فاجأ رئيس مجلس النواب الأمريكي كيفين مكارثي -المنتمي إلى الحزب الجمهوري- الجميع يوم 12 سبتمبر 2023 بإعلان فتح تحقيق لعزل الرئيس جو بايدن، ويأتي هذا بعد 9 أشهر من التحقيق المتواصل من قبل الجمهوريين داخل مجلس النواب في مخالفات يزعمون أن “بايدن” ارتكبها. ويحقق الجمهوريون في المعاملات التجارية لنجل الرئيس الأمريكي “هانتر”، وتورط الرئيس في تلك التعاملات، مع مزاعم بوجود مخطط رشوة يتعلق “ببايدن” عندما كان نائبًا للرئيس الأسبق باراك أوباما. مما يزيد من تعقيد الوضع قبل الانتخابات الرئاسية المقرر عقدها في نوفمبر 2024، في ظل العديد من التوترات سواء الداخلية أو الخارجية.
أبعاد مختلفة
زعم الجمهوريون أن هناك تدخلًا سياسيًا من وزارة العدل في قضية هانتر بايدن الجنائية المستمرة، وهو ما لم يتمكن الجمهوريون من إثباته بحسب تأكيدات الديمقراطيين والبيت الأبيض. وتتعلق تهمة الرشوة التي ظهرت في عام 2019، بالادعاء أن “بايدن” ضغط على أوكرانيا لإقالة كبير المدعين العامين، من أجل وقف التحقيق بشأن شركة النفط والغاز الأوكرانية “بوريسما” التي كان “هانتر” يشغل منصب عضو مجلس إدارتها. وفي الخطاب الذي ألقاه “مكارثي”، 12 سبتمبر، أشار إلى أن هناك “مزاعم بإساءة استخدام السلطة والعرقلة والفساد والمخالفات المالية تستدعي مزيدًا من التحقيق من قبل مجلس النواب”، معلنًا أنه سيكلف 3 لجان: “الرقابة، والقضاء، والطرق والوسائل” بإجراء التحقيق مع الرئيس وعائلته.
ولا ينفصل إعلان “مكارثي” بدء التحقيق لعزل “بايدن” عن الاتفاق الذي استرضى به الكتلة الأكثر يمينية من أعضاء الحزب الجمهوري التي كانت ترفض انتخابه رئيسًا للمجلس. فارتبط هذا الاتفاق برغبة اليمينيين في تقييد الحكومة الفيدرالية بشكل كبير، والرغبة في إنفاق حكومي أقل، ومعالجة سقف الديون، وملاحقة الرئيس “بايدن” بقوة.
ويرى الديمقراطيون أن “مكارثي” يحاول استرضاء اليمينيين الذين هددوا بإقالته إذا فشل في الاستجابة لمطالبهم بتخفيضات كبيرة في الإنفاق من شأنها أن تجبر الحكومة على الإغلاق في نهاية شهر سبتمبر الجاري مع انتهاء السنة المالية، وأنه يحاول التوفيق بين تحقيق المساءلة وتخطي التهديد بإغلاق الحكومة.
يشار إلى أن الكونجرس عاد إلى جلساته عقب عطلة أغسطس الماضي، وسيكون مشروع قانون الإنفاق الحكومي الضخم على رأس جدول الأعمال، بينما يستعد الجمهوريون للتهديد بـ”إغلاق الحكومة”، إذا لم يتم تضمين مطالبهم في خفض الإنفاق. ومصطلح “الإغلاق الحكومي” لا يعني توقف عمل كافة المؤسسات الفيدرالية التي تُمول من قبل الحكومة، ولكنه يقتصر على المؤسسات الحكومية غير الضرورية، وهذا يعني أن العاملين في تلك المؤسسات سيتوقفون عن أداء مهامهم إلى حين توصل الكونجرس إلى خطة التمويل.
ويرى الديمقراطيون أيضًا أن القيادة الجمهورية للكونجرس تحاول إبقاء قاعدتها اليمينية “سعيدة” من خلال تلك الإجراءات، وأنهم يريدون إضعاف الرئيس الأمريكي قبل محاولة إعادة انتخابه، وهو ما يمكن أن ينجحوا فيه، لكن إذا فشلوا في إثبات التهم من الممكن أن يُنظر إليهم على أنهم متجاوزون، مما قد يساعد “بايدن” كثيرًا في الانتخابات.
وعلى الرغم من تعهد “مكارثي” في وقت سابق بعدم إطلاق تحقيقات عزل “بايدن” دون تصويت فإنه خالف ذلك التعهد، في تصور واضح يشير إلى أنه لم يكن ليحصل على دعم كافٍ من أغلبيته الضئيلة في الحزب الجمهوري، والتي تصل إلى 222 مقعدًا، مقابل 212 للديمقراطيين. ذلك في الوقت الذي شكك فيه بعض الجمهوريين المعتدلين في إمكانية إجراء التحقيق بهدف عزل “بايدن”، ومن بينهم النائب المحافظ، كين باك، عضو اللجنة القضائية، ويؤكد بعض الجمهوريين أن التحقيق يعني فقط اتهام الرئيس بانتهاكات.
ويعد التحقيق في مخالفات محتملة صادرة من قبل أي مسؤول فيدرالي إجراءً قويًا وسلطة قوية من سلطات مجلس النواب، وبينما يمتلك مجلس النواب سلطة التحقيق مع أي مسؤول فإن مجلس الشيوخ فقط لديه القدرة والسلطة على إدانته أو عزله من منصبه، ومن ثم سيتعين على مجلس النواب التصويت على عزل “بايدن”، ومن ثم سيقرر مجلس الشيوخ ما إذا كان سيتم عزل الرئيس بالفعل من منصبه، الأمر الذي سيتطلب تصويتًا بأغلبية أعضاء مجلس الشيوخ.
أسباب اتخاذ هذه الخطوة
من المرجح أن إعلان “مكارثي” جاء استسلامًا للضغط الذي يمارسه الجمهوريون من “كتلة الحرية”، وهي مجموعة مقربة من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تشكل أقصى اليمين داخل الكتلة الجمهورية في مجلس النواب، من أجل عزل “بايدن” قبيل انتخابات الرئاسة 2024. ويُرجح أن يكون “مكارثي” اضطُر إلى اتخاذ هذا الإجراء لأن منصبه مهدد من “كتلة الحرية” التي لم تمنحه رئاسة المجلس إلّا بعد 14 جولة اقتراع فاشلة، وتقديم تنازلات من جانبه، في أكبر خلل وظيفي في الكونجرس منذ 160 عامًا.
وفي أواخر أغسطس الماضي، كتب “ترامب” عبر منصة “تروث”، في إشارة إلى الجمهوريين في الكونجرس: “إما عزل المتسكع (بايدن)، أو يتلاشى في غياهب النسيان.. لقد فعلوا ذلك بنا”. بدورها، قالت النائبة الجمهورية اليمينية عن ولاية جورجيا مارجوري تايلور جرين والمقربة أيضًا من “ترامب” في الشهر نفسه إنها لن تصوت على مشاريع قوانين الميزانية الضرورية ما لم تبدأ إجراءات عزل “بايدن”.
وفي يوليو الماضي، اقترح “ترامب” على الجمهوريين عزل الرئيس بإلحاح كبير. وحين استُدعي بتهمة الاحتفاظ بشكل غير صحيح بوثائق سرية تتعلق بالأمن القومي وعرقلة المحققين، أعلن الرئيس السابق، أنه إذا أعيد انتخابه فسيعين مدعيًا خاصًا “لملاحقة” “بايدن” وعائلته. مما يؤكد على ضغط “ترامب” ومؤيديه لاتخاذ هذه الخطوة.
من المرجح كذلك أن طريقة الجمهوريين في ملاحقة “بايدن” مع انطلاق حملة 2024 تعد انتقامًا جزئيًا من لوائح الاتهام المتعددة الموجهة إلى “ترامب”، أو محاولة لإضعاف الدعم لحملة “بايدن” الانتخابية؛ من خلال التأثير على الناخبين المستقلين غير المنتمين لحزب معين في انتخابات عام 2024، ولكن في حال لم يتم الكشف عن معلومات جديدة، فمن غير المرجح أن يكون لها تأثير كبير.
أيضًا هناك احتمالية أنهم يحاولون صرف الانتباه عن لوائح اتهام “ترامب” وعرقلة الكونجرس حتى لا يتمكن من تمرير مخصصات الميزانية والقوانين، وأنهم يسعون إلى نفس الأهداف في التهديد بإغلاق الحكومة، نهاية سبتمبر الجاري، وانقطاع الخدمات الحكومية الأساسية. ولكن في هذه الحالة سيعرض الجمهوريون أنفسهم لإدانتهم بنفس تهم “تسليح” الإجراء الدستوري التي يوجهونها للديمقراطيين بسبب القضايا التي يواجهها “ترامب”.
نتائج متوقعة
لا يعد التحقيق لعزل الرئيس الحالي سابقة تاريخية في الولايات المتحدة؛ فقبل “بايدن” كانت هناك 4 عمليات إجراء عزل في تاريخ البلاد، وهي: أندرو جونسون في عام 1868، وبيل كلينتون في عام 1998، ودونالد ترامب “مرتين” في عامي 2019 و2021. ولم تتم إدانة وعزل أي رئيس فعليًا، حتى أن الرئيس الجمهوري الأسبق ريتشارد نيكسون استقال في عام 1974، بينما كان مجلس النواب يستعد للتصويت على مواد المساءلة لعزله. ومع ذلك، يجب أن تنتقل تهم المساءلة من مجلس النواب إلى مجلس الشيوخ الذي يملك سلطة العزل، وسيتعين على ما يقرب من ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين دعم الإدانة وهو أمر لا يمكن تصوره استنادًا إلى المعطيات الحالية.
يظهر الوضع إلى الآن على أنه مجرد مسرحية سياسية ستضيع الوقت والطاقة ولن يكون لها أي فرصة للنجاح في إزاحة “بايدن”؛ فوفقًا لأحدث استطلاع رأي أجرته وكالة “رويترز” ومؤسسة “إبسوس” للأبحاث، ارتفعت معدلات التأييد العام للرئيس “بايدن” بالتزامن مع إطلاق الجمهوريين تحقيقًا رسميًا لعزله، فأظهر الاستطلاع الذي نشر، 12 سبتمبر، وكانت مدته 3 أيام، زيادة هامشية في شعبية “بايدن” 42%، مقارنة بـ40% الشهر الماضي، مما يدعم احتمالية أن يعزز التحقيق دعم “بايدن” بين الديمقراطيين كما فعلت محاولة عزل “ترامب” بين الجمهوريين.
ولذلك من المحتمل أن يؤدي هذا إلى إلحاق ضرر أكبر بالحزب الجمهوري مقارنة بالديمقراطيين، كما حدث خلال محاولة عزل الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون عام 1998؛ فالتغطية السياسية حول الإقالة المحتملة سلبية بالفعل، ومن المرجح أن تزداد. وما لم يتمكن الحزب الجمهوري من تقديم أدلة دامغة حول الجرائم الفعلية التي ارتكبها “بايدن” فسيبدو الأمر مجرد حيلة سياسية، ومن المؤكد أنه سيتم وصفه على هذا النحو في الصحافة، ويمكن أن يساعد هذا “بايدن” في بعض النواحي من خلال إظهار أن خصومه السياسيين يركزون على الألعاب السياسية ولا يركزون على الأولويات التي يهتم بها معظم الناخبين.
بالتأكيد في حالة ظهور أدلة واضحة للاتهامات التي يوجهها الجمهوريون للرئيس الأمريكي ستنعكس هذه التهديدات إلى مكاسب ضخمة “لترامب” والحزب الجمهوري، حتى إن لم يتخذ مجلس الشيوخ القرار النهائي بعزل “بايدن”، حيث سيدعم هذا رواية فساد “بايدن” التي يتبناها “ترامب” مما سيضيف مصداقية أيضًا لرواية أن التهم الموجهة “لترامب” هي وسيلة سياسية من “بايدن” والديمقراطيين لتشويه صورته. ولكن لا يوجد أي مؤشرات إلى تورط “بايدن” فعليًا في قضايا نجله.
ختامًا، إن الصراع الانتخابي في الولايات المتحدة مازال يزداد احتدامًا وتعقيدًا؛ فبعد مشاكل قضايا “ترامب” وهانتر بايدن، بالإضافة إلى الانقسام الداخلي بين مرشحي الحزب الجمهوري، يضاف إعلان بداية التحقيق في عزل الرئيس “بايدن”، في ظل وضع عالمي أكثر تعقيدًا. بالتأكيد إن مثل هذا القرار من شأنه أن يحدث الكثير من الضجة في الشارع الأمريكي، ولكن ما يظهر إلى الآن أن هذه الضجة لن تكون في صالح الحزب الجمهوري، وهو ما يفسر عدم اقتناع الجمهوريين المعتدلين بهذه الخطوة، في مقابل “ترامب” الذي يؤمن أنه لا توجد دعاية أو ضجة إعلامية سلبية، واستطاع استغلال هذا التركيز الإعلامي الناتج عن التهم التي يواجهها في صالحه، ولكنه بهذا أتاح نفس الفرصة لمنافسه الأساسي، ونتج عن ذلك فعليًا بداية ارتفاع شعبية “بايدن” ولو بنسبة صغيرة. من المؤكد أن هذا لن يكون الوضع في حالة أثبتت هذه الاتهامات بشكل قاطع، وهو ما سيفيد “ترامب” والحزب الجمهوري بشكل كبير، حتى لو لم يتم اتخاذ القرار بعزل “بايدن”. ولكن إلى الآن الذي يظهر هو احتمالية استفادة هانتر بايدن من اسم والده، ولا توجد أي مؤشرات على تورط الرئيس جو بايدن بشكل مباشر في أي من قضايا ابنه.
.
رابط المصدر: