في خطوة يُتوقع أن تكون لها تأثيرات سياسية واقتصادية مهمة على مستوى العلاقة بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان، وعلاقة الطرفين بتركيا، أصدرت هيئة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية في باريس، في 25 مارس 2023، قرارها الذي طال انتظاره بعدم قانونية سماح تركيا لإقليم كردستان العراق بتصدير نفطه عبر أنبوب النفط العراقي المار في الأراضي التركية باتجاه ميناء جيهان على البحر الأبيض المتوسط.
ويُمثِّل القرار انتصاراً لموقف وزارة النفط الاتحادية والحكومات العراقية المتعاقبة التي اعتبرت تصدير إقليم كردستان النفطَ بشكل مستقل عن الحكومة الاتحادية “غير قانوني”.
نزاعٌ عمره سنوات
تعود هذه القضية إلى العام 2014، حينما رفعت وزارة النفط الاتحادية العراقية شكوى إلى هيئة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية في باريس اعتراضاً على قيام إقليم كردستان بتصدير نفطه دون موافقة الوزارة عبر الأنبوب النفطي العراقي-التركي. في ذلك الوقت، استفادت حكومة الإقليم من ضعف الحكومة الاتحادية في بغداد، ومن شبكة العلاقات والتحالفات السياسية الخارجية التي أقامتها مع الولايات المتحدة والدول الغربية، وتوَّجتها بتطوير علاقاتها مع تركيا، وبعلاقات اقتصادية متقدمة مع شركات نفطية كبرى مثل أكسون موبيل وجيفرون وغاز بروم، لتشيد خط أنابيب يمتد من حقولها النفطية الرئيسية إلى الحدود التركية، وربطت في نوفمبر 2013 هذا الأنبوب بخط الأنابيب العراقي التركي، ثم أخذت في تصدير نفطها عبره بعد الوصول إلى سلسلة اتفاقات منفصلة مع الجانب التركي تسمح لها بالاستفادة من خط الأنابيب دون الرجوع إلى الحكومة الاتحادية.
لكن النزاع بين بغداد وأربيل سبق هذا الإجراء، ويتعلق بتبنّي الجانبين تفسيرين مختلفين للنصوص الدستورية المتعلقة باستخراج النفط والغاز وتصديرهما؛ فبينما تتبنى بغداد الرأي القائل بصلاحية الحكومة الاتحادية لأن تكون طرفاً في إدارة السياسة النفطية والحقول المنتجة في الإقليم، واختصاصها الحصري بالتصدير إلى خارج العراق، تعتقد حكومة الإقليم أنّ الدستور منحها صلاحية استغلال الحقول الموجودة في أراضيها، وتوقيع العقود مع الشركات الأجنبية لتصدير نفطها بشكل مستقل عن بغداد. وفي ظل تباين مواقف الطرفين وعجزهما عن الوصول إلى صيغة توافقية، أخذت حكومة الإقليم في فرض الأمر الواقع من خلال توقيع العقود مع الشركات النفطية الدولية لاستغلال حقولها، ومن ثمّ تشييد بنية تحتية تُسهِّل تصدير هذا النفط عبر تركيا.
وبينما يبدو الخلاف حول الصلاحيات داخل الأراضي العراقية خلافاً دستورياً داخلياً، فإنّ تصدير النفط عبر خط الأنابيب العراقي التركي يتصل بالمعاهدات والاتفاقات التجارية الدولية. وقد جاء احتكام بغداد إلى هيئة التحكيم التجارية الدولية مستنداً إلى أنّ اتفاقية خط الأنابيب العراقي التركي الموقعة عام 1973 وملحقاتها، تمنح وزارة النفط العراقية وحدها صلاحية إعطاء التوجيهات فيما يتعلق بنقل النفط العراقي عبر خط الأنابيب وإلى مواقع التخزين والتحميل والرسو. وبالتالي، جاء اعتراض الحكومة العراقية على تركيا بموجب إخلال الأخيرة بهذه الاتفاقية وسماحها لحكومة إقليم كردستان – ودون موافقة وزارة النفط الاتحادية – بتصدير نفطها عبر خط الأنابيب. وقد طالبت الحكومة العراقية هيئة التحكيم إصدار توجيه لتركيا بالتوقف عن الإخلال بالاتفاقية، وتعويض الجانب العراقي عن الخسائر التي لحقت به جراء هذا الإخلال.
وبعد تأخر وتأجيل دام عدة سنوات، صدر قرار هيئة التحكيم التجارية الدولية الذي أقر وجوب امتثال الحكومة التركية لتعليمات وزارة النفط العراقية فيما يتعلق بحركة النفط الخام المصدّر من العراق إلى جميع مراكز التخزين والتصريف والمحطة النهائية. وبحسب بعض التقارير، فرض القرار على تركيا دفع تعويض للعراق بقيمة 1.4 مليار دولار.
التداعيات المباشرة للقرار
بعد صدور القرار، أعلنت تركيا التزامها بتنفيذه وأوعزت بوقف عمليات تحميل نفط إقليم كردستان بموجب طلب من وزارة النفط الاتحادية العراقية. واتخذت الوزارة قراراً بإيقاف شحن النفط عبر الأنبوب، بما يشمل تجميد تصدير حوالي 450ألف برميل يومياً من إقليم كردستان ومحافظة كركوك. وبحسب بعض التقارير، فإنّ هناك حوالي 1.5 مليون برميل من النفط الخام المصدر من الإقليم جرى تخزينها في الميناء التركي استعداداً لبيعها إلى المشترين الدوليين، وقد أوقف تصديرها بالفعل. كما أعلن العديد من الشركات النفطية الأجنبية العاملة في الإقليم عن توقف تصدير النفط واضطرارها إلى خزن ما ينتج منه في مستودعات محدودة داخل الإقليم، بانتظار حصول اتفاق يسمح بإعادة التصدير مجدداً. وأدّى توقف تصدير نفط الإقليم إلى صعود في أسعار النفط عالمياً خشية تراجُع مستوى التجهيز.
بالطبع، رحَّبت وزارة النفط الاتحادية بهذا القرار لأنه “يُلزِم جميع الأطراف باحترام الاتفاقات والمواثيق الدولية بهذا الشأن، وأن وزارة النفط من خلال شركة تسويق النفط العراقية “سومو” هي الجهة الوحيدة المخولة بإدارة عمليات التصدير عبر ميناء جيهان التركي”. وأشار بيان الوزارة إلى أنّها ستعقد مباحثات مع حكومة الإقليم وتركيا لدراسة آليات التصدير الجديدة، مُعبرة عن رغبتها الوصول إلى اتفاق يسمح بتصدير كامل الكميات الكميات المخصصة، ومن جميع الحقول النفطية، بما فيها تلك الموجودة في كردستان. ومن الواضح أنّ البيان الحكومي العراقي لم تطغ عليه اللهجة المنتصرة والمتعالية، وفتح الباب لإمكانية الوصول إلى حلول تفاوضية تحت سقف الإقرار بحق وزارة النفط في الإشراف على أي صادرات عبر خط الأنابيب العراقي التركي.
في المقابل، اتّسم رد فعل حكومة الإقليم أيضاً بالهدوء، خصوصاً أن مضمون القرار كان قد تسرَّب قبل عدة أشهر ولا يعد مفاجأة لها، فضلاً عن أنّ محتوى القرار والالتزام التركي به لا يترك أمام حكومة الإقليم خيارات سوى السعي للوصول إلى اتفاق مع بغداد. فبحسب البيان الصادر عن وزارة الموارد الطبيعية في الإقليم، فإنّ قرار التحكيم لن يشكل عقبة أمام العلاقات مع بغداد، لكنه أكّد في الوقت نفسه أنّ “حكومة الإقليم لن تتخلى عن الحقوق الدستورية لشعب كردستان، وستواصل علاقاتها مع بغداد حتى الوصول إلى حلّ دستوري وقانوني جذري”. كما أنّ رئيس وزراء حكومة الإقليم، مسرور بارزاني، تبنى أيضاً موقف التهدئة هذا عبر تصريحه بأنّ هناك تفاهمات مع بغداد وضعت الأساس لتجاوز هذا الخلاف، وأنّ هناك وفداً من الإقليم سيزور بغداد لبدء المباحثات بهذا الشأن.
وبالفعل، عقد وفد من الإقليم اجتماعين مع وزير النفط بغرض التداول بشأن الموضوع، لكن الاجتماعين لم يُفضيا إلى اتفاق واضح أو مُحدد. وليس من المرجح أن يحصل مثل هذا الاتفاق بسرعة، وبمداولات تقنية بحت، لأنّ للقضية أبعاداً سياسية أوسع.
حسابات الأطراف بعد القرار
هناك ثلاثة أطراف رئيسة معنية بهذه القضية، وستؤثر حساباتها بمسار الوصول إلى ترتيب بديل، وهي الحكومة العراقية الاتحادية، وحكومة إقليم كردستان، وتركيا.
1. الحكومة الاتحادية
يُقوِّي القرار بلا شك الموقف القانوني والسياسي للحكومة الاتحادية، إذ إنّه حتى مع تركيزه حصراً على مسألة استخدام خط الأنابيب العراقي التركي، يمكن أن تكون له آثار تمتد إلى أبعد من ذلك. ففي النهاية، ينتج إقليم كردستان النفط من أجل تصديره والحصول على عوائده، ولذا فإن امتلاك بغداد القدرة على عرقلة التصدير يعني أنّ بوسعها التأثير على مجمل القطاع النفطي في الإقليم، وطبيعة إدارته، والتعاقدات المرتبطة به، واستخدامات الريع الناتج عنه. وفي نفس الوقت، ستواجه الحكومة العراقية الضغط الناتج عن تأخر التسوية واستمرار تعليق تصدير نفط الإقليم، لأنّ هذا يعني تراجع قدرة العراق على الالتزام بحصته في السوق النفطية بشكل قد يدفع دول منتجة أخرى إلى محاولة التعويض. كما أن الدول المستهلكة ستضغط باتجاه استئناف التصدير خشية حصول مزيدٍ من الارتفاع في الأسعار، وهو موقف عبَّرت عنه وزارة الخارجية الأمريكية بوضوح.
وقد يميل الصقور في بغداد إلى استخدام القرار للتنكيل بحكومة الإقليم وطرح المواقف القصوى، وقد يسعون للضغط باتجاه تعويض نفط الإقليم بزيادة الصادرات من الجنوب. لكن مثل هذه السياسة يُرجَّح أن تتسبب بنتائج سلبية، ليس فقط من ناحية عدم قدرة بغداد تعويض النقص الناتج عن وقف تصدير نفط الإقليم وحسب، بل وأيضاً من ناحية تأجيج الصراع القومي العربي-الكردي، وزعزعة استقرار الائتلاف الحكومي الداعم لحكومة محمد شياع السوداني، والذي يشكل “الحزب الديمقراطي الكردستاني” الحاكم في أربيل أحد أطرافه.
وقد شهدت الأسابيع الأخيرة تحسُّناً في العلاقة بين بغداد وأربيل تُوِّج بالاتفاق على مسودة الموازنة العامة لعام 2023، وعلى ترتيب يسمح للحكومة الاتحادية بنوع من الرقابة على الحساب المصرفي الخاص بحكومة الإقليم، الذي تستقر فيه عائدات النفط المصدَّر. ويمثل هذا الترتيب نوعاً من “التحايل” المتفق عليه على حُكمٍ سابق للمحكمة الاتحادية العليا ببطلان العقود التي وقعتها حكومة الإقليم مع الشركات النفطية الأجنبية. ولذلك، فإنّ السوداني و”الحمائم” في “الاطار التنسيقي” الذي يجمع القوى الشيعية، قد يُفضِّلون عدم التطرف في توظيف هذا القرار، وبدلاً من ذلك، استخدامه لتعزيز موقف الحكومة الاتحادية في المفاوضات الجارية بخصوص تشريع قانون اتحادي للنفط والغاز.
لكن الموازنة هنا قد تكون صعبة، إذ لا يمكن للسوداني وحكومته التخلي عن الفوائد المترتبة عن هذا القرار أو السماح بالعودة إلى الحال السابق دون تنازلات من الإقليم، خصوصاً أنّ هناك أطرافاً مؤثرةً في “الاطار التنسيقي”، وبشكل خاص قيس الخزعلي، زعيم تنظيم “عصائب أهل الحق”، ونوري المالكي، زعيم ائتلاف “دولة القانون”، تُفضِّل الاستفادة من القرار لوضع حد نهائي لـ “تمرد” حكومة الإقليم على بغداد، وربما أيضاً ممارسة المزيد من الضغط على حكومة الإقليم في ملفات أخرى، بعضها قد يتصل بالمصالح الإيرانية ووجود جماعات المعارضة الكردية الإيرانية في الإقليم، وبعضها قد يتصل بملف المناطق المتنازع عليها، وكذلك بملاحقة المطلوبين وبعض المعارضين لحكومة “الاطار التنسيقي” المقيمين في الإقليم.
والمرجح هنا، أنّ السوداني وحكومته سيتبنون موقفاً متوازناً، عبر الاستفادة من القرار لاعادة صياغة العلاقة النفطية بين الطرفين، وبشكل يستفيد أيضاً من قبول حكومة الإقليم بالمعطيات الجديدة وحرصها على عدم خسارة السوداني كحليف.
2. حكومة الإقليم
من الواضح أنّ القرار قد أضعف موقف حكومة إقليم كردستان، خصوصاً في ضوء الالتزام التركي به من جهة، والانقسام الكردي الداخلي من جهة أخرى. فهناك خلافات واسعة بين “الديمقراطي الكردستاني” والحزب الرئيس الثاني في الإقليم المسيطر على محافظة السليمانية، “الاتحاد الوطني الكردستاني”، ولم يعد الأخير يلتزم بذات موقف حكومة الإقليم بخصوص هذا الملف وملفات أخرى، بل أنّ قُباد طالباني، القيادي في “الاتحاد الوطني” ونائب رئيس وزراء حكومة الإقليم، أشار مؤخراً إلى موقف مغاير تماماً بقوله إنّه ليس مهماً مَنْ يتولى التصدير، فالمهم أن تُستخدَم العوائد بشكل جيد.
وإذا أضفنا لذلك الأزمة الاقتصادية العامة في إقليم كردستان، وتخلُّف حكومة الإقليم عن دفع رواتب الموظفين، واتهامات الفساد وسوء إدارة الموارد النفطية، وعدم وجود طرف دولي قادر على أن يرمي بثقله تماماً خلف الإقليم، فإنّ حكومة الإقليم تبدو في أضعف أحوالها منذ عام 2003 ، وفي شكل قد يضطرها إلى قبول ترجمة التوازن الجديد للقوى إلى تنازلات لم تكن مستعدة لها في السابق.
وفي الحقيقة، هناك أطراف في حكومة الإقليم قد تُفضِّل تولي بغداد دوراً أساسياً في إدارة قطاع النفط والغاز في الإقليم إذا ترتَّب على ذلك تحمُّلها لمسؤولية مديونية حكومة الإقليم لبعض شركات النفط، وتأمين موازنة مالية مستقرة للإقليم، وبضمنها ترتيبات ثابتة وقانونية لتصدير نفطه. ففي هذه الحالة، فإنّ الحل من وجهة نظر هذه الأطراف يتمثَّل في الوصول إلى صيغة تتنازل من خلالها حكومة الإقليم عن حق تصدير النفط إلى بغداد، مقابل منافع مالية تتجاوز ما تحصل عليه في حالة استمرار الوضع على حاله.
في المقابل، ثمة أطراف تخشى من الدلالة السياسية لتراجع الإقليم عن بعض ما انتزعه من سلطات في إدارة موارده، من حيث جعل حكومة الإقليم أكثر اعتماداً على بغداد في الحصول على مواردها المالية، وبالتالي أكثر خضوعاً لاشتراطات الحكومة الاتحادية. وبينما يميل نجيرفان بارزاني، رئيس الإقليم، إلى الوصول إلى توافق مع بغداد عبر الدبلوماسية، فإن مسرور بارزاني، رئيس وزراء الإقليم الذي يتعامل مباشرة مع هذا الملف، قد يكون أقل تقبُّلاً لمحاولة تعظيم سلطة بغداد على حكومته، خصوصاً أنّه في العموم يقترب من مواقف الصقور في الإقليم بشأن العلاقة مع بغداد. لكن خلافاً لبغداد، فإنّ أربيل بحاجة إلى الوصول إلى اتفاق سريع يسمح بتصدير النفط قبل أن تتراكم عليها الديون وتتخلى عنها الشركات النفطية الدولية المتعاقدة، وهذه الحاجة بذاتها هي نقطة ضعف أخرى في الموقف الكردي.
على أية حال، فإنّ هامش المناورة المحدود أمام حكومة الإقليم، سيفرض عليها قبول أنّ هناك وضعاً جديداً نشأ بعد قرار التحكيم، وأنّ الأمور لا يمكن أن تعود إلى ما كانت عليه، وبالتالي، فإنّ الوصول إلى ترتيب جديد وأشمل مع بغداد يُعدّ الخيار الأمثل. ويعتمد نجاح الإقليم في تقليل خسارته، بل وربما تحقيق بعض الأرباح المادية من أي ترتيب جديد، على أمرين: الأول، قدرة عائلة بارزاني على توحيد القوى الكردية كافة، بما فيها “الاتحاد الوطني الكردستاني”، خلف منظور كردي موحد، وبما يحُد من قدرة بغداد وأطراف “الاطار التنسيقي” الحاكم على استثمار الخلافات الكردية-الكردية (وهو أمر مشكوك فيه). والثاني، الدور الذي ستؤديه تركيا بهذا الخصوص.
3. تركيا
بعد أيام من إعلان قرار هيئة التحكيم الدولية، صدر بيان عن الخارجية التركية اعتبر أن القضية لا تتعلق بتركيا بقدر ما هي انعكاس للنزاع بين الحكومة الاتحادية العراقية وحكومة إقليم كردستان. وفي مؤشر إلى أنّ تركيا ليست بصدد التصرف كَمَنْ خسر القضية أو أنّ عليها أن تدفع تعويضات، أشار البيان إلى أنّ تركيا أنفقت مليارات الدولارات للحفاظ على خط الأنابيب، وأنّ هيئة التحكيم رفضت أربعة مطالبات من مجموع خمسة قدّمها العراق، بل وحكمت بأن يقوم العراق بتعويض تركيا.
والموقف التركي يبدو محكوماً بعدة اعتبارات، أهمها:
أ. الاعتبار السياسي؛ إذ لا تُفضِّل تركيا الاختيار بين بغداد وأربيل، من منطلق أن لديها مصالح واسعة مع الجانبين، كما أنّها تدرك أنّ التوازنات تغيرت، خصوصاً بعد أزمة استفتاء الاستقلال في كردستان، وبشكل قد يترتب عليه المزيد من الحضور لبغداد بدلاً من إدارة علاقة منفصلة تماماً مع الإقليم.
ب. الاعتبار الأمني؛ فتركيا لا تريد أن تخسر “الديمقراطي الكردستاني” كحليف كردي إقليمي في إطار صراعها مع تنظيم حزب العمال الكردستاني، إذ إنّها من خلال هذا التحالف حصلت على تسهيلات بالانتشار والعمل العسكري، وضمنت انقسام “الجبهة الكردية” الإقليمية، بدل من توحدها ضدها. وفي ذات الوقت، فإنّ تركيا تدرك أنّ محور طهران في بغداد يؤدي دوراً أساسياً في تسهيل نشاط حزب العمال الكردستاني في الأراضي العراقية، وبالتالي الوصول معه إلى تسوية بهذا الشأن يظل أمراً ضرورياً.
ج. الاعتبار الاقتصادي، والذي قد يكون أكثر أهمية في هذه القضية؛ فتركيا قامت بنفسها بتشييد خط الأنبوب في إقليم كردستان، وتمويله، وربطه بخط الأنابيب العراقي التركي، مقابل دفع أثمانه من صادرات نفط الإقليم، وعبر خصومات خاصة لتركيا في أسعار النفط المصدر إليها من الإقليم. وقد حصل ذلك في إطار مسعى أنقرة للتحول إلى عصب أساسي في تجارة الطاقة بين الشرق الأوسط والقوقاز وأوروبا. أي أنّ تركيا، حتى مع تقليلها لشأن النزاع بوصفه داخلي بين بغداد واربيل، أدت دوراً أساسياً في تشكيل سياسات الطاقة الخاصة بالإقليم عبر توفيرها منفذ التصدير الأساسي الذي يضمن تدفق الريع لحكومة كردستان. كما أنّ التقارير تشير إلى أن تركيا منحت رخصة لتشييد منظومة مستودعات جديدة في ميناء جيهان، وخط أنابيب يمتد من الإقليم ويوازي خط الأنابيب العراقي التركي ليصل إلى ميناء جيهان، أي بعبارة أخرى، بنية تحتية موازية تسمح لها وللإقليم بتجنُّب استخدام خط الأنابيب العراقي التركي، وبالتالي السلطة الحصرية لوزارة النفط الاتحادية عليه. لكن المشكلة هنا أنّ تشييد هذه البنية التحتية سيستغرق أكثر من عام واحد، وسيترتب عليه إنفاقات مالية كبيرة قد يصعب تأمينها في ظل الضبابية التي تسم الوضع الاقتصادي في تركيا، وتغير الأولويات المالية بعد الزلزال الذي ضربها، وكذلك وضع إقليم كردستان وسياسته النفطية وعلاقته ببغداد.
لكل هذه الاعتبارات، قد تجد تركيا أنّ من الأفضل التشجيع على الوصول لترتيب جديد بين بغداد وأربيل يسمح باستئناف تصدير النفط من الإقليم، ويمنح بغداد بعض الامتيازات في الاشراف والرقابة.
السيناريوهات المتوقعة
يُمكِن توقع ثلاثة سيناريوهات لمسار هذه القضية في المدى المنظور.
الأول، أن يتم التوصل إلى ترتيب سريع باستثمار الجو الودي الراهن بين بغداد وأربيل، وبسبب حاجة الطرفين إلى استئناف تصدير النفط، وفي شكل يمنح بغداد شيئاً من سلطة الإشراف على صادرات النفط من إقليم كردستان، مع اتفاق مبدأي على التسويات المالية، تُرحَّل تفاصيله إلى النقاشات بشأن مشاريع أخرى مثل قانون الموازنة وقانون النفط والغاز الاتحادي، وهو سيناريو مرجح.
الثاني، أن يتم التوصل للترتيب المذكور في السيناريو الأول، لكن، على المدى الأبعد، قد يفشل الطرفان لاحقاً بالاتفاق على التسويات المالية المتعلقة به (بما في ذلك الديون المترتبة لشركات النفط)، ويعجزان عن التوصل لصيغة توافقية لقانون النفط والغاز، وينهار اتفاقهما بشأن الموازنة، ما يُبقي هذا النزاع قائماً دون حل نهائي، وهو سيناريو محتمل.
الثالث، أن يُتعذَّر التوصل إلى اتفاق مع استمرار انقطاع صادرات نفط الإقليم، بما يقود إلى تصعيد بين الجانبين، وربما لجوء أربيل وأنقرة إلى حلول بديلة، من قبيل تفعيل البنية التحتية الموازية لخط الأنابيب العراقي التركي، أو شراء تركيا لمعظم الإنتاج النفطي للإقليم بأسعار مخفضة، لكن هذا السيناريو يبدو في ظل الاتجاهات الراهنة أقل ترجيحاً.
الاستنتاجات
بينما تشعر الحكومة الاتحادية في بغداد بالارتياح من قرار هيئة التحكيم الدولية لجهة إقراره حق وزارة النفط بالإشراف على تدفُّق النفط عبر خط الأنابيب العراقي التركي، فإنّ أهمية القرار الأساسية تكمُن في أنه يمنح فرصة لبغداد واربيل لإعادة ترتيب علاقتهما النفطية، ومثل هذه الفرصة لابد أن تستند على التوافق والربح المتبادل. المصلحة الأساسية للطرفين هي في الوصول إلى ترتيب سريع يسمح بإعادة تدفق نفط الإقليم وكركوك إلى المتوسط، ومن ثمّ التفاوض لاحقاً للوصول إلى صيغ أشمل من العلاقة بين الجانبين فيما يتعلق بإدارة قطاع الطاقة. وحيث إنّ العراق وكردستان يعتمدان بشكل شبه مطلق على تصدير النفط، فإنّ أي اتفاق مستقبلي بينهما سيكون له بعد سياسي مهم من حيث توازنات القوة بين الطرفين، وقد يشكل هذا البعد السياسي عائقاً أمام الوصول لاتفاق مستدام، لأنه يتعلق بقضايا أكبر تشمل مجمل العلاقة بين بغداد وأربيل.
.
رابط المصدر: