إدارة بايدن والقضية الفلسطينية: قيود العلاقة وفرص التدخل

بقلم : د. جمال الفاضي – المركز الديمقراطي العربي

 

المقدمة:

نعيش في مشهد دولي ملئ بالمتغيرات، وأخطر ما يميز هذا المشهد، أن القضية الفلسطينية ومعها الصراع العربي الإسرائيلي لم يعد الصراع الرئيس في المنطقة، ولم تعد الولايات المتحدة ترى فيه المهدد للأمن الدولي، ومن الواضح أن فوز بايدن بالرئاسة الأمريكية سيكون له تأثيرات حساسة على السياسة العالمية، حيث نعلم أن سياسة  “أمريكا أولاً”، قد جلبت المزيد من الفوضى وفراغ القوة في عهد ترمب.

لقد قوضت إدارة ترمب بشكل عميق الدور الأمريكي في صنع السلام الإسرائيلي الفلسطيني من خلال اتباع نهج أحادي الجانب، ورفض المبادئ الأساسية التي يقوم عليها السلام العربي الإسرائيلي لعقود، والانحياز الكامل الولايات للسياسات الإسرائيلية اليمينية المتطرفة مع تجميد الصلات مع الفلسطينيين وتجاهلهم. واليوم من المرجح أن تلقي الاوضاع الداخلية في الولايات المتحدة بآثارها الثقيلة على الدور المستقبلي للإدارةالجديدة في صراع الشرق الاوسط، نظرا لحالة الاستقطاب السياسي في المواقف العامة من إسرائيل ، وما يخلقه من القيود ولكن من الفرص أيضا في المقاربات الامريكية القادمة .[1]

بايدن وصعوبة العودة للوراء:

يتسلم بايدن السلطة في عالم يختلف تماماً عما تركه قبل أربعة أعوام، عندما كان يشغل منصب نائب الرئيس باراك أوباما، حيث يعتقد بعض المحللين أن فترة بايدن ستمثل استنساخاً لحقبة أوباما، وقد شكل عودة البعض من فريق إدارة أوباما للعمل ضمن فريق بايدن مرتكزاً لهذا البعد، ولكن العالم 2009 ليس هو العالم 2020، فها هي الصين تتبوء مكانة عالمية أكبر من خلال دورها في دعم المؤسسات متعددة الأطراف ودعم التنمية في أفريقيا وأميركا اللاتينية، فضلاً عن تراجع العلاقات بينها وبين واشنطن خلال فترة ترمب إلى أسوأ مستوى منذ عقود مما أثار مقارنات مع حقبة الحرب الباردة[2].

وكذلك علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها خصوصاً الأوروبيين، لم تعد هي، حيث أصابها الشك والإهمال والتجاهل، والعودة لتصحيح المسار تتطلب جهداً ووقتاً من قبل إدارة بايدن، فيما العالم العربي أيضاً لم يعد هو، حيث بات القادة العرب اليوم ، في موقع مختلف، عما كانوا عليه في عام 2009[3]، فلم تنجح ثورات الشعوب باستجلاب ربيعاً أو ديمقراطية بل أصبحنا نعيش خريفاً وحروباً أهلية، وقد قامت العديد من الأنظمة العربية بتطبيع علاقاتها معها، وهو ما أضعف وربما حيد أهمية مبادرة السلام العربية عام 2002، وأنه لم يعد يُنظر إلى حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني على أنه شرط لا غنى عنه في السياسات العربية، كما يتضح من الاتفاقات الأخيرة بين إسرائيل والبحرين والمغرب والسودان والامارات العربية المتحدة.[4]

بينما فلسطين تعيش انقساماً وترهلاً وضعفاً، فلم تعد الجغرافية المحتملة للدولة الفلسطينية موحدة، وبات النظام السياسي الفلسطيني هشاً، أما إسرائيل التي تعيش أزها أحلامها اليوم بعد سبعة عقود على احتلالها للأراضي الفلسطينية، فها هي تعيد رسم حضورها ومشهدها بالمنطقة، حيث أصبحت طرفاً أساسياً في إعادة هيكلة المنطقة وفي حالة الاستقطاب والتحالفات التي أصبحت تتهيئ لها المنطقة لمواجهة الخطر الإيراني، وفيما يتعلق بعلاقاتها مع الفلسطينيين، فطموحها بالهيمنة على كل الأراضي الفلسطينية مستمرة واستيطانها يتمدد يومياً، والقدس أصبحت عاصمتها الأبدية بقرارِ أمريكي، وموقفها من لإقامة دولة فلسطينية بات أكثر تعنتاً بعد أن أصبح اليمين واليمن المتطرف هو من يحكم دولة إسرائيل. أما في الوقت الحاضر، فهناك ضغط ضئيل جدًّا يُمكن أن تمارسه إدارة بايدن المقبلة للانخراط فورًا في هذا النزاع؛ أكان من جهة إسرائيل، أو فلسطين، أو الدول العربية، أو المجتمع الدولي.

إدارة بايدن ومتغيرات البيئة الداخلية:

تواجه إدارة بايدن الجديدة مجموعة كبيرة من القضايا المعقّدة المطروحة على جدول الأعمال من جهة، وتجد

نفسها أمام ساحة محلية مشحونة بالعصبية الحزبية من جهة أخرى[5]، فالسنوات الأربع الماضية خلقت متغيرات جديدة على صعيد ظهور الشعبوية والسعي لهيمنة البيض والإنجليكيين على الحكم، وما نتج عنها من انتشار للعنصرية، بالإضافة للمتغير الصحي المتعلق بانتشار كوفيد 19، الذي تسبب بمقتل واصابة مئات الآلاف من الامريكيين، وما نتج عنه من تراجع للاقتصاد وارتفاع نسب البطالة وتراجع فرص التشغيل.

وما أفرزته من تحديات صحية، اقتصادية واجتماعية؛ حاجة واشنطن للوقت الكافي من أجل التعافي من فترة ترمب وإرثه؛ القدرة على دفع الامريكيين لاستعادة التعددية التي يتمتع بها المجتمع الامريكي، العنصرية وعدم المساواة العرقية؛ بالتالي، سوف ينخفض الاهتمام بالشؤون الخارجية نسبياً. نتائج الانتخابات الأخيرة والتي أفرزت فوز بايدن وما رافقها من جدل حاد حول قبول أو رفض الرئيس السابق للنتائج وهو ما قاد إلى حالة من الاحتقان داخل المجتمع الامريكي انتج انقسام عرضي وطولي، ولعل ما حدث من أقتحام الكونغرس ومقتل أمريكيين يشكل سابقة، وتحدي اما إدارة بايدن لمعالجة إرث سابقه على مستوى المجتمع الأمريكي.

بايدن وقيود الكونغرس

نظراً لدور الكونغرس في النظام السياسي الأمريكي وفي إدارة السياسة الخارجية للولايات المتحدة، فإن ذلك سيخلق جملة معيقات وتحديات أمام إدارة بايدن في التعاطي مع الملفات الخارجية وخصوصاً عندما يتعلق الامر بطرف إسرائيل، فحتى لو قررت إدارة بايدن القيام بالحد الأدنى من الجهود لمعالجة بعض التغييرات التي أجراها ترمب فيما يتعلق في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، سيتعيّ عليها التعامل مع الكونغرس[6]؛ إذ من المحتمل أن تصطدم بمعارضة، وهذه المعارضة لن تكون من جانب الجمهوريين فحسب، وهم الذين سعوا على نحو متزايد إلى استخدام إسرائيل مثل كرة قدم” سياسية، بل كذلك من جانب الديمقراطيين المعتدلين أيضًا، الذين يريدون تقديم أنفسهم على أنهم مؤيدون لإسرائيل. خصوصاً وأن هناك خشية من قبل الكثير من السياسيين الأمريكيين من اتهامهم، بأنهم معادون للسامية من طرف خصومهم، إذا ما أظهروا أي انفتاح تجاه حقوق الفلسطينيين.

تكمن أبسط الخطوات العكسية التي قد يتخذها بايدن بشأن فلسطين، لمعالجة بعض الأضرار التي ألحقها ترامب، في إعادة بناء العلاقات مع منظمة التحرير الفلسطينية، أما كيفية حدوث ذلك تحديدًا، فهو أمر معقّد وقد يحتاج إلى موافقة الكونغرس. ولطالما سعى الرؤساء للحصول على تنازلات للسماح لمنظمة التحرير الفلسطينية بالاحتفاظ بمكتبها في واشنطن العاصمة، لكنّ هذا الأمر أصبح مستحيلً مع تعديل التشريعات التي تشدّد القيود في حال توجُّه المنظمة إلى المحكمة الجنائية الدولية[7]، أو في حال اتخاذ خطوات إضافية.

وهذا يشير إلى أن تصريحات بايدن الإيجابية تجاه السلطة الفلسطينية والعودة لمقترح حل الدولتين، والرغبة بالعمل على تحسين العلاقة بين السلطة الفلسطينية والولايات المتحدة، وعدم السير على خطى الرئيس ترمب في ما يخص صفقة القرن، وضم أجزاء من الضفة الغربية، ستكون مقيدة بشروط الكونغرس، وبالإرث التقيل الذي تركه سلفه فيما يتعلق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. هناك جملة من التحديات والقيود ستحد من هامش الإدارة الجديدة على التحرك بالملف الفلسطيني[8].

هل تملك إدارة بايدن الرصيد السياسي الكافي في ظل وجود متغيرات كثيرة صحية واقتصادية تمر بها البيئة الداخلية للولايات المتحدة لمواجهة القوى الحليفة لإسرئيل في الولايات المتحدة؛ ما مدى قدرة إدارة بايدن على مواجهة الكونغرس سواء جمهوريين أو ديمقراطيين، عند الحديث عن محاولة طرح مقاربة جديدة لعملية سلام بشروط مختلفة عما اُتبع سابقاً، خصوصاً وأن إدارة ترمب السابقة، كانت قد أغلقت كل فرص وجود حلول وسطية وأعادت رسم المشهد الفلسطيني الإسرائيلي ضمن الشروط الإسرائيلية والمتمثلة برفض إقامة دولة فلسطينية؛ قرار محكمة الجنايات الدولية المتعلق بالولاية القانونية للمحكمة على الأراضي الفلسطينية، الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، سيحد من قدرة إدارة بايدن على التفاعل والتدخل النشط، وربما يخلق مبرراً للإدارة الجديدة لعدم الذهاب بعيداً تجاه عودة العلاقات مع منظمة التحرير الفلسطينية؛ حاجة بايدن لمواقفة الكونغرس لاعادة العلاقات مع منظمة التحرير الفلسطينية، أو فتح مكتبها، خصوصاً وأن الكونغرس كان قد أقر قانون تعديل مكافحة الإرهاب عام 2018 والذي يستهدف المنظمة بدعاوي مدنية، وهو ما يتيح للجماعات المؤيد لإسرائيل فرص رفع دعاوي ضدها؛ أي محاولة من قبل إدارة بايدن للإيجاد مقاربة جديدة لعملية السلام ستصدم بالإرث الذي تركه ترمب، وهو ما يجعل من المستحيل العودة للوراء، بالإضافة، من الصعوبة الاعتقاد أن خطاب الديمقراطية والقيم سيعود على رأس أجندة التعاطي الأمريكي مع ملفات الشرق الأوسط.

إدارة بايدن وإسرائيل تغيير مؤجل

توجه إسرائيل إلى انتخابات جديدة في مارس المقبل، قد تتمخض عنها تغييراً في المشهد السياسي الداخلي، لذلك، لا يبدو أن تغييراً جوهرياً في السياسة الأميركية سيحصل تجاه إسرائيل، ولا في طرق التعامل معها، أو إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل إدارة ترمب، سواء في سياق الإبقاء على مقرّ السفارة الأميركية في القدس المحتلة، أو التراجع عن الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان المحتل، لكن يمكن أن يحدث تغييراً في اللهجة والمفردات واتّباع لهجة دبلوماسية “محايدة” في أحسن الحالات، لا تخرج عن إبداء القلق، حيناً، والتمني بعدم اتخاذ خطوات أحادية حيناً آخر، أو الدعوة لترطيب الأجواء واتخاذ خطوات لبناء الثقة وإبداء نية حسنة “لإحياء العملية السلمية. وبحسب إشارات نتنياهو إلى عمق التزام بايدن بأمن إسرائيل، وتصريحات الرئيس الأميركي الجديد المشهورة عنه، بقوله إنه لا ينبغي أن يكون المرء يهودياً حتى يكون صهيونياً، يمكن الاستدلال على أن الإدارة الأميركية لن تسعى، على الأقل خلال عامها الأول، للصدام مع إسرائيل في أيّ من الملفات التي قد تكون خلافية، ما لم تهدّد المصالح الأميركية في المنطقة[9].

الخاتمة: الحد من التفاؤل

من المُستبعد أن تقوم إدارة الرئيس جو بايدن بتغييرات كبيرة أو بخطوات جادة على صعيد السياسات الإسرائيلية والفلسطينية، وذلك لوجود كثير من التحديات تواجه هذه الإدارة، سواء تعلقت بالداخل في الولايات المتحدة فجدول أعماله متخم بالأحداث، ورصيده السياسي سيكون على تماس مع الكونغرس، أو خارجية تتعلق بالصين وروسيا على الصعيد الدولي، ملفات الشرق الأوسط المتعددة والكثيرة والتي لن يأتي فيها الملف الفلسطيني ذات أولوية، وأنه على الرغم من تصريحاته بشأن العلاقة مع الفلسطينيين، إلا أن السياسات التي ربما ستكون مختلفة عما قام بها ترامب، أو سيسعى إلى تغييرها، ستواجه بمعارضة في كل خطوة يخطوها، وهذا يعني أن إدارة بايدن الجديدة لن تعيد إنتاج مساعي إدارة أوباما في محاولتها إيجاد مقاربة سلام، ولن تنقلب على خطوات إدارة ترمب فيما يتعلق بموقفها من إسرائيل أو بالتماهي مع كثير من الخطوات التي قامت بها مثل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الامريكية إليها، وأعتقد أن ملف فلسطين سيكون على طاولة وزارة الخارجية دون البيت الأبيض لممارسة بعض التحركات الشكلية والبروتوكولية.

موقف إدارة بايدن من من قرار محكمة الجنايات الدولية والمتعلق باختصاصها الإقليمي على الوضع الفلسطيني الرافض للقرار، واعتبار الفلسطينيين غير مؤهلين للحصول على دولة ذات سيادة وبالتالي غير مؤهلين للحصول على العضوية كدولة أو المشاركة في المنظمات أو الكيانات القانونية، يؤكد أن لا تغييراً يرجى أو يتوقع بالمنهج الأمريكي تجاه الفلسطينيين، وأن التغيير الحقيقي والممكن هو متعلق بقدرة وإرادة الفلسطينيين على الحد من تفؤلهم تجاه إدارة بايدن، وأنهم هم فقط من يستطيع بلورة رؤيتهم ومشروعهم التحرري ضد اسرائيل كدولة احتلال والرفع من تكلفته والعمل على هزيمته بالتوازي مع بناء كيان مبني على قيم الحرية والديمقراطية ويرفض التسلط والديكتاتورية والمنهج الأبوي. هذا الذي يمكن أن يمنحنا التفاؤل  والروح وأن القادم هو الأفضل.

وسيكون من الضروري أن تكون القراءة الفلسطينية مبنية عن علم ومعرفة بتطورات موقف الإدارة الامريكية، وانه يجب إعداد فريق فلسطيني متخصص ومختلف ويتشكل من فلسطينيين من الساحة الامريكية ومن الأراضي الفلسطينية يدير العلاقة ومستجدات السياسة مع الامريكيين.

[1]  ايلان غولدنبيرغ وآخرين، مركز دراسات الامن الامريكي، تعريب وتحرير مركز تقدم للسياسات، لندن، 21/12/2020، تاريخ الدخول 7/2/2021، رابط:  https://cutt.us/cUZCA

[2]  https://www.reuters.com/article/idARAL8N2JU3BX

[3]  يوسف منير، بايدن وإسرائيل: محددات العلاقة وقيودها، المركز العربي لأبحاث ودراسة السياسات، قطر، 24 ديسمبر 2020.

[4]  ايلان غولدنبيرغ وآخرين، مرجع سابق

[5] Zack Beauchamp, “The Netanyahu Speech Controversy, Explained,” Vox, 3/3/2015, accessed on 19/1/2021,  at: https://bit.ly/3qsEeW8

[6]  يوسف منير مرجع سابق، ص 3

[7] United States Government Publishing Office, Public Law 115–253, “Anti-Terrorism Clarification Act of 2018,” 3/10/2018, accessed on 19/1/2021, at: https://bit.ly/3bTiyP4

[8]  يوسف منير، بايدن وإسرائيل: محددات العلاقة وقيودها، المركز العربي لأبحاث ودراسة السياسات، قطر، 24 ديسمبر 2020.

[9]   ادارة بايدن وإسرائيل تغيير في اللهجة، العربي الجديد، 21 يناير 2021،  https://cutt.us/GbIWk

 

رابط المصدر:

https://democraticac.de/?p=72659

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M