أهمية ومكانة النفط في الاقتصاد الأوروبي

نورا عبه جي

 

تمهيد

تعد الطاقة متغيراً إستراتيجياً تتحكم فيها الدول لتحقيق مكاسب ذات أبعاد متعددة سياسية كانت أم اقتصادية أم عسكرية، ولهذا فلكل دولة إستراتيجية تهتم بشؤون الطاقة سواء كانت منتجة أم مستهلكة تتوافق مع المتغيرات الدولية المتسارعة التي أضحت سمة أساس في طبيعة التفاعلات الدولية، ولضرورة الدراسة لابد من معرفة دقيقة بتطلعات الاتحاد الأوروبي في تأمين إمدادات الطاقة في ظل التنافس الكبير حول موارد الطاقة.

المطلب الأول: متطلبات الطاقة في الاتحاد الأوروبي وتحدياتها

تؤكد وكالة الطاقة الدولية بأن دول الاتحاد الأوروبي سوف تزيد من استهلاكها لمصادر الطاقة بمقدار الضعفين بين عامي 2020 و2030، لذلك تحظى قضية الطاقة باهتمام كبير، فمنذ الحرب العالمية الثانية بات الاقتصاد الأوروبي واحداً من أكبر اقتصاديات العالم، الأمر الذي ينبغي معه زيادة الاعتماد على النفط والغاز كباقي الدول الصناعية المتقدمة، ناهيك عن الاستخدامات الأخرى للطاقة لتلبية الحاجات المدنية الأخرى غير الإنتاجية، وبينما كان حوالي نصف الطاقة المستهلكة تنتج في بلدان الاتحاد، إلا أن النصف الآخر كان يتم استيراده من الخارج نتيجة ضعف القدرة الإنتاجية لدول الاتحاد التي تمتلك فقط و0,4% من احتياطي النفط، و0.9% من احتياطي الغاز العالمي، ويوضح لنا الشكل رقم (8) أهم مصادر الغاز الطبيعي لأوروبا و مقارنة نسبة الإمداد لعامي 2008 و 2020.[1]

الشكل رقم (8): مصادر إمدادات الغاز الطبيعي لأوروبا لعامي ( 2008 و2020)

مصادر إمدادات الغاز الطبيعي لأوروبا لعامي ( 2008 و2020)

المصدر:Pan-European institutes

يوضح هذا الرسم البياني بأن روسيا تتصدر قائمة الموردين للغاز الطبيعي لأوروبا بحصة بلغت عام 2020 حوالي 28% من إجمالي الغاز الطبيعي المستورد لأوروبا* مقارنة مع 27% عام 2008 ما قد يجعل أوروبا رهينة موسكو في المجال الطاقوي، ويضعها في خانة الدول التي تعاني من التبعية الطاقوية، خصوصاً أن الإنتاج الداخلي للغاز الطبيعي يتناقص، ففي 2008 وصلت نسبته إلى 34 %، مقارنة مع 15% عام 2020، وما يعنيه ذلك أن أوروبا ستعاني عجزاً كبيراً في التزود بالغاز الطبيعي، وهذا قد يتم تعويضه بالغاز الروسي.

نظراً لأن نسبة الغاز الطبيعي الآتي من أفريقيا والشرق الأوسط تبقى ضعيفة، ففي العام 2020 لم تتعدى نسبة الغاز الطبيعي الآتي من إفريقيا 10%، والغاز الآتي من دول الشرق الأوسط نسبته 3%. تبقى هذه النسب ضعيفة مقارنة بما تطمح إليه السياسة الطاقوية الأوروبية لفك رباط التبعية مع روسيا، علماً أن التزود بالغاز النرويجي لن يكون حلا نهائيا للتخلص من الضغط الروسي، بحيث يجب التنويع أكثر في مصادر الإمداد بالغاز الطبيعي، مع الحفاظ على النرويج كمزود مهم لأوروبا بالغاز الطبيعي، ففي سنة 2008 بلغت نسبة الغاز النرويجي المزود إلى أوروبا ب 18%، لترتفع قليلا سنة 2020 وتصل إلى ما يقارب 19%، رغم أن هذه الدولة غير منضمة إلى الاتحاد الأوروبي، إلا أنها مزود مهم لدوله، لذلك توطيد العلاقات مع النرويج، قد يضعف نسبيا من التواجد الروسي في السوق الأوروبية، لذلك يعتبر الغاز النرويجي من أهم البدائل للغاز الروسي لأوروبا، على الأقل هذه الدولة علاقاتها مع دول الاتحاد أكثر استقراراً من علاقة أوروبا بروسيا.

في المقابل، نلاحظ مؤشراً إيجابياً يتمثل بارتفاع نسبة الغاز المسال، ففي سنة 2008 وصلت نسبة الغاز المسال المزود إلى أوروبا 12 %، في حين بلغت نسبته سنة 2020 إلى حوالي 25%، بالتالي هناك ارتفاع محسوس، وقد يجعل أوروبا تزيد من ضمان تزويدها بالغاز في أوقات الأزمات، حيث يقدّم لنا الشكل الآتي مقارنة كمية الغاز الطبيعي والغاز المسال الذي استوردته الدول الأوروبية عام 2012، بما يعكس أنه فعلاً هناك سياسة تنويع لمصادر الغاز الطبيعي والمسال في السوق الأوروبية.

الشكل رقم (9) مصادر الغاز الطبيعي المستورد من قبل الدول الأوروبية سنة 2012

مصادر الغاز الطبيعي المستورد من قبل الدول الأوروبية سنة 2012

المصدر: إحصائيات بريتيش بتروليوم (BP)، سنة 2013.

تشير معطيات الشكل رقم (9) إلى استنتاجين رئيسيين يتمثل أولهما بأن روسيا هي الدولة الثانية المزودة للغاز الطبيعي لأوروبا بنسبة 34% من مجموع ما تستورده أوروبا من الغاز، وبالتالي روسيا هي من الدول التي تستحوذ على نصيب مهم من السوق الغازية الأوروبية، في الوقت الذي لا يمكن فيه تجاهل حصص الدول الأخرى في تزويدها للغاز الطبيعي للقارة الأوروبية، فالجزائر وصلت حصتها في السوق الطاقوية الأوروبية حوالي 14%، لتأتي بعدها قطر بنسبة 10% سنة 2012، ويشير ذلك بوضوح كيف أن الدول الأوروبية تعمل على تقوية التزود بالغاز الطبيعي من دول أخرى مهما كان بعدها جغرافياً.

هذا التنويع في المصادر قد يكون له تبعات سياسية، بحيث ستتحرر السياسة الأوروبية نسبياً، وستجد هامشا أوسع للمناورة في تسوية القضايا الإقليمية، لأن تواجد منافسين آخرين لروسيا في أوروبا في مجال الغاز الطبيعي يجعل تأثير روسيا السياسي على مسار اتخاذ القرار في أوروبا أقل، علماً أن كمية الغاز الطبيعي التي استوردته أوروبا سنة 2012، كانت 11 تريليون قدم مكعب، ونظراً للنسبة المعتبرة للغاز الروسي المستورد، فهذا يبرز الكمية الهائلة من الغاز الطبيعي التي تلقاه الدول الأوروبية من روسيا، لتبقى حصة الغاز الروسي مهمة، وجعل منافسين آخرين لها في السوق الطاقوية ليس بالأمر الهيّن.[2]

أما الاستنتاج الثاني فيتمثل في نسب الغاز الطبيعي الذي يضخ في الأنابيب التي تربط أوروبا بأهم موردي الغاز الطبيعي وعلى رأسها روسيا، ونسب الغاز المسال (LNG) الذي تستورده أوروبا، حيث نجد أنّ نسبة الغاز الطبيعي المنقول عبر الأنابيب هي 81%، في المقابل نسبة الغاز المسال لا تتعدى 19%، أي أن للأنابيب التي تنقل الغاز الطبيعي من روسيا. إلى أوروبا، سواء تلك التي تمر عبر أراضي دول شرق أوروبا أو تلك العابرة للمسطحات المائية المهمة البحر الأسود وبحر البلطيق لها أهمية إستراتيجية بالغة، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الأمني، وعلى هذا الأساس لا يمكن افتراض سياسة أوروبية تجاه قضية لها علاقة بالشأن الروسي من دون أن تكون لشبكة توزيع الغاز الطبيعي دوراً في تحديد طبيعة هذه السياسة.

فتزويد أوروبا بالغاز الطبيعي من خلال الأنابيب الآتية من روسيا يجعل الدول الأوروبية تابعة بشكل فعلي لروسيا من حيث استهلاكها للغاز الطبيعي، وهذه التبعية ذات مستويين اقتصادي وسياسي، فالأول يجعل أوروبا مجبرة على التفاوض لوضع تسعيرة تناسب اقتصاد روسيا، وبالتالي ستكون مرهونة بشروطها. أما الثاني فيضع أوروبا في موقع المفاوض الأضعف، لأن التخوف من إيقاف روسيا الإمداد بالغاز الطبيعي خاصة في الأشهر الأكثر برودة في القارة، يجعل المساومة ممكنة من الجانب الروسي.

في حين لو تم الرفع من نسبة الغاز المسال المنقول إلى أوروبا فإن هذا قد يقلل من أهمية ما يتم نقله عبر الأنابيب -لو نسبياً -لذلك يبقى تصور بأن أهمية الغاز المسال في الحد من تداعيات توظيف الغاز الطبيعي عبر الأنابيب قائماً[3].

هذا ما يدفع للافتراض أن الطلب الأوروبي على هذه المادة سيزيد في السنوات المقبلة وهو ما يوضحه الشكل البياني (10) عن توقعات إمكانية تزايد الطلب دول الاتحاد الأوروبي على الغاز الطبيعي حتى سنة 2030، الذي يرجح احتمال تزايد الاستهلاك الأوروبي للغاز الطبيعي بحيث نلاحظ بأن هناك ارتفاعاً مستمراً في الطلب ما يدفع بالدول الأوروبية إلى زيادة طلبها على هذه المادة بصفة مطردة، ففي عام 2005 كان طلب دول الاتحاد الأوروبي على الغاز الطبيعي لا يصل إلى 500 بليون متراً مكعباً مكعب، في حين أن هناك احتمالاً كبيراً أن يتجاوز سنة 2025 عتبة 650 بليون متراً مكعباً.

الشكل رقم (10) طلب دول الاتحاد الأوروبي على الغاز الطبيعي (2005 -2030) الوحدة: بليون متر مكعب

طلب دول الاتحاد الأوروبي على الغاز الطبيعي (2005 -2030) الوحدة: بليون متر مكعب

المصدر: Eurogas 2007

لذلك فالاتحاد الأوروبي ينتهج سياسة طاقوية واضحة تقوم على ركيزتين: أمان الإمدادات والتنويع  في مصادرها، [4] بحيث ستعمل أوروبا على ضمان أمنها الطاقوي الذي بدوره له أبعاد سياسية واقتصادية، في حين تنويع لمصادر التزويد بالغاز الطبيعي هو أيضاً ضمان لتوسيع هامش الاستقلالية في اتخاذ القرارات المتعلقة بالأوضاع الإقليمية، لهذا يتضح بأن الغاز الطبيعي كمتغير مستقل هو عامل أساسي في تقوية التبعية الطاقوية، بحيث أن أوروبا تعاني من هذه التبعية ليس فقط في الجانب الاقتصادي، بل حتى الجانب السياسي متأثر كثيراً بالتبعية الطاقوية.

على هذا الأساس، يبدو بأنّ أوروبا مضطرة في المستقبل القريب لتنويع مزوديها من الطاقة خاصة في ما تعلق بالغاز الطبيعي، فهذا التنويع في المصادر قد يمنحها نوعا من الاستقلالية تجاه الدول المهيمنة على هذا الحقل و بالأخص روسيا، التي توظف (كما رأينا سابقاً) هذه المادة الحيوية في معالجة الملفات السياسية ذات البعد الإقليمي خاصة، لأن روسيا تعتبر هذه المادة أداة مهمة في سياستها الخارجية على الصعيد الأوروبي.

لهذا تعمل روسيا (كما رأينا سابقاً) على تعزيز تزويد دول أوروبا بالغاز الطبيعي من خلال مدّ أنابيب الغاز الطبيعي وتدعيم الخطوط بجعل بعضها بمنأى عن التقلبات الإقليمية، ولمعرفة أهمية الغاز الطبيعي الروسي بالنسبة لأوروبا، يمنحنا الشكل الآتي رؤية واضحة عن تزايد الاستهلاك الأوروبي للغاز الروسي في سنوات معينة.

الشكل رقم (11)

استهلاك دول الاتحاد الأوروبي للغاز الروسي ما بين (1998 – 2008) الوحدة: بليون متر مكعب

استهلاك دول الاتحاد الأوروبي للغاز الروسي ما بين (1998 – 2008) الوحدة: بليون متر مكعب

المصدر: إحصائيات بريتيش بتروليوم ( (PB، عام 2009.

تشير معطيات الشكل رقم (11) إلى أن الاستهلاك الأوروبي للغاز الروسي هو في تزايد مستمر، فالفترة المدروسة هنا هي من سنة 1998 إلى غاية سنة 2008، أي في مدة عشر (10) سنوات هناك ارتفاع في الاستهلاك للغاز الطبيعي، رغم أن هناك تذبذباً طفيفا ما بين 2005 و2009، هذا راجع للأزمة الأوكرانية لسنة 2006، إلا أنه على العموم هناك ارتفاع معتبر في الاستهلاك، ففي سنة 2000 بلغ الاستهلاك الأوروبي للغاز الروسي 440.1 بليون متر مكعب لنجده في سنة 2008 وصل إلى 490.1 بليون متر مكعب أي أن الكمية الإضافية في الاستهلاك هي 50 بليون متر مكعب، و هي كمية لا بأس بها تبرز بان هناك استهلاكاً أوروبياً للغاز الروسي، يميل منحاه للارتفاع رغم أزمة 2006 وتوتر العلاقات الروسية الأوروبية فالاستهلاك الأوروبي لم يتأثر كثيراً، واستمر بعد تلك الأزمة، الذي يدل على أن هناك تبعية أوروبية للغاز الروسي، بالتالي من خلال هذه المؤشرات يمكننا القول بأن استهلاك دول الاتحاد الأوروبي لهذه المادة هو كبير، ما يبرز بان هناك تبعية طاقوية خاصة في مادة الغاز الطبيعي، كون أن المناخ الأوروبي هو قاس في موسم الشتاء ما يدفع بالأوروبيين إلى الاعتماد على هذه المادة كثيراً.

هنا تجدر الإشارة على أن أمن الطاقة يمثل لأوروبا “أمن الإمداد والتمويل” حيث يختلف معنى أمن الطاقة من دولة لأخرى حسب حاجتها ومدى توافر تلك الموارد لديها ومدى اعتماد الدول الأخرى على مواردها، واتسع المفهوم لدول الاتحاد ليشمل التموين بأسعار معقولة، وتزداد أهمية المفهوم كلما أدركت تلك الدول أن روسيا دولة مصدرة غير مضمونة حيث أنها تستخدم موارد الطاقة كورقة ضغط لتحقق أهدافها السياسية من خلالها ومن ثم تهدد بقطع إمدادات الطاقة عن الدول التي تعارضها كذلك تهدد برفع الأسعار والسيطرة الكاملة على البنى التحتية مثل ما حدث بشأن قضية أوكرانيا وذلك على الرغم من أن السوق الأوروبية تمثل أكثر من 70% من صادرات روسيا للطاقة، مما يثير فرضية أخرى عما إذا كان لهذا المتغير دور أخر كنقيض لفرضية أنه عامل أساسي في خلق أو تقوية التبعية الطاقوية، فالغاز الطبيعي هو متغير مستقل في عدة مراحل من العلاقات الروسية الأوروبية، بحيث يلعب دوراً محورياً في إدارة الكثير من الأزمات، وفي حالات أخرى قد يكون هو السبب الأول في إشعال أزمات وتوتر العلاقات بين الطرفين.

وعليه فإن فرضية الارتفاع المرتقب في الطلب على الغاز الروسي من قبل أوروبا قد تكون صحيحة إلى حد ما وفقاً لهذه المعطيات التي تؤشر على أنه حتى 2030 سيكون طلباً متزايداً على الغاز الروسي، ومن ثم تعميق التبعية الطاقوية، لتصبح أوروبا أكثر ارتباطا بالغاز الطبيعي الآتي من روسيا، وذلك وفقاً لمعطيات الوكالة الدولية للطاقة فإن الطلب الأوروبي على الغاز الطبيعي سيرتفع بنسبة 50% حتى سنة 2030، ما يعني بأن حصة الغاز الروسي سترتفع بارتفاع نسبة الطلب الأوروبي للغاز الطبيعي بشكل عام، بحيث قد تزود روسيا 70% مما ستحتاج إليه أوروبا مستقبلاً،[5] في وقت وصلت نسبة الغاز الروسي في السوق الأوروبية إلى 40% عام 2020، هذا ما يوضح بأن أوروبا لا يمكنها الاستغناء عن الغاز الطبيعي الآتي من روسيا – حسب هذه المعطيات – لأن الغاز الروسي سيكون أكثر حضوراً في السوق الطاقوية الأوروبية.

وقد تكون النتيجة لذلك هو أن الدول الأوروبية خاصة تلك التي تقود الاتحاد الأوروبي كألمانيا وفرنسا ستقعان في فخ المساومة مع روسيا في أي ملف له علاقة مع هذه الأخيرة، بالتالي للتبعية الطاقوية أبعاد أكثر منها تلك المتعلقة بقضية تزويد أوروبا بهذه المادة، بحيث هناك أبعاداً سياسية وأمنية تمس الاتحاد الأوروبي ككيان بالدرجة الأولى، ودولا ًأوروبية بشكلها الانفرادي في طبيعة علاقتها مع الاتحاد الفيدرالي الروسي بالدرجة الثانية، فلا يمكن تصور مثلاً دولة أوروبية كألمانيا، أن تتخذ قرارات في ما يخص ملفاً إقليمياً معينا له علاقة بالمصالح الحيوية لروسيا من دون أن يكون لهذه الأخيرة دوراً في عملية اتخاذ القرار .[6]

في ضوء ما سبق، نلاحظ بأن لهذه التبعية مستويين، المستوى الأول هو متعلق بالدول الأوروبية سواء مجتمعة في الاتحاد الأوروبي أو منفردة، وفي المقابل نجد مستوى آخر وهو أن لهذه التبعية الطاقوية انعكاسات على روسيا، أي هناك تداعيات قد تؤثر سلبا في طبيعة السياسات الروسية في عدة قضايا متعلقة بأوروبا، لأن سوق الطاقة يربط بين السياسة والاقتصاد، بما يعنيه ذلك أن أوروبا تعاني من تبعية طاقوية لروسيا، فإن هذا يدفع بنا القول بأن السياسة ” الأوروبية غير منعزلة عن التصور الروسي للأوضاع الإقليمية، خاصة وأن احتياطي روسيا للغاز الطبيعي سيكون له الأثر البالغ على تنظيم سوق الطاقة العالمية[7]، بحيث من يتحكم في قانون العرض و الطلب سيتحكم بمفاتيح هذه السوق و من تحكم بهذه الأخيرة ضمن شطراً كبيراً من تسيير موازين القوى العالمية.

فحسب توقعات المختصين في مجال الطاقة، فإن الاستهلاك الأوروبي للغاز الروسي مطلع 2040 سيصل إلى ما بين 80% و96%،[8] بالتالي هي نسبة تبرز بوضوح كيف أن الدول الأوروبية خاصة ألمانيا وفرنسا ودول أخرى من غرب أوروبا ستزداد حاجتها إلى هذه المادة، ما سيترتب عنه تبعية أوروبية للغاز الروسي.

فلو لاحظنا كيف أن الدول الأوروبية تعالج الملفات العالقة مع روسيا، لاتضح لنا بأنها مهما زادت من تصعيدها للأزمات فإنها لم تصل بعد إلى مواجهة حقيقية مع النظام الروسي، لأن هذا الأخير له ورقة الغاز الطبيعي يضغط بها في تسوية القضايا التي تهم الطرفين، وهذا ما كان في إثناء الأزمات الأوكرانية والبيلاروسية، التي بلغت ذروتها مع ضم روسيا لجزيرة القرم، حيث كان اتخاذ القرار من قبل النظام السياسي الروسي في أي قضية، يعتمد على مدخلات يتلقاها من البيئة الإقليمية، أي ماذا تتخذ الدول الأوروبية من ضغوطات و كذا حاجاتها من السوق الطاقوية الروسية وحتى العالمية، و عليه ستتخذ روسيا القرار الذي يخدم أمن أنابيبها التي تنقل الغاز إلى القارة الأوروبية، وفي الوقت ذاته ستبحث عن البديل الأنجع الذي يزيد عائداتها من الطاقة، مع ضمان مكاسب سياسية من الملف المطروح، ما يجعل أوروبا رهينة هذه الحسابات و المساومات، و من هنا يتضح كيف أن العلاقة التبعية في مجال محدّد أن تتشعب إلى مجالات أخرى خاصة السياسية و الأمنية منها.[9]

زد على ذلك، فإن الاتحاد الفيدرالي الروسي يعمل دائما على جعل دول أوروبا الشرقية تابعة أو خاضعة، وفق منطق تركات الاتحاد السوفيتي، فجيوبوليتيكيا تنظر روسيا إلى هذه الدول على أنها بوابة لأوروبا وبالتالي يجب خلق علاقة تبعية، خاصة وأن هذه الدول هشة من الناحية السياسية، إذ يجب على روسيا انتهاز الفرصة قبل أن تميل هذه الدول بشكل كلي للجهة الغربية، خصوصاً و أن شرق أوروبا هو زبون مهم لروسيا في مجال الغاز الطبيعي، وهي استهلكت عام 2009 أكثر من الدول الغربية وعلى رأسها ألمانيا، التي تعتبر الزبون الأول في هذه الجهة من أوروبا، وبالتالي لا يمكن افتراض أن هذه الدول ستكون سياستها غير متقاطعة مع رؤية موسكو للأوضاع الإقليمية، بل حتى أن روسيا تعمل على إقامة أنظمة سياسية في هاته الدول تخدم توجهاتها أكثر من مصالح أوروبا، التي بدورها تعمل على احتواء دول كانت تابعة للاتحاد السوفيتي، من أجل إضعاف روسيا إقليمياً وتقويض حضورها أوروبياً من خلال خلق دول عازلة بين أوروبا وروسيا محسوبة على الاتحاد الأوروبي.


الهامش

[1] رؤوف فتيحاني، دور متغيّر الغاز الطبيعي في العلاقات الروسية – الأوروبية (2000 –2014)، مذكرة مقدمة لنيل الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة الجزائر، 2014، ص86.

*  ذُكرت أوروبا وليس الاتحاد الأوروبي، بحيث هناك دول أوروبية لم تنضم بعد إلى الاتحاد الأوروبي في فترة الدراسة التي يشملها هذا الشكل رقم 8، لتلك نلاحظ بان نسبة الغاز النرويجي متدنية نوعاً ما مقارنة بالغاز الروسي، لأن هناك دولاً من شرق أوروبا تستقيد بنسب عالية من الغاز الطبيعي الأتي من روسيا.

[2] رؤوف فتيحاني، دور متغيّر الغاز الطبيعي في العلاقات الروسية – الأوروبية (2000 –2014)، مذكرة مقدمة لنيل الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة الجزائر، 2014، ص 82.

[3]  المرجع السابق، ص83.

[4] Vitally Nomekien, Russian Relations with Europe and the U.S: Implication for Global Security, The Emirates center for Strategic Studies & Research, No 1, 2005. P 87.

[5] Une relation européenne – Russie : Quelle relations?: www.senat.fr/rap/r06-307/r06-30714.html (10:10. 06/12/2014),

[6] رؤوف فتيحاني، دور متغيّر الغاز الطبيعي في العلاقات الروسية – الأوروبية (2000 –2014)، مرجع سبق ذكره، ص87.

[7] Robert E. Ebel, The geopolitics of russian energy (Washington : Center for strategic and international studies, 2009), P. 19,

[8] Keith C. Smith, RussiaEurope Energy Relations, Potomac Books, 2009, P. 03.

[9] رؤوف فتيحاني، دور متغيّر الغاز الطبيعي في العلاقات الروسية – الأوروبية (2000 –2014)، مرجع سبق ذكره، ص90.

.
رابط المصدر:

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M