معضلة التنمية فى مصر

عبد الفتاح الجبالي

 

تحت هذا العنوان أصدر معهد التخطيط القومى كتابا جديدا لمؤلفه د. عثمان محمد عثمان وزير التخطيط الأسبق. الذى حاول فيه البحث عن إجابة لتساؤل أساسى هو لماذا لم ينجح الاقتصاد المصرى فى تحقيق أهدافه التنموية على مدى العقود السابقة، رغم توافر الإمكانات المتاحة لذلك؟ ولماذا حققت اقتصادات أخرى، كانت فى ظروف مماثلة، او حتى أصعب، على حد تعبير د. سمير رضوان وزير المالية الأسبق فى تقديمه للكتاب، طريقها للنمو مثل الصين والنمور الآسيوية؟ وماهى السياسات التى يمكن ان تتغلب على عدم استدامة النمو وغياب متطلباته وتأخر التنمية وتدنى مؤشراتها؟ وفى إطار البحث عن إجابة على هذه التساؤلات يرى د. عثمان ان المعضلة فى الاقتصاد المصرى متمثلة فى تعثر التنمية وعدم استدامة النمو الاقتصادى بمعدلات مرتفعة وتحسين مستويات معيشة غالبية المجتمع باطراد وتوفير فرص العمل للآلاف من الشباب والشابات والقضاء على الفقر، وذلك مقارنة بالتجربة الصينية التى حققت المعجزة المتمثلة فى الإنجازات المرتفعة فى جميع المجالات ونجحت فى إحداث تحول مؤسسى عميق، وانتقلت الى اقتصاد السوق بسلاسة. وذلك اعتمادا على عدة محاور أساسية هى رفع معدلات الاستثمار لزيادة النمو الاقتصادى والإنتاج للتصدير والدور القوى للدولة فى التنمية عن طريق تكثيف الاستثمار العام فى الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، مع تشجيع القطاع الخاص الديناميكى القادر، ليس فقط على النمو، ولكن أيضا توليد المزيد من فرص العمل المنتجة.

ويظهر الفرق واضحا بين المعجزة الصينية والمعضلة المصرية فى العديد من المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، خاصة فى مجال التنمية البشرية، الذى يعتبر المجال الأفضل للحكم على مدى نجاعة التجربة التنموية بدلا من الاكتفاء بمؤشر دخل الفرد كمقياس للتنمية. إذ إن تراكم رأس المال البشرى لا يقل أهمية عن الاستثمار فى الأصول المادية كالمعدات والآلات. وهنا يرى د. عثمان انه وعلى الرغم من ان الإنفاق على الخدمات الصحية فى مصر كان اعلى منه فى الصين، فإن قسطا كبيرا من هذا الإنفاق تتولاه الدولة فى الصين، وذلك على العكس من الحالة المصرية، والتى يلعب الانفاق الخاص دورا اساسيا فى هذا الصدد وتتحمل الاسرة المصرية 60% من هذا الانفاق وهو ضعف النسبة التى تتحملها الاسر الصينية.وفى قطاع التعليم الذى يعد عصب العملية التنموية، إذ إن الفشل فى توفير تعليم احتوائى وعادل وجيد يضع البلاد على حافة الفشل فى تحقيق الأهداف التنموية، يشير الى ان النظام التعليمى رغم التحسينات التى تمت فيه فإنه مازال يعانى ظاهرة التساقط والخروج دون إتمام الدراسة الابتدائية او الإعدادية. وانخفاض عدد سنوات الدراسة.

وذلك على العكس من التجربة الصينية التى اهتمت بالتعليم المتوسط لفترة طويلة وذلك بما يخدم متطلبات التنمية واحتياجات سوق العمل وليس الحصول على شهادات جامعية. وبالتالى أصبحت استدامة النمو هى المصدر الأساسى لزيادة فرص العمل والتشغيل. ولما احتاجت التغييرات الهيكلة فى الاقتصاد وزيادة الإنتاجية، الى تعليم عال جيد، اخذت الصين فى تطوير نظامها التعليمى المحلى وانفتحت على الجامعات العالمية، ولذلك يتفوق التلميذ الصينى فى الرياضيات والعلوم عن نظرائه من الدول الأخرى.

وفى هذا السياق يعرج بنا د. عثمان للبحث عن معضلة تمويل التنمية، حيث تميزت التجربة الصينية بارتفاع معدلات الاستثمار والادخار نتيجة لنظرة الحكومة للاستثمار باعتباره مفتاح العملية التنموية, وعملت على تخفيض تكلفة الأموال المستثمرة وتشجيع المستثمرين. بينما ظلت معدلات الادخار المصرية منخفضة ليس بسبب ضعف مدخرات القطاع العائلى او الخاص ولكن بسبب عجز الموازنة، أى الادخار الحكومى السالب. فهناك ارتباط عكسى بين الادخار الخاص والادخار الحكومى، فى ضوء قاعدة المزاحمة.

وبالتالى فان الإصلاح المالى الذى ينطوى على رفع معدلات الفائدة الحقيقية لن يكون ذا تأثير فعال على الادخار الخاص، بل إن إصلاح السياسة المالية يبدو أكثر تأثيرا على الأداء الاقتصادى، خاصة ان الاستثمارات الحكومية تمثل النسبة الأكبر من الاستثمارات الكلية. من هذا المنطلق تصبح كفاءة الإدارة المالية وتخفيض عجز الموازنة أمرا بالغ الخطورة ليس فقط لرفع معدلات الادخار ولكن أيضا لإزاحة الضغوط التضخمية التى تضر بالفقراء وأصحاب الدخول الثابتة. ناهيك عن تأثير عجز الموازنة فى الحساب الجارى لميزان المدفوعات نتيجة للاعتماد على الموارد الأجنبية فى تمويل العجز. وعلى الرغم من ان العلاقة بين النمو الاقتصادى ومصادره ليست خطية، وبالتالى من الخطأ القول إن انخفاض النمو يرجع فقط لانخفاض معدل الاستثمار نتيجة لانخفاض معدل الادخار وضعف تدفقات الاستثمارات الخارجية، فإن الأهم هو التراكم الرأسمالى والذى يتأثر بمجمل السياسة الاقتصادية (المالية والنقدية وسعر الصرف والتجارة الخارجية). من هذا المنطلق فان الأزمة الاقتصادية الحالية تستوجب التوافق حول أساليب المواجهة، كما يجب على فئات الطبقة الوسطى القبول بأى تضحيات يتطلبها برنامج التقشف الاقتصادى، وكذلك يلزم قطاع الصناعة التحويلية باستهداف معدل نمو مرتفع يفوق الـ 12%، ويجب على الرأسمالية المصرية الالتزام بالقوانين واللوائح والشفافية.

وللبحث عن مجتمع عصرى يتمتع بنوعية حياة تضاهى الدول المتقدمة لابد من تحقيق ثلاثة أهداف مترابطة هى نوع احتوائى يضمن نصيبا عادلا لكل فرد فى موارد البلاد الاقتصادية، وإيجاد مجتمع خلاق قادر على الابداع والابتكار وتحسين نوعية النمو مع تعظيم قوى السوق ودور القانون، وهو ما يتطلب العمل، على حل معضلة الثلاثية المستحيلة وهى رفع معدلات النمو الاقتصادى الموفر لفرص العمل، ومراعاة الابعاد الاجتماعية وحماية الفئات محدودة الدخل، وتوسيع مشاركة القطاع الخاص.

 نقلًا عن الأهرام 3 مايو 2023

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/33872/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M