سببت تضخمًا عالميًا، وسارعت البنوك المركزية عالميا لتجنبه من خلال رفع أسعار فوائدها واحدة تلو الأخرى وبأسرع وتيرة رفع حدثت منذ عقود.

كل ما سبق ذكره، يهدف إلى الإشارة إلى أن رفع أسعار الفائدة يعني أن هناك صعوبة في الحصول على تمويل، فعلى سبيل المثال كانت مصر لديها القدرة على الاستدانة من خلال إصدار سندات دولارية باستحقاقات متفاوتة بين 5-7 – 10 سنوات وبفوائد تتراوح بين 5 – 8 %، وفقا لنوع الإصدار والتمويل، لكن رفع الولايات المتحدة الأمريكية لسعر الفائدة رفع من تكلفة التمويل للدول الناشئة ومنها مصر. وعليه فإنه في حال رغبة مصر في الحصول على تمويل في الوقت الحالي من سوق السندات العالمي وبالدولار الأمريكي، فإن التسعير سيزيد عن السعر السابق بحوالي 4 % تقريبًا، وهو بالطبع أمر غير مقبول أن تتم الاستدانة بذلك التسعير المرتفع. الأمر الثاني هو إنه في ظل بيئة جفاف تمويلية عالميًا (بيئة مرتفعة أسعار الفائدة) يصعب الحصول على استثمار أجنبي مباشر أو غير مباشر، لأن ارتفاع أسعار الفائدة يرفع من تكلفة التمويل ويزيد من مخاطر الاستثمار في الأسواق الناشئة (ومنها مصر).

وفي ظل النظرة إلى تلك الفترة  (البيئة الاقتصادية مرتفعة أسعار الفائدة) على أنها فترة مؤقتة، ستعود للاستقرار في النصف الثاني من عام 2023 أو مع بداية العام 2024، فكرت مصر في استثمار دبلوماسيتها الاقتصادية وعلاقتها الجيدة بمؤسسات التمويل الدولية التي يأتي على رأسها صندوق النقد الدولي، بهدف التوصل إلى اتفاق تحصل بموجبه مصر على حزمة تمويلية تساعدها على تخطي الفترة الحالية المؤقتة (عام 2023)، خاصة وأن فوائد التمويل من جانب صندوق النقد الدولي تكون مدعومة للغاية، إذ إنها تتراوح بين 1.8 % إلى 3.0 % حسب نوع الاتفاق وحجم التمويل ورصيد كل دولة بالصندوق، وهو ما يمكن النظر إليه على أنه نجاح مصري على مستوى السياسات الاقتصادية، و قدرتها للتوصل مع الصندوق إلى اتفاق في الوقت الحالي الذي تتجه  فيه كثير من الدول لمخاطبة الصندوق للحصول على تمويلات بأسعار مخفضة.

شهادة ثقة

مجددًا ليس الهدف الرئيس من تعاون مصر مع صندوق النقد الدولي هو الحصول على تمويل بقيمة 3 مليارات دولار؛ إذ إن ذلك المبلغ ضئيل للغاية بالنسبة لإمكانيات الاقتصاد المصري القادر على توفيره من خلال بيع حصص في الشركات المملوكة للدولة إلى القطاع الخاص، أو من خلال أي مصادر أخرى لمصر مثل (تحويلات المصريين العاملين بالخارج، أو السياحة، أو قناة السويس وغيرها من مصادر الدخل الأجنبي للدولة المصرية)، لكن القصد من التمويل هو الحصول على شهادة ثقة من جانب الصندوق يمكن استخدامها لجذب المزيد من التمويلات والاستثمارات من جانب مجتمع الأعمال الدولي ومؤسسات التمويل الدولية؛ إذ إنه من المعروف أن الصندوق لا يوافق على منح أية تمويلات للدولة قبل دراسة الوضع الاقتصادي لها، بشكل عميق والتحقق من السياسات الاقتصادية التي تطبقها، وضمان أن تلك الدولة قادرة على رد تلك المبالغ في المستقبل، وذلك من خلال كوادره من الخبراء القائمين على العمل به.

ومن ثم يمكن النظر إلى موافقة طرف عنيد للغاية مثل الصندوق على تمويل مصر على أنها شهادة جدارة ائتمانية تؤكد مرونة الاقتصاد المصري وصلابة هيكله وصحة مسار سياساته الاقتصادية المطبقة، ومن ثم فإن تلك الشهادة تعتمد عليها العديد من مؤسسات التمويل الدولية للاستثمار أو الدخول في شراكات تمويلية مع مصر، ونبرهن على ذلك بأن مصر بتوصلها إلى اتفاق تعاونها مع الصندوق حصلت على تعهدات تمويلية من أطراف متعددة بقيمة تمويلات تقترب من 14 مليار دولار، وما كان لتلك الأموال أن تعرف طريقها إلى مصر دون شهادة الثقة التي منحها الصندوق لمصر.

مستقبل الاقتصاد المصري

نستطيع رسم ملامح مستقبل الاقتصاد المصري من خلال  الاستعانة بالديباجة التي وردت على موقع صندوق النقد الدولي في إعلانه عن توصله إلى اتفاق مع مصر، حيث وصف الصندوق الاقتصاد المصري بالمرن والذي استطاع مواجهة عدد من الأزمات الاقتصادية مثل جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، لكنه أشار إلى عدد من نقاط الضعف التي تتطلب التدخل لعلاجها والتي أظهرها الضغط الذي سببته الحرب الروسية الأوكرانية، وتتلخص هذه النقاط  في: تأخر إجراء بعض الإصلاحات الهيكلية بالاقتصاد التي تفتح مجالًا أكبر أمام القطاع الخاص، وتطبيق سياسة سعر صرف أكثر مرونة تكون قادرة على التعاطي مع المتغيرات الاقتصادية، والسيطرة على نمو الدين العام بشكل عام.

لكن الخطوات التي اتخذتها الدولة المصرية نحو تطبيق سياسة سعر صرف أكثر مرونة في عام 2022 كانت خطوة في المسار الصحيح للاقتصاد، سيتبعها العديد من الخطوات الأخرى التي تشجع دور القطاع الخاص وتفسح له المجال بشكل أكبر للمشاركة بالاقتصاد، والسيطرة على الدين العام لعلاج بعض الاختلالات الهيكلية بالاقتصاد، هذا فضلًا عن اعتزام الدولة المصرية إجراء إصلاحات اقتصادية حقيقية، تتمثل في: الاهتمام بالصناعة، والسعي إلى زيادة صادرات مصر للوصول إلى مستهدف 100 مليار دولار، هذا فضلا عن تطبيق سياسة وثيقة ملكية الدولة التي تستهدف جذب 10 مليارات دولار سنويًا، وذلك من خلال بيع حصص في بعض الشركات المملوكة للدولة بإجمالي 40 مليار دولار يتم تنفيذها خلال 4 سنوات.

مما سبق يتضح أن مصر أمام عام أقل حدة من حيث الظروف الاقتصادية من عام الحرب، حيث يمكن القول إن الأصعب قد مر، ونواجه في عام 2023 خطوات متعددة لتخفيف حدة التشديد النقدي وصولًا إلى العام التالي له والذي يمكن تسميته بعام الانفراجة. ويدخل الاقتصاد المصري عام 2023 بثلاث أدوات رئيسة: أولها، الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي وعدد من مؤسسات التمويل الدولية الذي وفر تمويلات بحوالي 14 مليار دولار، وثانيها، حالة الاستقرار التي شهدتها أسعار الطاقة والغذاء عالميًا والتي تخفف الضغط على الميزان التجاري، ومن جانب آخر فإن إيرادات السياحة وتحويلات المصريين العاملين بالخارج وقناة السويس وبرامج التوسع في شراكة القطاع الخاص وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر المعززة من شأنها أن تحسن الوضع الخارجي بالبلاد، أما الأمر الثالث والأكثر أهمية فهو الاستقرار السياسي الذي تشهده مصر والذي يعد الرهان الأهم في قدرة مصر على تجاوز تلك الأزمة العالمية.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/74590/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M