خالد عكاشة
عاد الشمال السورى مرة أخرى ليحتل صدارة الأحداث، بنفس مفرداته التى اعتاد عليها منذ عام 2012 وحتى الآن، المتغير الوحيد أن الشمال الآن يخلو من تنظيم الدولة، أو بالأحرى من سيطرته على محافظات شرق الفرات. لكن مفردات اشتباك وتعقد الأحداث بين الأطراف الفاعلة مازالت حاضرة، واستعادت زخمها منذ أن بدأت اتصالات الجانب التركى مع النظام السورى تأخذ شكلا متقدما، بينما تلقى روسيا بثقلها من أجل تفكيك إشكاليات تلك العلاقة، أو على الأقل حلحلة انسداد المسارات بينهما. المتغير التركى السورى مسرحه الشمال الشرقى والشريط الحدودى بين البلدين، وبلدات التركز الكردى، ومناطق سيطرة وارتكاز الجماعات والكيانات المسلحة الموالية لتركيا، جميع تلك المربعات بها من التعقيدات ما يصعب تصور الوصول فيها لتوافقات سريعة، حتى مع الحضور الروسى الضاغط والميسر بين الطرفين.
لذلك يتفاعل هذا المشهد على نار هادئة، رغم توافر الإرادة التركية ارتباطا ببعض التزاماتها الأخرى، أبرزها انتخابات الرئاسة التى تضع أمام الرئيس أردوغان ملفات معلقة، تتطلب منه البت سريعا فى مصيرها. تبدأ من اللاجئين السوريين داخل تركيا ولا تنتهى عند الكيان السياسى للمعارضة السورية، التى ظلت تركيا تحضر وتتحدث بلسانهم لسنوات فى «جنيف، وآستانا، وسوتشى». الالتزام المستجد حديثا هو دور الوساطة التركية بين روسيا وأوكرانيا ومن ورائها المعسكر الغربى، يتلهف أردوغان للقبض على مقاليد هذه الوساطة بعد أن أدار بنجاح عملية خروج السلع الاستراتيجية من أوكرانيا إلى الأسواق العالمية. ووفق الآلية المعتمدة فى التوافقات بين روسيا وتركيا التى كشفتها قضايا عدة عملا عليها جنبا إلى جنب طوال العقد الماضى فى سوريا وليبيا ودول الساحل الإفريقى يتصور أن الرئيس بوتين يقرأ الحرص التركى على مقعد الوساطة فى حرب أوكرانيا، ويعلم قيمة المكاسب التى سيجنيها الرئيس أردوغان من وجوده تحت تلك الأضواء تحديدا، لهذا سيضع لافساحه هذا المجال ثمنا يقبضه تنسيقا وترتيبا للساحة السورية بما يتوافق والمصالح الروسية المتشابكة هناك. مما يؤشر أنه رغم تعقيدات المشهد وقضاياه الدقيقة المتداخلة بين السلاح والأيديولوجيا والعرقيات، ومع ما يحمله من موروث الكراهية الذى تنامى بين فرقاء عدة جراء الدمار والتشريد والانتهاك، فإن قيادات وشخصيات مثل الرؤساء الروسى والتركى والسورى أيضا، قد يكتب لهم النجاح أو بالحد الأدنى يمكنهم صناعة فارق، واختراق مستجد مؤثر فى جدار تلك المعضلات الأزلية.
الحقيقة أن المعادلة الثلاثية السابقة ليست وحدها الحاضرة فى ساحة الشمال السورى، فهناك ثلاثى آخر يملك من التداخل ما يجعله صاحب تأثير قوى، ولديه معادلة تخصه وتخص الشمال الغربى والشريط الحدودى مع العراق، الولايات المتحدة وإيران والقوات الكردية «قسد»، ثلاثتهم ساهموا أيضا فى إعادة الأنظار إلى الشمال.التسخين الذى جرى مؤخرا فى «دير الزور» بين القوات الأمريكية والميليشيات المسلحة الموالية لإيران، تمثل فى الضربة الجوية التى استهدفت البنية التحتية للواء «فاطميون»، وخلف تدمير لعدة مخابئ ومخازن أسلحة تعتمد عليها تلك الميليشيا وغيرها المرتبطة عضويا بـ«الحرس الثورى». يلتزم الرئيس الأمريكى بإخطار الكونجرس فى غضون 48 ساعة بعد اتخاذ أى إجراء عسكرى بموجب قرار سلطات الحرب، وعليه أوضح بايدن فى رسالته إلى الكونجرس أسباب توجيه الضربات، بأنه وجه تلك الضربات من أجل حماية والدفاع عن سلامة أفرادنا، وإضعاف وتعطيل سلسلة الهجمات المستمرة ضد الولايات المتحدة وشركائنا، وردع إيران والميليشيات المدعومة منها من شن أو دعم مزيد من الهجمات، على أفراد ومنشآت الولايات المتحدة.
التوقيت دون شك أثار الانتباه؛ مع ارتباطه بالجولة التفاوضية الأخيرة للاتفاق النووى بين الولايات المتحدة وإيران. فيما ذهب الخطاب الرئاسى الأمريكى، ليضع الضربة فى سياق الرد على استهداف سابق من الميليشيات الإيرانية قواعد أمريكية موجودة بالقرب من هذه المنطقة، وهو ما أكده الجنرال «إريك كوريلا» قائد القيادة المركزية الأمريكية، حين ذكر تحديدا أن ضربة شرق سوريا كانت ردا على هجمات الميليشيات المدعومة من إيران، التى وقعت ضد القوات الأمريكية فى سوريا 15 أغسطس، وأن الجيش الأمريكى راقب ما مجموعه (13 مخبأ) موجودا فى مجمع تستخدمه الميليشيات، استغرقت ما يقارب 400 ساعة من التصوير الجوى أعقبه التحليل الاستخباراتى الذى أكد المعلومات التى لدى القيادة. هذا الملف عرض فى وقت مبكر من الاسبوع الذى سبق تنفيذ الضربة، خلال اجتماع للأمن القومى فى المكتب البيضاوى عندما كان بايدن فى واشنطن للتوقيع على قانون خفض التضخم فى 16 أغسطس. وزير الدفاع «لويد أوستن» ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال «مارك ميلى» عرضا الأمر وخياراته على الرئيس، فأمر بايدن بشن الضربات الجوية وفق التزام الرئيس بحماية الأفراد الأمريكيين، ومواجهة أنشطة إيران التى تعرض الشعب الأمريكى أو الأصدقاء بالمنطقة للخطر وهو التزام ثابت.
الضربة الأمريكية تسببت فى مقتل نحو 6 عناصر من الميليشيات الإيرانية فى سوريا،بينما كان الواضح أن الهدف الرئيسى هو تدمير منصات صواريخ تابعة لها جرى استخدامها فى قصف قاعدة أمريكية، تسببت فى إصابة جندى أمريكى. لاحقا للضربة الأمريكية وقعت انفجارات قرب القاعدة الأمريكية فى «حقل العمر» النفطى بدير الزور، دون الإفصاح عما إذا كانت نجحت فى صياغة رد عسكرى إيرانى ضد القوة الأمريكية من عدمه. فى كل الأحوال يبدو هذا السجال الصاروخى والضربات الجوية المتبادلة بين الطرفين، بمثابة فتح لملف شائك يخص تهديدات الألوية المسلحة الموجودة بالشمال وموالاتها لإيران وللنظام السورى افتراضا، فهل هناك ما يمكن اعتباره معادلة أمنية وقواعد اشتباك جديدة ترغب القوة الأمريكية الموجودة فى سوريا، من اعتمادها مستقبلا فى مواجهة بنية وأذرع القوة الإيرانية. لاعتبارات انتخابية أيضا انحاز الرئيس الأمريكى هذه المرة سريعا، لخيار الرد العسكرى الخاطف، كما حرص البيان العسكرى على الإشارة أن العملية نفذت بتوجيه مباشر من الرئيس بايدن، لكن يظل احتمال الحسم النهائى والإمساك بترتيب مستقر للأوضاع، بعيد المنال لم ينضج بعد انتظارا للجانب الآخر من المعادلة على الأقل.
نقلا عن جريدة الاهرام بتاريخ 27 أغسطس 2022
.
رابط المصدر: