أوروبا تتأهب للشتاء: ما هي البدائل المتاحة عن الغاز الروسي؟ (1)

د. أحمد سلطان

 

تهدف هذه الدراسة إلى إلقاء الضوء على الوضع الحالي للأزمة الروسية الأوكرانية وبالأخص فيما يتعلق بمشكلة إمدادات الغاز الطبيعي والتي تُشكل الوجه القبيح الذي يُطل على شعوب القارة الأوروبية في معركة لم يكن دخولها فيها وفقًا لاختياراتها وإنما مجبرة، والآن أصبحت مهددة بالموت بردًا، بالإضافة إلى أنها أصبحت حربًا تهدد الأهداف المناخية الأوروبية الطموحة، ووضعت التزام أوروبا بأهدافها المناخية على المحك حين استُخدمت الطاقة سلاحًا فعادت إلى الفحم. وخلال هذه الدراسة، سنلقي الضوء على أهم الحلول والبدائل للقارة الأوروبية وتصنيفها ما بين حلول عاجلة ومستقبلية وخيارات بديلة.

سيظل الغاز الطبيعي مصدرًا للطاقة على مدى أكثر من ٣٠ سنة مقبلة، لكنه لم يعد مادة اقتصادية خام فحسب، بل أصبح مادة قابلة للتوظيف والاستغلال السياسي، مثله مثل النفط، وبالتالي سيكون محكومًا بذات المنطق والآليات التي تحكمت فيما مضى بمصادر الطاقة والثروات الطبيعية.

ولا يقل الغاز في كونه سلاحًا جيوسياسي واستراتيجيًا وحيويًا في أهميته عن السلاح النووي أو غيره من الأسلحة. وخلال السنوات الماضية عارضت واشنطن ألمانيا وبقية دول الاتحاد الأوروبي في صفقة الغاز الشهيرة مع موسكو، والآن وبعد الحرب الأوكرانية أصبحت أيدي الأوروبيين مغلولة لا يستطيعون وقف التوغل الروسي، وعليهم دفع الفاتورة، فارتفعت أسعار الغاز على المستهلك الأوروبي بنسبة تتعدى أكثر من ٢٠٠٪، ومع استمرار الحرب أصيبت أوروبا بالهستيريا لأن مصيرها الآن في أيدي موسكو؛ فبوتين يجلس الآن ويده على الصنبور وبإمكانه، متى شاء، أن يفتح أو يغلق إمدادات الغاز إلى القارة.

الغاز الروسي وأهميته

تمتلك موسكو في حقولها السيبيرية أكبر احتياطيات الغاز الطبيعي في العالم، والذي بدأت بتصديره إلى بولندا في أربعينيات القرن الماضي، ثم قامت بإمداد خطوط الأنابيب في الستينيات لتوفير الوقود للدول الأسيرة في الاتحاد السوفيتي سابقًا، واستمر الأمر بخطوات ثابتة حتى في قمة الحرب الباردة، إلا أن النزاع الروسي الأوكراني المستمر بعد انهيار الاتحاد السوفيتي تكرر مرات كثيرة على خطوط الأنابيب الممتدة والتي تعبر الأراضي الأوكرانية، وتحمل الكمية الأكبر من الغاز الروسي الذي يعبر خلالها إلى القارة العجوز.

وبشكل عام، تُشكل روسيا أكبر مُصدّر للنفط؛ إذ تُمثل صادراتها النفطية أكثر من ٥ ملايين برميل يوميًا من النفط الخام بنسبة حوالي ١٢٪ من إجمالي التجارة العالمية، وتُمثل حوالي ٢٬٨ مليون برميل يوميًا من صادرات المنتجات النفطية العالمية، أي ما يعادل حوالي ١٥٪ من تجارة المنتجات المكررة عالميًا.

وكان الاتحاد الأوروبي وحده يستحوذ على نحو ٤٥٪ من صادرات روسيا من الخام والمنتجات النفطية وذلك بنهاية عام ٢٠٢١، وقبل الحرب الروسية الأوكرانية والتي بدأت في نهاية فبراير الماضي. وبعد قرار الحظر الأخير، بدأ الاتحاد الأوروبي رحلة البحث عن مصادر بديلة للغاز الروسي، وموجهًا أنظاره إلى منطقة بحر الشمال والقارة الأفريقية والشرق الأوسط.

خريطة نقل الغاز الروسي إلى القارة الأوروبية

تستهلك دول القارة المختلفة حوالي ٤٠٪ من الغاز الطبيعي القادم من روسيا عبر خطوط الأنابيب، حيث تدفع كل يوم ما بين ٢٠٠ و٨٠٠ مليون يورو للروس مقابل الغاز الطبيعي. وبلغ إجمالي الإمدادات الروسية إلى القارة الأوروبية في عام ٢٠٢١ نحو ١٥٥ مليار متر مكعب، ويبلغ حجم الغاز الذي يمر عبر الأنابيب المارة في أوكرانيا نحو ٥٢ مليار متر مكعب.

ولكي نستطيع معرفة قوة الأنابيب الروسية يجب إلقاء الضوء على خريطة نقل الغاز الروسي إلى دول القارة الأوروبية والتي تمثل ٦ شرايين أساسية لقلب أوروبا، واعتمدت على فكرة الشبكة العنكبوتية، وهي كالتالي على أساس الكمية:

نورد ستريم 1: والذي يُعد أكبر خط أنابيب غاز روسي إلى أوروبا من ناحية الكمية والتي تبلغ حوالي ٥٥ مليار متر مكعب سنويًا، ويمتد هذا الخط المزدوج عبر بحر البلطيق إلى ألمانيا، وفي العامين الماضيين فاق بالفعل طاقته المبينة على لوحة بياناته محققًا أكثر من حوالي ٥٩ مليار متر مكعب وذلك في عام ٢٠٢١.

نورد ستريم 2: وهو خط أنابيب ثانٍ مزدوج بنفس الحجم السابق، تم استكماله في عام ٢٠٢١ ولكن ألمانيا رفضت اعتماد تشغيله وذلك بعد أن بدأت روسيا عملياتها العسكرية في أوكرانيا.

يامال-أوروبا: تبلغ طاقته حوالي ٣٣ مليار متر مكعب، بالإضافة إلى إمكانية عمله في الاتجاه المعاكس، ويمتد من روسيا عبر بيلا روسيا وبولندا إلى ألمانيا، وعمل في معظم الوقت في الاتجاه العكسي، أي في اتجاه الشرق منذ ديسمبر من عام ٢٠٢١ مرسلًا الغاز من ألمانيا إلى بولندا. وفرضت موسكو عقوبات على مالك الجزء البولندي من الخط، ومع ذلك تُعد إمكانية عمل الخط في الاتجاه المعاكس ميزة قوية فمن الممكن استخدامه دون عكس تدفق الغاز في خط يامال.

أوكرانيا: خطوط أنابيب تصل طاقتها إلى حوالي ٣٢ مليار متر مكعب سنويًا من شبكة خطوط أنابيب الصداقة للغاز والتي تمتد من روسيا عبر أوكرانيا للشحن إلى أوروبا عبر سلوفاكيا.

ترك ستريم: يعبر هذا الخط المزدوج الذي تبلغ طاقته حوالي ٣١٬٥ مليار متر مكعب البحر الأسود إلى تركيا لإمداد السوق التركية وجنوب أوروبا.

بلو ستريم: يعبر هذا الخط أيضًا البحر الأسود إلى تركيا وتبلغ طاقته حوالي ١٦ مليار متر مكعب.

ويوضح الشكل التالي الخطوط وحجم الكميات الاستعيابية لكل خط ومساره عبر القارة الأوروبية.

الضغوط الحالية على أوروبا

هناك العديد من الأزمات في التبعية الأوروبية المستمرة لموسكو فيما يخص الغاز الطبيعي ومنها:

  • اعتادت موسكو إرسال معظم صادراتها من الغاز إلى أوروبا عبر أوكرانيا، ولكن هذه الكميات تراجعت بشكل حاد واستعاضت موسكو عن ذلك بزيادة صادراتها إلى ألمانيا وتركيا.
  • الاتفاق الروسي الصيني على دفع ثمن الغاز الروسي بالروبل واليوان.
  • ترفض أوكرانيا شراء الغاز مباشرة من غازبروم منذ عام ٢٠١٥ بعد ضم موسكو شبه جزيرة القرم وقيام تمرد موال لروسيا في شرق أوكرانيا.
  • سعت موسكو إلى تهميش كييف؛ إذ لم تكتف بتعزيز التدفقات عبر طرق الإمداد البديلة، بل خفضت أيضًا كميات الغاز المنقولة عبر أوكرانيا، مما يعني حصول كييف على إيرادات أقل من رسوم النقل.
  • موسكو أغلقت كثيرًا الخط الأكبر في عملية نقل الغاز وهو نورد ستريم 1 استنادًا إلى دعوى الصيانة.
  • عدم توافر بدائل قوية بشكل سريع وفوري.
  • قلص عقد روسيا مع أوكرانيا الكميات المنقولة عبرها من حوالي ٦٥ مليار متر مكعب في عام ٢٠٠٠ إلى حوالي ٤٠ مليار متر مكعب سنويًا من عام ٢٠٢١ إلى ٢٠٢٤.
  • يحتاج أكبر اقتصاد في القارة الأوروبية إلى تقليل استخدام الغاز بنسبة نحو ٢٠٪، وإلى ضرورة تأمين إمدادات إضافية لاستمراره خلال موسم التدفئة القادم.
  • تظهر بيانات من مشغل نظام نقل الغاز الأوكراني أن الكميات المنقولة عبر البلاد التي بلغ متوسطها حوالي ١٢٤٬٦ مليون متر مكعب يوميًا في عام ٢٠٢١ هي حاليًا عند نحو ثلث هذا المستوى.
  • عامل الوقت والتكلفة بالإضافة إلى بُعد بعض الحلول المتاحة عن القارة الأوروبية.
  • المخاطر تمتد إلى النمسا وإيطاليا، وتتلقى بعض الدول الأخرى أيضًا الغاز الروسي من جيرانها، وقد تؤدي التخفيضات إلى تعطيل تلك التجارة.
  • تُمثل برلين محور ارتكاز للأزمة الحالية، إذ إنها المكان الذي يربط نورد ستريم بشبكة الغاز الأوروبية، وتعتمد المنازل والمصانع في البلاد بشكل كبير على الوقود بعد عقود من الاعتماد على الطاقة الروسية.
  • تقلص إنتاج بعض الصناعات، مثل الزنك والألومنيوم إلى الأسمدة؛ بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، وقد يتسبب ذلك في ضرر طويل الأمد لاقتصاد أوروبا إذا تخلت العديد من الشركات عن عملياتها.
  • محطات الإسالة البرية غير متوافرة بشكل كافٍ في القارة الأوروبية، على سبيل المثال لا تملك ألمانيا محطة برية لمعالجة الغاز المسال المستورد، وتعتمد حاليًا على محطات في دول أخرى في الاتحاد الأوروبي، ما يحد من قدرتها على الاستيراد.

ومن هنا نستطيع القول إن الأزمة الأوروبية الحالية تتبلور في العديد من النقاط أهمها مع ضرورة أخذ عاملي الوقت والتكلفة بعين الحسبان:

  • تخزين كميات كبيرة من الغاز وبشكلٍ كافٍ للاستعداد لفصل الشتاء وبشكل عاجل، حيث تحتاج دول الاتحاد الأوروبي إلى تعبئة مخزوناتها من الغاز الطبيعي بنسبة تتعدى ٩٠٪ خلال الأشهر القليلة المقبلة؛ ولكي تتمكن من تخطي فصل الشتاء من دون أن تواجه نقصًا، بالإضافة إلى أن كافة الجهود الأوروبية المبذولة في الوقت الحالي لم تفض إلى نتائج إيجابية.
  • تقليل الاعتماد على الطاقة القادمة من موسكو.
  • السيطرة على ارتفاع الأسعار في الطاقة والتي يقابلها زيادة كبيرة في أسعار السلع بالإضافة إلى معدلات التضخم الكبيرة والشكل التالي يوضح ارتفاع اسعار الغاز بشكل كبير خلال الفترة الماضية، حيث أغلقت عقود الغاز القياسي الآجلة في أوروبا مرتفعة حوالي ١٥٪.

إلى أي مدى تعتمد أوروبا حقًا على الغاز الروسي؟

يحاول عدد من الدول الأوروبية الاستغناء عن مصادر الطاقة الروسية بواسطة بناء موانئ خاصة بها وبالتحديد منذ عام ٢٠١٤، ويأتي أكثر من ٣٥٪ من الغاز والنفط إلى أوروبا من روسيا تقريبًا، ولكن كلما اقتربت الدولة من الحدود الروسية، كانت أكثر اعتمادًا عليها، وكانت خيارات سياساتها الخارجية أقل فمثلًا، دول مثلا إستونيا ولاتفيا وسلوفاكيا وفنلندا تعتمد على الغاز الروسي بنسبة ١٠٠٪.

أما دول أخرى مثل ليتوانيا وبلغاريا وجمهورية التشيك فنجدها تعتمد على الغاز الروسي بنسبة تتعدى ۸٠٪، والنمسا واليونان بنسبة تتعدى ٦٠٪، ونجد دولة مثل ألمانيا نصف استهلاكها من الغاز يأتي من روسيا، لهذا كانت ألمانيا أقل انتقادًا للسلوك الروسي من دول مثل بريطانيا التي لا تستورد سوى ١٣٪ من احتياجاتها من الغاز الروسي. وبصفة عامة، يجب الإشارة إلى اعتماد الدب الروسي على النفط والغاز في تمويل أكثر من ثلث ميزانيته الحكومية.

والجدير بالذكر أن موسكو قلصت التدفقات عبر خط الأنابيب نورد ستريم الذي ينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا إلى حوالي ٤٠٪ في يونيو وحوالي ٢٠٪ في يوليو، بالإضافة إلى قطع الإمدادات عن عدة دول أوروبية مثل بلغاريا والدانمارك وفنلندا وهولندا وبولندا، وخفضت التدفقات عبر خطوط أنابيب أخرى منذ بدء حربها على أوكرانيا.

ختامًا، تسعى دول القارة الأوروبية بكل ما أوتيت من قوة إلى إنقاذ سوق الطاقة من الوقوع في براثن أزمة إمدادات كبيرة تهدد شعوبها بالموت بردًا وشتاءً قاتلًا، بعدما حُوصرت بعوامل إضافية خلال الفترة الماضية مما أصابها بالإنهاك. وشهد الأسبوع الأخير أحداثًا عدة قد تغير من معادلة الطاقة بالقارة والدول المحيطة خلال فصل الشتاء المقبل، وتزامنًا مع زيادة معدل الطلب على الكهرباء والتدفئة، ولكن سيظل السؤال ما هي البدائل المتاحة أمام القارة العجوز إذا انقطعت إمدادات الغاز الروسي بشكل نهائي؟

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/72743/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M