تشكلت الأزمة الليبية طيلة السنوات الماضية وفقًا لمجموعة من التفاعلات والحسابات التي تباينت من مرحلة إلى أخرى، وقد ارتبطت تلك التفاعلات بمجموعة من الفواعل وأصحاب المصالح سواء على الصعيد الخارجي أو الداخلي، وساهمت هذه التفاعلات في مجملها في تعقيد المشهد واستمرار حالة التأزم.
وتشهد الساحة الليبية خلال الأشهر الماضية زخمًا ملحوظًا مع تصاعد قوة الدفع الخارجية نحو إنهاء حالة السيولة ووضع حد للمرحلة الانتقالية، وصولًا للانتخابات. هذا الزخم الخارجي يستدعي النظر لمواقف وأطراف القوى الداخلية المنخرطة في الأزمة، بهدف اختبار أوزانها النسبية وتأثيراتها المحتملة في مستقبل الأزمة الليبية
خريطة القوى الفاعلة
أدى تجدد دورات الصراع في ليبيا وتراكم المراحل الانتقالية، إلى توسيع قاعدة الأطراف الداخلية وأصحاب المصلحة، وقد اتسمت تفاعلات الداخل بارتباطها بالمصالح الضيقة في مجملها على حساب المصلحة الوطنية، حيث سعى كل طرف لتأمين أكبر قدر من المكاسب والنفوذ، مما أدى إلى صراع إرادات يبحث كل طرف خلاله على فرض هيمنته وشروطه، وفي إطار تعدد الفواعل يمكننا الوقوف على خريطة القوى المؤثرة انطلاقًا من التفاعلات المسيطرة على الساحة الليبية في الوقت الراهن وذلك على النحو التالي:
أولًا) الأجسام السياسية المشمولة بالاتفاق السياسي: ضمن الاتفاق السياسي 2015 في الصخيرات باعتباره الوثيقة التي تحكم التفاعلات الداخلية نفوذًا كبيرًا لعدد من القوى في المرحلة الانتقالية وفي مقدمتها، مجلس النواب كونه الجهة الوحيدة المنتخبة، بالإضافة إلى المجلس الأعلى للدولة كجهة استشارية، وخلال السنوات الماضية ظل التضارب قائمًا بين المجلسين، وأخفقا في التوافق فيما بينهما على قاعدة دستورية تؤمن عملية الانتقال السياسي، إلا أن الأيام الماضية أظهرت نوعًا من الاصطفاف والتوافق وإن كان يأخذ شكلًا أو طابعًا اضطراريًا، حيث وافق المجلس الأعلى للدولة على التعديل الدستوري الثالث عشر، وذلك في أعقاب استشعاره أن المبادرة الأخيرة للمبعوث الأممي “عبد الله باتيلي” من شأنها أن تُحيد أو تُحد من دوره في المرحلة القادمة، حال استمرار غياب التوافق مع مجلس النواب.
وعليه فقد أظهرت السنوات الماضية حدود التأثير وحيازة النفوذ للمجلسين، ويرجح أن يستمر دورهما خلال المرحلة القادمة في ظل مساعيهم لعرقلة مبادرة “باتيلي”، وذلك من خلال استكمال إجراءات عملية الانتقال السياسي، وقد يتجه المجلسان سريعًا لتشكيل لجنة مشتركة لإقرار القوانين والقواعد المنظمة للانتخابات، وهو الأمر الذي قد يأخذ وقتًا أطول، إذ ستكون اللجنة أمام معضلة التعاطي مع القضايا الرئيسة الخلافية غير المشمولة في التعديل الدستوري، إلا أن تشكيل اللجنة يضمن لهما استمرار امتلاك أدوات الفعالية والتأثير بغض النظر عن العامل الزمني وقدرتهما على إنجاز القضايا محل الخلاف.
ثانيًا) التكتلات والتيارات الكبرى: ضاعفت التفاعلات التي شهدتها ليبيا من الأوزان النسبية لعدد من التكتلات والتيارات، من بينها: “تيار الكرامة” والذي بدا نفوذه يتصاعد مع انطلاق عملية الكرامة 2014، بقيادة قائد الجيش الوطني الليبي المشير “خليفة حفتر”، وذلك في إطار الحرب على التنظيمات الإرهابية، وبمرور الوقت تصاعد نفوذ تيار الكرامة، وباتت حساباته من المشهد السياسي تدور في فلك عدم إقصاء العسكريين وإفساح المجال أمامهم لخوض الانتخابات، الأمر الذي يصطدم ببعض الاتجاهات التي ترفض أية أدوار للعسكريين في العملية السياسية. ويظل تيار الكرامة يحتفظ بقدرته على التأثير في ظل دعم عدد من القبائل والزعامات شرق ليبيا وجنوبها، بجانب دعم عدد من القوى الخارجية.
من ناحية أخرى، برز “تيار الإسلام السياسي” ممثلًا في إخوان ليبيا بصورة مؤثرة في المشهد خاصة في أعقاب انتخابات 2012، إلا أن استمرار الأزمة كان كفيلًا بتراجع نفوذ وتأثير تيار الإسلام السياسي في ليبيا وسط جملة من الاعتبارات ارتبط بعضها بتراجع تيارات الإسلام السياسي في الإقليم، والأخرى بتآكل شعبية هذا التيار وانكشافه مجتمعيًا في ظل استمرار أدواره المعرقلة لعملية الانتقال السياسي، وإجهاضه كافة المحاولات في هذا الشأن، ولعل إخفاق تيار الإسلام السياسي في استعادة الزخم خاصة بعد اجتماعات إسطنبول (يناير2023)، التي دعا إليها القيادي الإخواني “على الصلابي” بهدف تشكيل جسم بديل عن لجنة الحوار السياسي، يشير لافتقاد تيارات الإسلام السياسي للخيال والقدرة على التأثير بجانب غياب الحاضنة. رغم ذلك لا تزال حظوظ هذا التيار قائمة خاصة إذا ما تم اللجوء للانتخابات في ظل قدرته على الحشد وإجادة التعاطي الفاعل مع الاستحقاقات الانتخابية.
كذلك لا يمكن إغفال دور “تيار سبتمبر” في المشهد ومساعي العودة مرة أخرى عبر تأييد ترشح “سيف القذافي” للانتخابات، ورغم العراقيل التي قد تحول دون ترشحه، إلا أن هذا التيار يحظى بشعبية في الداخل الليبي والتي ترتكز على مجموعة كبيرة من أنصار النظام السابق في جنوب ليبيا وشرقها، بجانب مجموعة أخرى من الساخطين والمحبطين مما آلت إليه الأوضاع في أعقاب فبراير 2011.
ولا ينفصل تيار غرب ليبيا عن الأدوار المؤثرة على مجمل التفاعلات في ليبيا، ويتشكل هذا التيار بصورة أساسية من قبل الميليشيات والجماعات المسلحة غرب ليبيا، التي تسعى لتوظيف القوة العسكرية في امتلاك التأثير والنفوذ، وعلى الرغم من نشوب خلافات بين تيار الغرب قد تؤدي في بعض الأحيان لحالة الاحتراب أو الاقتتال بينهما، إلا أنه دائمًا ما يتم احتواء تلك الصدامات دون تحولها لمواجهات موسعة، وقد وفر هذا التيار مظلة حماية لحكومة الدبيبة، خاصة بعدما منعت تلك العناصر “فتحي باشاغا” في أكثر من مرة الدخول للعاصمة الليبية لممارسة مهامه.
ثالثًا) القادة الانتقاليين: أدت الأزمة الليبية، ونمط التكرار الذي سيطر على مجمل تفاعلاتها، إلى تعدد القادة، ولعل نمط الحكومة الموازية وصراع الحكومتين المسيطر على المشهد الحالي دليل واضح على أن مراحل الانتقال السياسي في ليبيا دومًا ما تفرز أصحاب مصالح جدد، ما بدا من تمسك حكومة الدبيبة وفتحي باشاغا بالشرعية، ومساعيهم لاستخدام كافة السبل والأدوات لحيازة النفوذ، وعليه سوف يظل تأثير الحكومتين في المشهد الفترة القادمة، ويمكن أن تشهد المرحلة القادمة مزيدًا من القادة الانتقاليين، خاصة إذا ما تم الاتفاق على تشكيل حكومة جديدة للإعداد للانتخابات.
رابعًا) القبائل والزعامات التقليدية: على الرغم من الطبيعة القبلية والجهوية التي ارتكز عليها المكون الليبي تاريخيًا، إلا أن الأزمة الليبية وما صاحبها من تفاعلات، تسببت في تراجع دور القبيلة بصورة ملحوظة أو على الأقل الافتقاد للقدرة المنفردة على التحكم في دفة الأمور، خاصة أن القبائل الليبية أصبحت جزءًا من تعقيدات المشهد في ظل حالة الاصطفاف المناطقي الذي سيطر على تحركات القبيلة تجاه الأجسام السياسية أو الفاعلين في المشهد، حيث تميل قبائل الشرق على سبيل المثال لدعم مجلس النواب والجيش الليبي، في حين توفر أغلب قبائل الغرب الدعم لتيار غرب ليبيا.
وقد بدت حالة الاستقطاب السياسي للقبائل والتماهي مع صراع الأقطاب المسيطر على المشهد في عمليات إغلاق الموانئ أو الحقول النفطية، أو التحرك لدعم طرف على حساب الآخر، ورغم تراجع نفوذ القبيلة عما كانت عليه، إلا أن الوصول للمحطة الانتخابية قد يبرز دور القبائل وأوزانها النسبية في حال الاتفاق على مرشح معين دون الآخر.
خامسًا) الأحزاب السياسية: تعتبر التجربة الحزبية في ليبيا من التجارب الوليدة، نظرًا لعدم وجود حياة حزبية خلال فترة حكم الرئيس الراحل “معمر القذافي”، فلم يكن هناك دورًا للأحزاب السياسية، حيث كان يُنظر لتشكيلها على أنه خيانة تحت شعار “من تحزب خان”، الأمر الذي يشير لغياب البيئة المحفزة لعمل الأحزاب، وبالتالي افتقدت الأحزاب لعوامل التأثير والفعالية.
وشهدت مرحلة ما بعد 2011 توجهًا لدى عدد من الساسة إلى تشكيل مجموعة من الأحزاب السياسية، بهدف لعب دور في الحياة السياسية، الأمر الذي ترجمته انتخابات 2012، حيث نجحت الأحزاب في حصد نحو 80 مقعدًا، قبل أن يتراجع دورها فيما بعد بفعل القوانين الانتخابية والتي أجريت على أساسها انتخابات 2014، حيث اعتمدت على النظام الفردي الذي أهدر فرص الأحزاب في الدخول للبرلمان.
وخلال السنوات الماضية، عملت الأحزاب السياسية على التفاعل مع المرحلة الانتقالية، وذلك في إطار تشكيل تجمعات أو تكتلات حزبية بهدف مضاعفة عوامل التأثير، إذ تم الإعلان عن تحالف ” شبكة تواصل” في سبتمبر 2022، والذي يضم 8 أحزاب سياسية على رأسهم حزب البناء والتنمية الذراع السياسي لإخوان ليبيا، علاوة على تشكيل تحالف ” تجمع الأحزاب الليبية” في مايو 2022، والمكون من 24 حزبًا، ويذكر أن التحالف الأخير كان قد أعلن تأييده لمبادرة “عبد الله باتيلي” الأخيرة.
ويدور الحراك الحزبي في الوقت الراهن في إطار مساعي تأمين الحضور في المشهد السياسي والترتيبات المستقبلية، حيث تضغط الأحزاب لضمان أن تنص القوانين الانتخابية على مشاركة الأحزاب في العملية السياسية وفقًا لنظام القوائم الحزبية بما يضمن لهم المشاركة الفاعلة، وعليه سيتوقف دور الأحزاب مستقبلًا على طبيعة النظام الانتخابي.
.
رابط المصدر: