أمريكا: المثقفون السود والجمهور الأبيض

بقلم: ماتيوه كلير/ترجمة: عبده حقي

 

في الخريف الماضي تلقيت رسالة في بريدًي إلإلكترونيً من زميلة في جامعة هارفارد تدعوني للانضمام إلى مجموعة لقراءة كتاب “بيني وبين العالم” للكاتب تانيسي كوتس. وكتبت قبل أن توضح في السطر التالي: “في ذهني صورة في هذا الصباح لقاعة مليئة بالأشخاص البيض يناقشون الكتاب” “بالتأكيد أنا لا أقصد أن أقول لك تعال واشرح للحضور كيف نعيش نحن كزنوج”. لكن بالطبع بطريقة غير مباشرة هذا بالضبط ما قصدته زميلتي.

في خضم احتجاجات ضد العنف العنصري من قبل الشرطة ونقاشات كثيرة حول حدود حرية التعبير في حرم جامعي متنوع أكثر فأكثر جعل العديد من التقدميين (غالبًا من البيض) يفركون رؤوسهم متسائلين. ما الذي يفسر التصاعد الراهن في موجة تحقير الأمريكيين السود، بعد ثماني سنوات فقط على انتخاب أول رئيس أسود للبلاد؟ عديد من المثقفين السود مثل كوتس – الذين يُنظر إليهم على أنهم هم المحاورين الحقيقيين للتجربة السوداء – تم تسخيرهم من أجل فهم هذا الإحباط. إن كون كوتس رجلا أسود ومولودا بمركز مدينة بالتيمور المضطربة لم يعمل سوى على الرفع من صحة تلك النظرة في عيون الجمهور الليبرالي الأبيض الذي يبحث عن إجابات لهذه المعضلة. لكنني حتى أنا -الابن الذي نشأ في الضواحي من طبيبين أسودين- الحامل لأصالة عرقية معينة يبدو لي أن هذا الموقف أدعمه وأرغب فيه كثيرًا في الفضاءات الأكاديمية التي يغلب عليها المواطنون البيض.

من أين يأتي هذا الاعتقاد وهذا الطلب للتفسيرات العنصرية المتأصلة لحياة الأشخاص السود؟ بصرف النظر عن كونها فريدة من نوعها في هذه اللحظة الراهنة فإن فكرة التفسير الحقيقي للاسوداد العنصري هي أساسًا تمثل سندا من أجل فهم أمريكي لدور المثقفين السود منذ أكثر من قرن من الزمن. هناك كتابان حديثان يستكشفان من خلال طرق متباينة مركزية الأصالة العرقية في الممارسة الفكرية السوداء – أو الإيمان بمعرفة سوداء متفردة وموثوقة أنتجها العلماء والكتاب والفنانين السود.

في كتابه “في الزاوية On the Corner” يدرس دانيال ماتلين كيفية تمييز كل من كينيث كلارك عالم النفس والكاتب أميري بركة والفنان رومار بيردن بشكل مختلف في تصنيفهم على أنهم “متحاورون محليون” للجماهير البيضاء في الستينيات. وعلى غرار ذلك في كتابه “المفكر النكرة” The Scholar Denied يستكشف ألدون موريس الممارسة الفكرية السوداء، ولكن خلال الفترة التي عبر فيها العديد من جماهير البيضاء عن اهتمام ضئيل بأفكار المثقفين السود حتى بالنسبة لعالم الاجتماع ويليام إدوار بورغارد دوبوا المعروف اختصارا ب W. E. B. Du Bois. إن وضع هذان الكتابان في دائرة النقاش اليوم يساعد على إضاءة كلفة ومزايا الأصالة العرقية في إنتاج المعرفة الأمريكية السوداء وبالتالي في النضال من أجل تغيير مسار عدم المساواة العرقية الأمريكية.

يرى ماتلين بأن الستينيات قد شكلت نقطة تحول في موقف المثقفين السود تجاه التقدميين البيض. إن هجرة الأمريكيين من أصل أفريقي من الجنوب إلى المدن الرئيسية في الشمال والغرب الأوسط في منتصف القرن العشرين قد أدت إلى نقل جغرافي ورمزي هائل لأمريكا السوداء. فقد ظهر مصطلح “غيتو” و”حضري” للدلالة على صنف من السكان تم استغلالهم واحتواءهم عبر الأجيال المتعاقبة في الجنوب الريفي. لكن توقعات المهاجرين المتطلعة للازدهار كما في الشمال قد أحبطتها حقيقة المساكن المتداعية وتراجع قطاع التصنيع وأشكال العنصرية الأكثر حداثة والأقل حدة. أصبحت المدن مضطربة. عديد من الجماهير البيضاء التفتوا إلى المثقفين السود -الذين وصفهم ماتلين بـ “المطلعون” العنصريون ” المؤهلون بالمعرفة التجريبية”– لإعطاء معنى للغيتوهات السوداء الناشئة والميل نحو السياسة الانفصالية العنصرية لحركة القوة السوداءBlack Power.

ينطلق كتاب “في الزاوية” من أعمال الشغب في هارليم عام 1964. خلال مشاجرة عنصرية بين رجل أبيض والعديد من الطلاب السود الشباب في جانب الشمال الشرقي من مانهاتن حيث قتل جيمس باول وهو صبي أسود برصاص توماس جيليجان ضابط شرطة أبيض. لقد استمرت الاحتجاجات عدة أيام. ومع تقدم أيام الصيف اجتاحت انتفاضات مماثلة ضد وحشية الشرطة مدنًا من فيلادلفيا إلى روتشستر. بالنسبة للعديد من المراقبين كانت مخاطر غيتوهات السود الشمالية قد تسببت بسرعة في تراجع وعود حركة الحقوق المدنية الجنوبية التي هيمنت على التغطية الإعلامية في العقد السابق.

“في خضم أعمال الشغب” سعى بعض الفاعلين المثقفين مثل الصحفيين والمنتجين المسرحيين وصانعي السياسات إلى المثقفين السود لتفسير أوضاع “الحياة الحضرية السوداء للجمهور الأمريكي الأبيض”. بالنسبة لهؤلاء الفاعلين المثقفين كانت الهوية العرقية للمثقفين السود – بالإضافة إلى فكرهم وتكوينهم التعليمي – أساسية لمشروعية مطالبهم بحل أزماتهم في المدن. وقد كتب ماتلين: “إن منطق الأصالة العرقية ينص على أن المثقفين السود يتحملون مسؤولية خاصة لتمثيل – بالمعنى المزدوج للكلمة – شعبهم وأنهم بصفتهم مطلعين عرقيين قادرون بشكل على القيام بذلك.. ”

وبقدر ما تم فرضه من قبل الجماهير البيضاء فقد تم التعبير عن منطق الأصالة العرقية من قبل الجمهور والمثقفين السود أيضًا. وقد ناقش عديد من المثقفين المختلفين مثل دو بوا وباراكا بأن السود لا يمتلكون فقط فهمًا حميمًا لاسودادهم ولكن أيضًا السلطة الأخلاقية للتحدث أولاً عن المشاكل الاجتماعية التي تواجه الأحياء السوداء. في الستينيات من القرن الماضي استوعب الليبراليون البيض هذه المطالب المزدوجة معززين بذلك نقاشا حقيقيًا لـ “تصريحات أولئك الذين يعتقد أنهم يمتلكون المعرفة الحميمة بالحياة السوداء والقدرة على التعبير عن هذه المعرفة لجمهور أبيض واسع.” هذا النقاش أسهم في تعزيز المشوار المهني لعديد من المثقفين السود في ذلك الوقت. تمت دعوة العلماء والكتاب والفنانين السود إلى البيت الأبيض وطُلب منهم بانتظام تقديم وجهة نظرهم حول أزمات الحواضر السوداء العديدة الكبيرة منها والصغيرة من خلال حوارات ومقالات ومعارض فنية وبحوث في العلوم الاجتماعية.

ولكن كانت هناك كلفة أيضًا. حيث يكشف ماتلين كيف عانى كل من باراكا وبيردن وكلارك من تناقضات في مرحلة أو أخرى تجاه أدوارهم كمتحاورين أصليين. إن قصة كينيث كلارك ترسم صورة أوضح لما يعنيه أن يشعر المثقفون السود “المحاصرين” بمنطق الأصالة العرقية.

من أين جاء طلب التفسيرات “الأصيلة” لحياة السود؟

طوال حياته المهنية كان كلارك يؤكد أن الشروحات للجماهير البيضاء كانت دائما حاسمة للتغيير الاجتماعي. عالم النفس الذي قدم مع زميله وزوجته مامي كلارك أدلة عن العلوم الاجتماعية التي تقر تأكيد المحكمة العليا في قضية براون ضد مجلس التعليم بأن التمييز بين المتعلمين كان ضارًا بنفسية الأطفال السود، وقد شهد كلارك بشكل مباشر التأثير المزعج الذي يمكن أن تحدثه المنحة الدراسية على السياسة الاجتماعية. في كتابه الذي صدر عام 1965 بعنوان Dark Ghetto “الغيتو الأسود” سعى كلارك إلى “عرض” حقيقة الغيتو “أمام الجمهور الأمريكي الأبيض وشرح معنى أعمال الشغب لليبراليين البيض الذين شعروا بالحيرة والانزعاج من هذا التحول العنيف.” كان كلارك يعتقد أن التغيير الاجتماعي لن يتحقق إلا من خلال مناشدة “رأفة الحكام البيض” من خلال تضخيمه لواقع “ظلم الميز العنصري والفقر”. في حين قام مثقفون سود آخرون مثل رالف إليسون بانتقاد كلارك لتسببه في اختلالات الغيتو الأسود ووجد كلارك أن هذه المحاسبة ليست دقيقًة فحسب بل عمليًة أيضًا في النضال من أجل التعاطف مع البيض.

لكن كلارك سيصاب بخيبة أمل فيما بعد. فقد فشلت حرب إدارة جونسون على الفقر في نهاية المطاف في الغيتوهات السوداء، واختار السياسيون المحليون التعامل مع الاضطرابات الحضرية كمشكلة إجرامية تتطلب قمع الشرطة بدلاً من كونها مشكلة اجتماعية تتطلب تدخل الدولة من أجل تحقيق الرفاه الاجتماعي للجميع. وخلص كلارك إلى أن النخب البيضاء غير راغبة في سن الإصلاح الاجتماعي اللازم. في الوقت نفسه شرع يصارع عبر هويته الفكرية ويكافح للتعريف بنفسه خارج توقعات الجماهير البيضاء. عند انتخابه في عام 1969 ليكون أول رئيس أسود لجمعية علم النفس الأمريكية شعر كلارك بضغط نفسي كبير لإعطاء خطاب رئاسي للعموم عكس ممارساته السوداء والنفسية والاجتماعية.

إن الخلاصة التي دعت إلى استخدام أدوية تكنو-نفسية بين القادة السياسيين لتثبيط قدرتهم على إساءة استخدام السلطة – أثبتت أنها كارثية. تأسف كلارك في وقت لاحق على أن خطابه قد فشل ليس بالضرورة لأن أفكاره كانت مثل اللعنة ولكن على الأقل وبشكل جزئيً لأن زملائه توقعوا منه أن يتحدث فقط بشأن قضايا العرق أو الحقوق المدنية وهو مجال فكري “مخصص للسود”.

قد يبدو التناقض مفرطا بين المثقفين السود في ستينيات القرن الماضي حول عملهم كمتحدثين أصليين محليين خصوصا إذا ما قارناه مع التهميش المستمر الذي واجهه العديد من المثقفين السود قبل الأزمات الحضرية في الستينيات. في الواقع يمنحنا كتاب موريس The Scholar Denied “المفكر النكرة” يعطينا نظرة ثاقبة عن لحظة تاريخية يتجاهل فيها الجمهور الأبيض بدلا من البحث -وخاصة داخل الأوساط الأكاديمية والجامعية– عن الخبرة التجريبية للمثقفين السود. يناقش موريس على وجه الخصوص كيف قام جمهور المجتمع الأبيض والجمهور العام بتهميش المساهمات العلمية لعالم الاجتماع دو بوا وعلماء اجتماعيين سود آخرين يعملون في جامعة أتلانتا في أوائل القرن العشرين.

بالنسبة لدو بوا وزملاؤه فإن هويتهم العرقية كمواطنين سود قد نزعت الشرعية عن دراستهم العلمية على العرق بدلاً من أن تكون برهانا على صحتها. حتى في أوج مسيرته الاجتماعية واجه دو بوا العديد من العقبات في محاولته لتأمين التمويل البحثي من المؤسسات ذات الأغلبية البيضاء. لقد عانى وقاسى لعقود من أجل تمويل “الموسوعة الزنجية” – وهو مشروع تم تقويضه في نهاية المطاف من قبل العديد من العلماء البيض بما في ذلك عالم الأنثروبولوجيا ميلفيل هيرسكوفيتس الذي عمل في المجلس الاستشاري للمشروع وعبر عن شكوكه للممولين المحتملين حول الموضوعية العلمية لدو بوا نظرًا لاسوداده. وقد كتب موريس أن هيرسكوفيتس يعتقد أن “العلماء السود لا يمكن الوثوق بهم لإجراء دراسات موضوعية حول السود والعرق لأنهم كانوا منخرطين بشكل تعاطفي جدًا في هذه المواضيع ولأنهم ينتهكون القانون العلمي الأساسي بعدم مزج النشاط الحركي مع المنح الدراسية”.

كان تهميش دو بوا من علم الاجتماع مسألة سياسة عنصرية بقدر ما كانت مسألة هوية عرقية كما يتضح ذلك من خلال وضع الأستاذ بوكر ت. واشنطن فيما يتعلق بالجماهير البيضاء داخل وخارج الأوساط الأكاديمية. يمكن القول إن واشنطن بصفته أستاذا محافظا هو أول “مفكر أسود” اشتغل بمثابة “أستاذ موثوق به للتواصل مع الأمريكيين البيض بشأن ما يعتقده الزنوج وما يشعرون به ويحتاجون إليه”. لقد نجح واشنطن في استقطاب المتبرعين البيض لتمويل معهد توسكيجي الأسود تاريخيا بل وحتى الحظوة بعشاء مع الرئيس ثيودور روزفلت. تم إضفاء الشرعية على خبرته داخل الأكاديمية على الرغم من افتقاره إلى وثائق الاعتماد العلمية الاجتماعية.

الحكاية هي ما سرده موريس عن طلب الخبير الاقتصادي والتر ويلكوكس ذات مرة لواشنطن التأكيد الفرضي وغير العلمي لمعطيات ويلكوس Willcox عن الثروة السوداء مقارنة مع الانتقادات التي تستند إلى البيانات من قبل دو بوا. خصص موريس أيضًا العديد من الصفحات لتفصيل علاقة واشنطن الوثيقة بروبرت إي بارك وهو أحد الشخصيات المركزية في مدرسة شيكاغو لعلم الاجتماع لذي عمل كمساعد لواشنطن في توسكيجي قبل الانتقال إلى جامعة شيكاغو. إن السياسة العنصرية المحافظة لواشنطن كما يكشف ذلك موريس تتلاءم مع وجهات النظر الأكاديمية والعامة (من خلال وصيته بارك) على حد سواء حول حكمة الميز العنصري لجيم كرو. وعلى النقيض من واشنطن دعا دو بوا إلى التكامل الاجتماعي والسياسي للسود بناءً على تقييمه بأن عدم المساواة العرقية لم تكن ناجمة عن النقص البيولوجي ولكن من العنصرية البيضاء وما يتبع ذلك من عيوب ثقافية سوداء. مع هذه السياسة اعتبر واشنطن وبارك دو بويس وزملاؤه أنفسهم أنهم “المتهورون المتغطرسون الذين تطلعوا لمفاهيمهم المجردة غير الحذرة كحل لمشكلة العرق”.

في حين أن العرق والسياسة والنخبوية المتصورة من طرف دو بوا عملت على نزع الشرعية عن مساهماته في العلوم وعن أفكاره وفي نهاية المطاف كان لها تأثير مهم على السياسات العرقية التي نشأت في منتصف القرن العشرين. في قراءة رواية موريس غالبًا ما يكون من السهل أن ننسى أنه على الرغم من تهميشه داخل الأكاديمية فقد تم التعرف على دو بوا بشكل جيد كناشط اجتماعي الذي عبرت رؤيته الأصلية عن تجارب ورغبات شريحة معينة من الأمريكيين السود. ومن خلال مشاركته مع حركة نيغرو والجمعية الوطنية لتقدم الملونين NAACP قام دو بوا ومفكرون آخرون مثل إيدا ب ويلس ووليام مونور تروتير بزرع البذور الراديكالية آنذاك للنشاط السياسي لحركة الحقوق المدنية.

وعلى الرغم من أن مثل هذا النشاط قد هدد بتقويض السلطة العلمية لدو بوا إلا أن علماء الاجتماع البيض الذين اعتقدوا أن لونهم الأبيض يمنحهم موضوعية أكبر في دراسة العرق اعتمدوا على رؤى دو بوا. على سبيل المثال حسب موريس استغل باركا مفهوم دو بوا للوعي المزدوج. في هذه الفترة ألف الخبير الاقتصادي السويدي جونار ميردال كتابا عام 1944 بعنوان “المعضلة الأمريكية” -غالبًا ما يُشار إليه على أنها دراسة تاريخية للظلم العنصري الأمريكي– يعترف فيه ميردال بنفسه بفضل كتاب “فيلادلفيا نيغرو” لدو بوا.

بالنسبة لجمهور العلوم الاجتماعية الأبيض في أوائل القرن العشرين فإن الفهم الأصيل للتجربة السوداء قد وظف حصريا لتأكيد أو في أفضل الأحوال لتوضيح وإضاءة البحث العلمي بدلاً من العمل كأشكال مشروعة للمعرفة العلمية بشكل كامل. لقد كان الاعتقاد سائدا أن الأصالة العرقية تعادل التحيز العلمي – في حالة واشنطن وفي حالة دو بوا على حد سواء. إن النجاح النسبي لواشنطن مع الجماهير البيضاء -العلمية والعلمانية– يعني استعدادا أكثر لهؤلاء الجماهير لقبول سياساته المعتدلة بتواضع السود أكثر من مشروعية خبرته العلمية أو الثقافية.

في الواقع تقوم سياسة واشنطن المناصرة للفصل العنصري ولكن العادلة كذلك التي يتم الترويج لها كثيرًا على فكرة الاختلاف العنصري المميز على غرار تلك التي تظهر منطق الأصالة العرقية في صنع المعرفة. وانطلاقا من هذا المعنى ربما كان جمهور واشنطن مستعدًا بشكل مضاعف لإضفاء الشرعية على تفسيرات واشنطن لمفهوم الاسوداد. بطبيعة الحال فإن السخرية من تأطير الأكاديميين البيض لدو بوا على أنها تحمل نوعا من التحيز هو أن دو بوا كان أول عالم اجتماع أمريكي يجمع البيانات التجريبية المنهجية عن الحياة الاجتماعية السوداء في وقت وجد فيه علماء الاجتماع البيض أن الدراسة التجريبية للسود غير مهمة إلى حد كبير.

في مقاله الذي نشر في عام 1898 بعنوان “دراسة المشاكل الزنجية” انتقد دو بوا التحقيقات الهزيلة لمعاصريه في المجتمعات السوداء: يرى أحد خريجي الكلية الأحياء الفقيرة في مدينة جنوبية وينظر إلى أيدي المزارعين ولديه بعض الخبرة مع المستخدمين الزنوج ومن الكسل والجريمة والمرض حيث يستخلص استنتاجات بشأن ثمانية ملايين شخص من ولاية مين إلى تكساس ومن فلوريدا إلى واشنطن.

على النقيض من ذلك كانت منهجية دو بوا متعددة الأساليب في جمع البيانات أثناء وجوده في جامعة أتلانتا مفجعًة جدا كما يقول موريس حيث كانت تلك البيانات بمثابة نموذج للدراسات اللاحقة التي أجرتها وزارة العمل الأمريكية في أوائل القرن العشرين.

وهكذا يبدو أن الاختلاف المهم بين الجماهير البيضاء للفترتين الزمنيتين هو الهدف الذي سعت من أجله إلى معرفة أنهم يفهمون أنهم سود أصليون. يصف ماتلين الجماهير البيضاء في الستينيات على أنهم سعوا لفهم وإدارة مشاكل الأحياء السوداء الناشئة. كان التقدميون البيض مدعمين بأمل حركة الحقوق المدنية وتحت ضغط القوة السوداء الراديكالية، منفتحين على سياسة ونشاط التقدم العنصري أو على الأقل كانوا منفتحين على الحلول الأصلية لإدارة أحياء الغيتوهات السوداء التي يبدو أن رفاهيتها بدأت تزعج رفاهيتهم. لكن الجماهير البيضاء في أوائل القرن العشرين كما وصفهم موريس، لم يسعوا إلى التقدم العرقي ولا إلى إدارة الأزمات الحضرية. بالنسبة لهذه الجماهير كانت مشكلة العرق مشكلة مستبعدة لا تتطلب الإدماج السياسي أو الاجتماعي بل بدلاً من ذلك حسن النية من جانب الجماهير السوداء الجنوبية للارتقاء بأنفسهم من خلال الثقافة والأخلاق والصناعة.

منذ ستينيات القرن الماضي ازدهر منطق الأصالة العرقية في إنتاج المعرفة داخل وخارج حدود الممارسة الفكرية السوداء – مع نتائج متناقضة. فمن ناحية عزز الإيمان بأصالة المعرفة السوداء عملية الإدماج. فقد قامت المعامل بتشغيل موظفين من الأقليات الملونة إدراكا منها أن تنوع وجهات النظر أمر جيد لفائدة النتيجة النهائية وقد تراجع الأكاديميون البيض الأكثر صرامة عن القيود والتحيزات المحتملة القائمة على خلفية لونهم بشرتهم خاصة عند توثيق ظروف فقراء الأوساط الحضرية. من ناحية أخرى كان الإيمان بالمعرفة السوداء الأصيلة هو الأساس الذي تم عليه بناء المبررات الجديدة لاستبعاد الأشخاص الملونين.

منذ أواخر السبعينيات على سبيل المثال أصبح العمل الإيجابي مبررًا على أنه مصلحة الدولة الملحة ليس لأن الأشخاص الملونين يواجهون عيوبًا فريدة أو لأن الاندماج هو مصلحة وخير مطلق للصالح العام ولكن لأن من الواضح أن الأقليات لديها وجهات نظر مختلفة للمساهمة قد لا تُضاهى لكن فقط في بعض السياقات. وهكذا أصبحت قيمة المعرفة التجريبية للأقليات لا تقدر بثمن إلا عندما تنير هذه المعرفة الجماهير البيضاء. وهكذا في المرافعات الشفوية في أحدث قضية لمحكمة العمل الإيجابي يمكن لرئيس المحكمة العليا للولايات المتحدة أن يفكر بشكل مشروع: “ما هو المنظور الخاص الذي يمكن أن يجلبه طالب من الأقلية السوداء إلى تخصص في مادة الفيزياء؟”

من جانبه عبر كوتس أحد أكثر المثقفين السود شهرة اليوم عن ارتيابه في الكتابة من أجل تنوير الجماهير البيضاء. خلال مناقشة عامة في نيويورك أشار إلى أنه لم “يشرع أبدًا في تجميع عدد كبير من المعجبين البيض” وتابع في مناقشته أنه عندما يسعى المثقفون السود للتواصل بالجمهور الأبيض فإنهم غالبًا ما يسعون إلى عدم الإساءة.

لقد انعكس صدى كوتس على الجيل الجديد من النشطاء والمثقفين السود الذين، بفضل موقفهم غير الملائم للسيادة البيضاء كسبب جذري لعدم المساواة العرقية جذبوا انتباه واستياء أعداد كبيرة من البيض. وكما يكشف ذلك التاريخ فالقصد المتعاطف لا يترجم دائمًا إلى سياسة. حتى عندما يحدث ذلك قد يكون التغيير الاجتماعي على المدى البعيد صعب المنال. إنه لأمر محبط كيف أن قتل الشرطة في عام 1964 لجيمس باول في هارليم يبدو لنا اليوم حيث تهيمن صور وحشية الشرطة على نشرات الإخبار اليومية.

منذ أكثر من قرن عبّر المثقفون السود من مختلف المرجعيات التعليمية والمواقف السياسية عن أفكارهم حول الظلم العنصري. قام البعض بدورهم كمتحاورين أصليين بأمانة وبتفاؤل ثابت فيما أصبح الآخرون حذرين في شهاداتهم من شرح مجموعة العواطف والأحداث -من المأساة والغضب إلى الفكاهة والتألق- التي تشكل التجربة الأمريكية السوداء.

لقد كتب ماتلين أن تصوير الأشخاص المضطهدين “بطريقة تشهد على حد سواء مدى وعواقب معاناتهم وتعترف في الوقت نفسه بكرامتهم ومهارتهم وفاعليتهم تظل مشكلة مستعصية على علماء الاجتماع والفنانين والمؤرخين”. لكن تمثيل الخضوع الأسود -بغض النظر عن كيفية بنائه بعناية- يجب أن يجد أيضًا جمهورًا مستقبلاً. لقد تم إنفاق الكثير من الطاقة الفكرية السوداء على إقناع الجماهير البيضاء ببساطة بالاهتمام باستغلال الفقراء السود واغتراب الطبقات الوسطى السوداء. إن تقلب قبول جمهور معين من البيض بمرور الوقت ومعه في نفس الوقت يمكن القول أنه من المؤشرات المختلفة من عدم المساواة العرقية. قد يكون تفسير الاسوداد للجماهير البيضاء بنفس القدر من الأهمية هو تفسير لأسباب وعواقب انتباه البيض لما تبقى منا.

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/views/23493

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M