فتح قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الاعتراف باستقلال منطقتي لوهانسك ودونيتسك الواقعتين في إقليم دونباس بجنوب شرق أوكرانيا الطريق أمام دخول القوات الروسية للإقليمين الموالين لروسيا لحمايتهما، ونسف جهود السلام ودفن اتفاقية مينسك. وفاقم القرار من مخاطر الحرب، وأوصد جهود الوساطة، لتكتمل بذلك صورة لواحدة من أسوأ الأزمات تعقيدًا في أوروبا منذ الحرب الباردة.
بينما يراقب العالم ما يحدث في أوكرانيا، احتل بوتين بيلاروسيا بهدوء لتغيير التوازن الأمني في أوروبا الشرقية لصالح موسكو، ويصبح ذلك أحد أكثر التحولات الدراماتيكية في الحسابات الأمنية منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، وربما منذ نهاية الحرب الباردة. فبحكم الجغرافيا برزت بيلاروسيا كإحدى الجبهات الفاعلة، وعنصر تصعيد خطير في الأزمة الحالية، فهي حليف وثيق لروسيا، وتشترك في حدود جنوبية طويلة مع أوكرانيا. ويرتبط رئيس بيلاروسيا، ألكسندر لوكاشينكو، بعلاقات تحالف قوية مع الرئيس بوتين.
شهدت العلاقات بين بيلاروسيا وأوكرانيا بعض الدفء عقب الثورة الأوكرانية في عام 2014 (المعروفة باسم ثورة الميدان الأوروبي). ففي أعقاب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم والتدخل المسلح في منطقة دونباس شرق أوكرانيا في عام 2014، أكد لوكاشينكو أنه يرفض فكرة بوتين بأن تكون بيلاروسيا جزءًا مما يسمى بـ”العالم الروسي”، وأنه لن يسمح باستخدام الأراضي البيلاروسية لمهاجمة طرف ثالث، وحافظ على علاقات جيدة مع القيادة الموالية للغرب في أوكرانيا.
وقاوم لوكاشينكو لسنوات جهود الكرملين لبناء قاعدة جوية روسية جديدة في بيلاروسيا. وخلال التدخلات الروسية في جورجيا في عام 2008 وأوكرانيا في عام 2014، سعى لوكاشينكو إلى استغلال الأزمات كلحظات من الفرص لتحقيق نجاحات مع الغرب.
ونتيجة لعلاقته الودية مع روسيا وأوكرانيا، استضاف لوكاشينكو مفاوضات بشأن اتفاقيات مينسك الأولى والثانية لوقف إطلاق النار فيما يتعلق بشرق أوكرانيا، واقترح أن يعمل مطار مينسك كحلقة وصل جوية غير رسمية بين البلدين بعد تعليق الرحلات الجوية المباشرة بين روسيا وأوكرانيا. وكان لوكاشينكو على استعداد دائم لإرسال بلاده قوة لحفظ السلام إلى منطقة النزاع في دونباس، ونشرها على طول الحدود الأوكرانية الروسية، وعقد جولة ثانية من محادثات السلام مع منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
وحتى وقت ليس ببعيد، كان الدعم المباشر، والمشاركة في المغامرات العسكرية للكرملين، من المحرمات بالنسبة للوكاشينكو، وحاولت الدبلوماسية البيلاروسية أن تنأى بنفسها، قدر الإمكان، عن المواجهة الروسية مع الغرب وأوكرانيا، مما عزز صورة البلاد كضامن للاستقرار والأمن في المنطقة. وأثناء تدريبات زاباد -2017 العسكرية المشتركة مع روسيا، انحنى لوكاشينكو إلى الوراء لطمأنة جيران بيلاروسيا الأوروبيين بأن التدريبات لن تستخدم كذريعة للعدوان.
ولكن القمع السياسي الهائل الذي وقع في بيلاروسيا بعد انتخابات عام 2020 التي رفضتها المعارضة لأنها كانت مزورة، ومثلت أكبر تهديد لحكم لوكاشينكو منذ أن أصبح رئيسًا للجمهورية السوفيتية السابقة فى عام 1994؛ جعل مفهوم السياسة الخارجية للوكاشينكو هو البحث عن المصلحة والدعم من الحليف الروسي، بعد أن اتضح أن تحركه لبناء الشمولية في الداخل يتعارض مع مبادئ الغرب وحقوق الإنسان.
وأدى ذلك إلى زيادة اعتماده على روسيا، التي يشكل دعمها مفتاح مستقبل النظام البيلاروسي. ولجأ لوكاشينكو إلى الكرملين من أجل شريان الحياة السياسي، وقاد حملة سياسية وحشية في الداخل، أوقفت التحركات المناهضة لسلطته لكنها جعلته يعتمد بشدة على الرئيس فلاديمير بوتين.
وردًا على الأزمة السياسية المحتدمة في بيلاروسيا عقب الانتخابات، وقّع لوكاشينكو حزمة من اتفاقيات التكامل الرمزية مع موسكو، وعلّق عضوية بيلاروسيا في الشراكة الشرقية، وأعاد توجيه بعض تدفقات الصادرات عبر الموانئ الروسية. وسعى إلى إظهار ولائه لبوتين من خلال التهديد بنشر أسلحة نووية روسية في بيلاروسيا، ووعد بالقتال ضد أوكرانيا والموافقة على مناورات عسكرية مشتركة مع روسيا. ووفقًا لبيانات الاستخبارات الأوكرانية، ظهر أول تهديد حقيقي بالهجوم الروسي من بيلاروسيا في خريف عام 2021.
وفي نوفمبر الماضي، وقعت روسيا وبيلاروسيا مرسوم اندماج البلدين في دولة اتحادية واحدة. وصادق بوتين ولوكاشينكو على وثيقة التكامل و28 برنامجًا تحالفيًا بين روسيا وبيلاروسيا. ويتبنى اتحاد روسيا وبيلاروسيا سياسات خارجية وأمنية ودفاعية، وله ميزانية مشتركة، وسياسة مالية ائتمانية وضريبية موحدة، وتعريفة جمركية موحدة، ومنظومتا طاقة واتصالات ومواصلات موحدة.
وتحتفظ كل من بيلاروسيا وروسيا ضمن الاتحاد بسيادتها ووحدة أراضيها وأجهزة دولتها ودستورها وعلمها وشعارها. ويذكر أن اتفاقية اتحاد روسيا وبيلاروسيا تعود إلى ديسمبر 1999، ودخلت حيز التنفيذ في الـ26 من يناير 2000 بعد إقرار برلماني البلدين لها وتوقيع الرئيسين بوتين ولكاشينكو عليها.
وقد اعترف لوكاشينكو بضم موسكو لشبه جزيرة القرم، وأوضح أنه سيدعم روسيا في حربها مع أوكرانيا، وعرض استضافة أسلحة نووية روسية، وأذعن للمناورات العسكرية المنتظمة وتناوب القوات التي ترقى إلى وجود عسكري روسي دائم في بيلاروسيا. ووافق كذلك على استضافة مركز تدريب عسكرى مشترك فى هورودنا بالقرب من الحدود البيلاروسية مع بولندا وليتوانيا يعمل فعليًا كقاعدة عسكرية روسية.
أين تقف بيلاروسيا من المواجهة الغربية الروسية؟
في اجتماع مع قادة الجيش في 17 يناير الماضي، أعلن لوكاشينكو نيته إجراء مناورات عسكرية مشتركة بين الجيشين الروسي والبيلاروسي على الحدود الغربية والجنوبية لبيلاروسيا. وأعلنت وزارة الدفاع الروسية أن “الهدف من المناورات هو تحديد مهام قمع وصد العدوان الخارجي أثناء القيام بعملية دفاعية ومكافحة الإرهاب وحماية مصالح دولة الاتحاد”.
لم تحاول القيادة البيلاروسية إخفاء حقيقة أن هذه المناورات جزء من الأزمة العسكرية والسياسية الحالية في أوكرانيا. ففي 6 ديسمبر الماضي، ومع تزايد قوة التصعيد، قال لوكاشينكو إن خطط الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بضم أوكرانيا إلى حلف الناتو أمر “غير مقبول ليس فقط بالنسبة لروسيا، ولكن أيضًا بالنسبة لنا”. منذ ذلك الحين، ركز خطاب مينسك على أوكرانيا، والوعد بنشر “وحدة كاملة من الجيش البيلاروسي” على الحدود الجنوبية للبلاد.
وأكد لوكاشينكو أنه لم يكن أول من بدأ الاهتمام بالحدود الجنوبية، فقد بدأ الأوكرانيون في حشد القوات، ووصلت في نوفمبر الماضي وحدات عسكرية أجنبية على الحدود البيلاروسية البولندية، وطائرات استطلاع أمريكية على بعد 20-35 كم من حدود بيلاروسيا. وفي حال أي هجوم على روسيا، ستقطع بيلاروسيا كافة إمدادات الوقود والكهرباء عن جيرانهما الغربيين، مرجحًا أن هذه الخطوة ستؤدي إلى استنزاف احتياطيات الوقود في أوكرانيا في غضون يوم.
وخلال الخطاب الذي ألقاه لوكاشينكو في 28 يناير إلى الشعب والبرلمان البيلاروسيين ذكر كلمة “حرب” 36 مرة. وأوضح أن بيلاروسيا لن تخوض حربًا إلا في حالتين إذا تعرضت روسيا البيضاء أو روسيا للهجوم، مبررًا خطوته هذه بأن الدول الغربية أنفقت أكثر من 6 مليارات دولار لتدمير بيلاروسيا، خلال الانتخابات الرئاسية في عام 2020.
وبدأ البلدان تدريبات عسكرية مشتركة في غرب وجنوب بيلاروسيا أُطلق عليها اسم “حلفاء العزم 2022″، في 9 مواقع على الأقل في جميع أنحاء البلاد بدأت من 10 إلى 16 فبراير. وشهد بوتين تدريبات استراتيجية نووية تشمل إطلاق صواريخ باليستية أسرع من الصوت وأسلحة أخرى، وأشرف على التدريبات من “مركز العمليات” في الكرملين وإلى جواره لوكاشينكو.
وعلى الرغم من إجراء روسيا وبيلاروسيا تدريبات عسكرية مشتركة بشكل منتظم سنويًا وعشرات التدريبات العملياتية والقتالية المشتركة، لكن مناورات “حلفاء العزم” اختلفت اختلافًا جوهريًا عن المناورات السابقة في عدد من الأمور أبرزها:
- مناورات لم يُعد لها سلفًا: أجريت هذه المناورات خارج الجدول الزمني المعتاد لها، وجاء ترتيبها كجزء من التصعيد بشأن أوكرانيا. وقد عززت هذه الخطوة السيناريوهات الغربية المطروحة من غزو روسي لأوكرانيا في غضون أسبوع. وجاءت المناورات كذلك بعد إعلان وزارة الدفاع الأوكرانية عن مناوراتها العسكرية في الفترة من 10 إلى 20 فبراير. ومن خلال هذه المناورات دشنت روسيا المرحلة العملية من تدريباتها واسعة النطاق في بيلاروسيا، في استعراض للقوة يظهر كيف أن إحكام روسيا لقبضتها على مينسك أعطاها قدرات كبيرة في مواجهتها مع الغرب.
- مناورات أقل شفافية: لا يزال من غير المعروف عدد الجنود الروس والمعدات التي تم نقلها إلى بيلاروسيا. وامتنعت مينسك وموسكو عمدًا عن الإعلان عن أرقام محددة. وأشارت التقديرات أن عدد المشاركين في التدريبات تجاوز الحدود التي حددتها وثيقة فيينا لعام 2011، وهي اتفاقية لتبادل المعلومات حول القوات العسكرية في الدول الأعضاء في منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. وقد ذكرت البحرية الروسية أن طائرات برمائية من طراز Be-12 وطائرات هليكوبتر من طراز Ka-27PL شاركت في التدريبات، وأجرى أطقمها، بالتعاون مع سفن صغيرة مضادة للغواصات، بحثا مشتركًا عن غواصة مفترضة باستخدام عوامات السونار وأجهزة السونار الأخرى.
- انتشار واسع للمناورات: نشرت روسيا قواتها ليس فقط بالقرب من الحدود مع أوكرانيا ولكن أيضًا في مناطق أخرى من بيلاروسيا بعيدة عن المناطق التى من المقرر أن تجري فيها المناورات. وقد أحضرت القوات الروسية كمية غير مسبوقة من المعدات العسكرية إلى بيلاروسيا. وأجريت المناورات العسكرية في جميع أنحاء بيلاروسيا، بما في ذلك ساحات تدريب دومانوفسكي، وجوزسكي، وأوبوز ليسنوفسكي، وبريستسكي، وأوسيبوفيتشكي. وشاركت أيضًا مطارات بارانوفيتشي ولونينيتس وليدا وماشوليشي، وشاركت قوات العمليات الخاصة “سبيتسناز” وطائرات مقاتلة من طراز Su-35S، فضلًا عن أنظمة صواريخ بانسير وإسكندر وS-400. وشاركت أيضًا أكثر من 30 قطعة حربية من بينها مدمرات صاروخية وفرقاطات وبوارج مضادة للغواصات، وسفن إنزال وغواصات ومنظومات دفاع صاروخية شاطئية وسلاح الطيران.
- تكامل الجيشين الروسي والبيلاروسي: كانت مناورات الحلفاء مرحلة مهمة لموسكو في علاقتها مع بيلاروسيا، فقد وصل التكامل العسكري للبلدين الآن إلى مستوى أصبحت فيه الأراضي البيلاروسية والجيش البيلاروسي عنصرًا كاملًا في الجيش الروسي. وأصبحت الأراضي البيلاروسية نقطة انطلاق للجيش الروسي؛ ليس للهجوم على أوكرانيا فقط، ولكن أصبحت مصدرًا للتهديدات العسكرية لجميع جيرانها الغربيين.
لقد عملت روسيا ببطء وثبات لزيادة وجودها العسكري في بيلاروسيا من خلال تنظيم مناورات مشتركة مفتوحة وإنشاء مرافق تدريب جديدة. واستغل بوتين عزلة لوكاشينكو الدولية واعتماده المطلق على موسكو لتوسيع البصمة الاقتصادية والسياسية والعسكرية لروسيا بسرعة في بيلاروسيا. وأدت المناورات العسكرية المتكررة والتبادل المستمر للقوات إلى وجود دائم فعلي للقوات الروسية في بيلاروسيا، مع وجود خطط لبناء قواعد روسية دائمة.
وسعت موسكو إلى خلق وجود عسكري دائم لها لزيادة الضغط على دول البلطيق وبولندا وأوكرانيا/ خاصة أن دول حلف الناتو تشعر بالقلق من خطر ما يسمى بممر سواكي، وهو شريط ضيق على حدود بولندا وليتوانيا، ويقع بين بيلاروسيا ومنطقة كالينينجراد في روسيا. وتتمركز القوات الروسية الآن على جانب واحد فقط منه في منطقة كالينينجراد، وفي الجانب الثاني تتمركز القوات البيلاروسية. وأقام الجيش الروسي أربع قواعد جوية وقاعدة واحدة لصواريخ أرض جو وحوالي 30 موقعًا للتخزين؛ بهدف استضافة تعزيزات إضافية فى حالة نشوب صراع.
ختامًا، لقد خلق الواقع الجديد تداعيات كبيرة على الصراع العسكري بين روسيا وأوكرانيا. وباتت الحسابات الأمنية في أوروبا الشرقية أكثر إثارة للقلق مما كانت عليه قبل 18 شهرًا فقط. وهو ما يشكل تهديدًا لكل جيران بيلاروسيا بما في ذلك أعضاء الناتو لاتفيا وليتوانيا وبولندا بالإضافة إلى أوكرانيا. وتم تسليط الضوء على المعادلة الأمنية المتغيرة من خلال سياسة حافة الهاوية الحالية لروسيا على الحدود الأوكرانية، مما يمنح موسكو القدرة على تطويق ومهاجمة أوكرانيا من الشمال والشرق والجنوب.
.
رابط المصدر: