أمريكا والاستثمار فى الأزمات

د. أحمد سيد أحمد

 

ترتكز السياسة الأمريكية على إثارة الأزمات والاستثمار فيها لتحقيق مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية، وهو ما تجسد فى الكثير من الأزمات العالمية والإقليمية، وكذلك فى الحروب الأهلية فى الكثير من الدول النامية خاصة فى إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط.

وبحكم وضعها كدولة بارزة تقف على رأس النظام الدولى منذ ثلاثة عقود، خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة وتحول النظام الدولى ثنائى القطبية إلى الأحادية القطبية، تنخرط أمريكا فى أغلب مناطق العالم الحيوية ولديها وجود عسكرى مباشر وغير مباشر فى الكثير من الدول، ووجودها العسكرى فى البحار والمحيطات، وهى متشابكة فى غالبية الأزمات فى العالم.

وتعتمد الاستراتيجية الأمريكية فى التعامل مع الأزمات على عدم الانخراط العسكرى المباشر فيها، وإنما الاعتماد على إستراتيجية الحرب بالوكالة ودعم أحد الأطراف بالمال والسلاح، دون أن ترسل قوات للقتال على الأرض، وهو ما يتماشى مع التوجه الأمريكى الأخير بعد الانخراط فى الأزمات والحروب فى الدول الأخرى والذى أدى لخسائر بشرية ومالية كبيرة، كما حدث فى العراق وأفغانستان، وهو ما دفعها للانسحاب الكامل من هذين البلدين وتقليل وجودها العسكرى فى سوريا. والاعتماد على سياسة إدارة الأزمات من الخلف بما يحقق المصالح الأمريكية.

وقد برزت الاستراتيجية الأمريكية فى إشعال الأزمات ثم توظيفها والاستفادة منها فى الأزمة الروسية الأوكرانية، حيث سعت أمريكا إلى ضم أوكرانيا، لحلف الناتو ونشر منظومات صواريخ متطورة فى شرق أوكرانيا وعدم تقديم ضمانات أمنية لروسيا بشأن أمنها القومى مما دفع موسكو للقيام بالعملية العسكرية الخاصة فى أوكرانيا لحماية أمنها القومى ومنع انضمام أوكرانيا للحلف. وقد سعت أمريكا لإطالة أمد الأزمة عبر تزويد أوكرانيا بالأسلحة، التى فقط تمكنها من الدفاع ضد روسيا وإفشالها فى تحقيق أهدافها دون أن تنتصر عليها، والعمل على توظيف الأزمة والاستفادة منها فى استنزاف قدرات روسيا العسكرية والاقتصادية والبشرية عبر العقوبات الغربية غير المسبوقة عليها، ومن ثم تحجيم صعودها فى النظام الدولى. كذلك استخدام فزاعة روسيافوبيا لإبقاء أوروبا تحت العباءة الأمنية الأمريكية وتنشيط مبيعات الأسلحة الأمريكية لدول حلف الناتو، وهو ما تحقق بالفعل مما أنعش صناعة الأسلحة الأمريكية، وتعزيز الاقتصاد الأمريكى فى ظل التحديات الكبيرة التى يواجهها بعد جائحة كورونا والأزمات العالمية. كما سعت أمريكا لتوظيف الأزمة الأوكرانية لإحياء حلف الناتو مرة أخرى ودفع أعضائه الأوروبيين إلى زيادة الإنفاق العسكرى بنسبة 2% من الناتج القومى مما يقلل الأعباء العسكرية الأمريكية التى كانت تتحمل النسبة الأكبر فى تسليح الحلف، كذلك زيادة مبيعات الغاز الأمريكية إلى أوروبا كبديل عن الغاز الروسى، واستحواذ الشركات الأمريكية على النسبة الأكبر من إعمار أوكرانيا بعد انتهاء الحرب.

وفى شرق آسيا تسعى أمريكا إلى تأجيج وإشعال أزمة تايوان واستنساخ سيناريو أوكرانيا، عبر تسليح تايوان ونشر قواتها العسكرية فى مضيق تايون وبحر الصين، واللعب على استقلال تايوان، وهو ما يمثل تجاوزا للخط الأحمر الذى وضعته الصين باعتبار الجزيرة جزءا أساسيا، من أراضيها، وهو ما دفع بكين إلى تصعيد تحركاتها العسكرية فى المنطقة. وتسعى أمريكا لتوظيف الأزمة والاستثمار فيها، واستخدام فزاعة الصينوفوبيا لتنشيط مبيعات الأسلحة لحلفائها فى المنطقة مثل كوريا الجنوبية واليابان وإستراليا وتايوان، إضافة إلى محاولة استدراج الصين فى نزاع عسكرى ممتد مع تايوان لاستنزاف قدراتها وتحجيم صعودها فى النظام الدولى. كذلك تسعى أمريكا إلى تصعيد الأزمة مع كوريا الشمالية، وإبقاء حالة اللاحسم السياسى والعسكرى للأزمة والاستفادة منها فى تعزيز وجودها العسكرى فى شبه الجزيرة الكورية، وتعزيز تعاونها العسكرى مع اليابان وكوريا الجنوبية. وفى الحروب الأهلية والأزمات الداخلية فى الكثير من دول العالم، مثل الأزمات فى ليبيا وسوريا واليمن، وكذلك السودان وإثيوبيا ومالى وإفريقيا الوسطى وميانمار وفنزويلا وتشيلى وغيرها، تسعى أمريكا لتعزيز نفوذها ووجودها والانخراط غير المباشر فيها، عبر تغذية الاستقطاب الداخلى ودعم أحد الأطراف فى مواجهة الطرف الآخر. كما أنها تستخدم هذه الأزمات كساحة للتنافس وللصراع مع القوى الكبرى الأخرى المنافسة لها فى النظام الدولى، مثل الصين وروسيا، وهو ما انعكس فى الأزمة الليبية والسورية وحاليا الأزمة السودانية، حيث تنخرط أمريكا بشكل أكبر لموازنة النفوذ الروسى والصينى هناك.

ولاشك أن هذا التنافس الدولى بين القوى الكبرى فى الأزمات الداخلية فى بعض الدول يحمل تداعيات سلبية لأنه يطيل من أمد الأزمة وزيادة حدة الاستقطاب فيها، لتعارض أجندات هذه الدول، ومن ناحية أخرى يؤدى هذا التنافس الدولى لاستبعاد مجلس الأمن الدولى من معالجة الحروب الأهلية وأداء دوره فى حفظ السلم والأمن الدوليين بسبب استخدام الفيتو من جانب الدول الكبرى ضد أى مشروعات قوانين تتعارض مع مصالحها أو مع مصالح حلفائها فى الأزمة. ولذلك فإن إدارة هذه الصراعات والأزمات غالبا ما تتم خارج مجلس الأمن. كما أن التنافس بين القوى الكبرى يجعل الخيارات الأمريكية محدودة فى إدارة الأزمات المختلفة. ولذلك فإن نتيجة الاستثمار فى الأزمات الدولية والاستفادة منها من جانب أمريكا والدول الكبرى الأخرى لخدمة مصالحها والتنافس فيما بينها، هى أن السمة الغالبة على معظم هذه الأزمات والحروب الداخلية تسيطر عليها حالة اللاحسم العسكرى والسياسى وهو ما يدفع ثمنه شعوب هذه الدول، إضافة إلى تهديد السلم والأمن الدوليين.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/33751/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M