محمد برهومة
لعلّ من الأسئلة المهمة التي تطفو على السطح، في ظل الحرب الدائرة في أوكرانيا، الاستفهام حول ما إذا كانت حاجة أوروبا إلى بدائل عن إمدادات الطاقة الروسية سيدفعها إلى الانخراط مع دول الخليج العربية بشكل استراتيجي جديد وبعيد المدى يتجاوز “علاقات المعاملات” (The transactional relationship) المقتصرة على مصلحة محدّدة تتعلق بالحاجة الأوروبية إلى النفط والغاز الخليجي.
ويمكن القول، إن واحدة من إفرازات الحرب الروسية-الأوكرانية تتمثل بأن تصاعد أهمية ملف الطاقة في أوروبا قد يسمح بالدعوة إلى تشكيل منظور جديد للعلاقات الأوروبية-الخليجية، في ضوء الأهمية المتزايدة لدول الخليج في أمن الطاقة العالمي، والمشاريع والتفاهمات المستقبلية الخاصة بذلك. والواقع أن ذلك ليس مقتصراً على أوروبا فقط، بل ينسحب، بدرجة أو بأخرى، على آسيا أيضاً والاقتصادات الكبرى والرائدة فيها.
والدعوة إلى تشكيل منظور جديد للعلاقات مع دول الخليج لا يتعلق، في واقع الأمر، بملف الطاقة فقط وإنما أيضاً بالموقف الأوروبي والغربي (كذلك الصيني والهندي) من إيران وملفها النووي وسياساتها الخارجية، على وقع تفاعلات طهران مع الحرب في أوكرانيا، وحديث تقارير إعلامية عن انخراطها في دعم موسكو بعتاد عسكري، وبخاصة الطائرات المسيّرة.
والحقيقة أن مثل هذا التساؤل كان حاضراً، أيضاً، في غضون زيارة الرئيس الصيني، شي جينبينغ، إلى المملكة العربية السعودية الأسبوع الماضي.
إنّ الدعوة الخليجية إلى علاقات أقوى وأكثر مؤسسية بين دول مجلس التعاون الخليجي من جهة والولايات المتحدة والدول الأوروبية من جهة أخرى ليست جديدة، وما تطلبه الحكومات في منطقة الخليج يتركز في ضمانات أمنية ودفاعية “مُطمئِنة” و”مقننة”. وفي هذا الصدد، نُقِل عن الدكتور أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات، قوله، أمام مؤتمر السياسات العالمية الذي استضافته العاصمة الإماراتية أبوظبي الأسبوع الماضي، إنه من المشجع رؤية تواصل أوروبي أكبر مع دول الخليج العربية في مواجهة أزمة الطاقة، لكن هذه العلاقات “لا ينبغي أن تكون مقتصرة على المعاملات”، مضيفاً “أعتقد أن اللهجة مدفوعة جزئياً بمصالح خاصة. محاولة العثور على مزودي غاز جدد وموردي نفط جدد… نحن بحاجة لرؤية أفعال… يجب أن تكون طويلة المدى واستراتيجية”.
ظروف جديدة تسمح بإعادة التقييم
يمكن اعتبار مثل تلك المواقف والتصريحات مشاركةً خليجية، من زاوية مختلفة، في النقاش حول إعادة تقييم للعلاقات الخليجية-الغربية، حيث تمنح الظروف الجديدة، الناشئة عن ثلاثة عوامل أساسية، فرصةً أكبر في المشاركة الخليجية في إعادة التقييم تلك. وهذه العوامل الثلاثة هي: تنامي أهمية ملف أمن الطاقة على الصعيد العالمي، وتداعيات الحرب في أوكرانيا على الأمن الأوروبي وتأثيراتها في لعبة التنافس بين القوى العالمية الكبرى، والموقف من إيران في ظل تعاونها العسكري مع روسيا، خصوصاً في مجال الطائرات المسيرة.
ولدى الإشارة إلى هذه الظروف والعوامل، كرر قرقاش دعوته للحصول على ضمانات أمنية “صريحة” من الحلفاء الغربيين التقليديين، سيما في التعامل مع التهديد الذي تشكله الطائرات الإيرانية المسيرة الذي حذرت دول الخليج منه منذ مدة طويلة. وقال قرقاش إنه لم يتم وضعها في دائرة الضوء حتى “دخلت (هذه الأسلحة) إلى الساحة الأوكرانية” و”فجأة اكتشف العالم هذه القضية”.
وينظر المستشار الدبلوماسي الإماراتي إلى هذه المعطيات بوصفها فرصةً للاتفاق على بحث منظور جديد للعلاقات بين الخليج وأوروبا، مؤكداً أنها “فرصة لنا جميعا أن… نعيد النظر في المفهوم برمته”، في إشارة إلى الاتفاق النووي الإيراني.
ووفق وكالة “رويترز“، فقد اتهمت دول غربية روسيا باستخدام طائرات مسيرة إيرانية لمهاجمة أهداف في أوكرانيا، وهو ما تنفيه طهران وموسكو. ولطالما ضغطت دول الخليج على القوى العالمية لمعالجة مخاوفها بشأن برامج الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية في إطار الجهود المتوقفة حالياً والرامية لإحياء الاتفاق النووي المبرم عام 2015 مع الجمهورية الإسلامية، والذي انسحب منه الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترمب، في عام 2018.
وكان وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، قد حذّر من أن امتلاك إيران سلاحاً نووياً جاهزاً للعملسيقضي على كل الرهانات بخصوص فرص الوصول إلى تسوية سلمية للبرنامج النووي الإيراني، بل سيجعل، بحسب الوزير “من الصعب التكهن بما سيحدث” من جانب دول المنطقة التي ستعمل بالتأكيد على حماية أمنها في ظل أوضاع خطيرة يعيشها الإقليم. ورغم أن الرياض مازالت “متشككة” تجاه الاتفاق النووي الإيراني، قال الأمير فيصل إنها تدعم جهود إحيائه “شريطة أن يكون نقطةَ انطلاق وليس نقطة النهاية” لاتفاق أقوى مع طهران. وأضاف “نسمع من الإيرانيين أنه ليس لديهم مصلحة في برنامج للأسلحة النووية، سيكون من المريح للغاية إذا استطعنا تصديق ذلك. إننا بحاجة لمزيد من الضمانات بهذا الشأن”.
مشاركة القوى الآسيوية في ظل تعقيدات جيوسياسية
من جانب آخر، فإن الأهمية المركزية لإمدادات الطاقة الخليجية للصين ولاقتصاديات دول جنوب وشرق آسيا على حدّ سواء، والتي أصبحت أهمية أكثر استراتيجية بعد حرب أوكرانيا، قد توسّع النقاش حول أهمية أن تتعامل هذه الدول والاقتصاديات بجدية أكبر وضمن إجراءات عملية واضحة مع هواجس دول مجلس التعاون الخليجي الأمنية والدفاعية؛ لأن تأمين إمدادات الطاقة وانسيابية الحركة عبر الممرات المائية الدولية سيكون مسألة أكثر حيوية للاقتصاد العالمي، كما أنه لن يكون بمنأى عن لعبة التنافس على النفوذ بين القوى العالمية.
وينبّه باحثون إلى أنه مع زيادة مشاركتها في المنطقة، سيتعين على الحكومات الآسيوية التنقل في مشهد جيوسياسي معقد بشكل متزايد داخل الشرق الأوسط الأوسع، ما يثبت بأن القوى الآسيوية الأربع (الصين، الهند، كوريا الجنوبية، اليابان) لا يمكنها تقييد مشاركتها في المجال الاقتصادي والطاقوي، وسيتعين عليها المساهمة في بنية أمن المنطقة.
والولايات المتحدة ليست غائبة، بالطبع، عن مثل هذه الديناميات الناشئة، وهي تسعى إلى تنظيم جهود حلفائها وأصدقائها، على مستوى الاقتصاد والأمن. وتبدو مبادرات مثل “I2U2″، وهي شراكة بين الهند وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة، نواةً لتعاون اقتصادي يمكن أن يتطور إلى بناء و”إقامة علاقات أمنية بين الولايات المتحدة والقوى الآسيوية ودول مجلس التعاون الخليجي”.
الاستنتاجات
يُلاحظ أن هناك تنامياً في الخطاب الخليجي الذي يدعو الاقتصادات العالمية الكبرى إلى الابتعاد عن “علاقات المعاملات” مع دول مجلس التعاون، وما يستتبع ذلك من حثٍّ على بناء علاقات استراتيجية وطويلة المدى تطوّر الشراكات الاقتصادية، وتصغي، في الوقت ذاته، للهواجس الأمنية والدفاعية لدول مجلس التعاون، وبما يدعم الاستقرار والازدهار في المنطقة، ويستثمر في المتغيرات المهمة التي يشهدها التعاون الإقليمي في المنطقة. بالطبع يمكن البناء على ما أعلنه الاتحاد الأوروبي في مايو 2022 بخصوص “شراكة استراتيجية مع دول مجلس التعاون الخليجي”.
قد يكون ما صدر من تصريحات لمسؤولين خليجيين موجَّهاً إلى حكومات أوروبية، ولم يتضمن دعوات صريحة للحكومات الآسيوية للمشاركة في ترتيبات معززة لأمن الخليج، لكن مع الوقت قد نشهد معطيات تدفع بهذا الاتجاه، جنباً إلى جنب مع تنامي مشاركة الفاعليين الإقليميين في ترتيبات متعددة الأطراف في ملفَّي الاقتصاد والأمن الإقليمييْن.
في هذه الغضون، فإن الأسئلة المتعلقة بالالتزام الأمني الأمريكي طويل الأمد في منطقة الخليج يتم الرد عليها بشكل مقنع من خلال مشروع نظام مراقبة عسكري يغير قواعد اللعبة يتم تطويره ونشره في منطقة الخليج، ويعتمد على الشراكات الإقليمية، وتقوده الولايات المتحدة. فقد أنشأ الجيش الأمريكي “فرقة العمل 59” لقيادة المشروع، لكن الأمر لا يقتصر على واشنطن فقط، بل إن لأصدقائها في المنطقة ولحلفائها الغربيين دوراً مهمّاً في مثل هذه الترتيبات، التي من المفترض أن يبدأ العمل بها مع صيف 2023.
لربما يسمح ذلك بإعادة صياغة مفهوم العلاقة بين القوى العالمية الكبرى، وخصوصاً الولايات المتحدة، بشكل متبادل، ويدشّن حقبة جديدة تصبح فيها دول الخليج قوى متوسطة المستوى وشريكة مع الحلفاء الغربيين مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، في إطار اتفاقية إطار عمل استراتيجي جديدة، لا تصل إلى ما هو عليه حلف “الناتو”، لكنها تضع أمن الخليج في مرحلة متقدمة من أجندة واشنطن وحلفائها الغربيين، ويمنح الالتزامات الدفاعية جدية أكبر تتجاوز معادلة “الأمن مقابل النفط” إلى صيغة “تبادلية”، تستثمر في الديناميات الجديدة الناشئة في المنطقة والتحولات الجيوسياسية في البيئة الاستراتيجية على مستوى الإقليم.
.
رابط المصدر: