عمر طاش بينار
الْتقى مسؤولو الدفاع والاستخبارات من تركيا وسورية خلال الأيام الأخيرة من عام 2022 وجهاً لوجه في موسكو –وهو أول اجتماع من نوعه منذ أكثر من عقد– برعاية وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو. وأثار هذا الاجتماع على الفور تكهنات بأن التطبيع بين تركيا وسورية بات وشيكاً، سيما بعد إشارة موسكو إلى أن هناك خططاً تجري على قدم وساق للقاء وزيري خارجية سورية وتركيا قريباً لتمهيد الطريق أمام لقاء الرئيسين أردوغان والأسد إمّا في روسيا أو في دولة الإمارات العربية المتحدة. وكشف وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوجلو للباحث خلال زيارته لواشنطن ولقائه وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن عن أن من المرجح أن يلتقي نظيره السوري منتصف فبراير الجاري. ولكنْ ما هو موقف واشنطن من هذه المساعي لتطبيع العلاقات بين سورية وتركيا؟ وما أسباب هذا الموقف ودوافعه؟ وما الذي يمكن لواشنطن أن تفعله لتعويق هذا المسار؟ هذه الأسئلة التي تحاول هذه الورقة الإجابة عنها.
رد الفعل الأمريكي تجاه جهود التطبيع السوري-التركي
جاء ردُّ فعل واشنطن تجاه التطورات الأخيرة على صعيد استعادة العلاقات بين تركيا وسورية سلبياً، فقد أكَّدَ المتحدث بلسان الخارجية الأمريكية نِد برايس مرات عدة خلال المؤتمرات الصحفية معارضةَ واشنطن قيامَ “الدول بتحسين علاقاتها أو التعبير عن الدعم لإعادة” تأهيل نظام الأسد. ويبدو أن جهود التقارب المحتمل بين أنقرة ودمشق أخذت إدارة بايدن على حين غِرَّة. ويُعَدُّ هذا أمراً مفهوماً لأن تركيا كانت حتى شهر ديسمبر من العام الماضي على وشك شن هجوم بري آخر ضد المسلحين الأكراد في سورية. وطالما وضعت أنقرة محاربة “حزب العمال الكردستاني” في أعلى سلم أولويات سياسة تركيا في سورية، حيث تتألف قوات سورية الديمقراطية “قسد”، التي تُعَدُّ حليفَ واشنطن في حربها ضد تنظيم “داعش”، بشكل رئيس من “وحدات حماية الشعب” الكردية المرتبطة بـ “حزب العمال الكردستاني”. ويلوّح أردوغان منذ يونيو 2022 بالقيام بتوغل بري في شمال شرقي سورية ضد قوات “قسد” في بلدات عين العرب/كوباني ومنبج وتل رفعت.
وأعلن أردوغان عندما شنَّت بلاده نهاية نوفمبر 2022 ضربات جوية ضد قوات “قسد” أن هذه الضربات مجرد البداية، مؤكداً أن القوات التركية ستشن هجوماً برياً “في أقرب وقت ممكن، وفي أكثر الأوقات المواتية لنا”. وأثارت هذه التهديدات التركية حفيظةَ واشنطن، حيث سعى كبار المسؤولين الأمريكيين بشكل متكرر إلى ثني أنقرة عن مثل هذا العمل. وسينطوي التوغل التركي على أثر حقيقي في مصالح الأمن القومي الأمريكية، نظراً لوجود 900 عنصر من القوات الخاصة الأمريكية في شمال شرقي سورية يعملون مع قوات “قسد” لاحتواء تنظيم “داعش”. وترى واشنطن أن أيَّ هجوم تركي ضد شركائها الأكراد يُمَثِّلُ زعزعةً للاستقرار ستُضر بقدرة الطرفين على إبقاء تنظيم “داعش” تحت السيطرة.
ولم يحدث التوغل الذي هددت تركيا بشنه، لكنْ ليس بسبب اعتراضات واشنطن، بل إن من المرجح أن معارضة موسكو هي التي منعت الغزو التركي، إذ إن كل العمليات العسكرية التركية في شمال سورية منذ عام 2016 تمت بموافقة روسيا. وأدى الإحباط تجاه دعم واشنطن للمقاتلين الأكراد في سورية إلى تسهيل التعاون التركي-الروسي في سورية التي تحظى فيها موسكو بنفوذ كبير. وتتهاون روسيا على مضض تجاه الوجود العسكري التركي في شمال سورية، إضافة إلى أن القوات التركية مكشوفة لسلاح الجو الروسي الذي يسيطر على المجال الجوي فوق إدلب وأجزاء أخرى من شمال سورية.
وتعرَّضت القوات التركية مطلع 2020 إلى أكبر خسارة لها منذ غزو قبرص عام 1974 بعد مقتل أكثر من خمسين جندياً تركياً نتيجة الضربات الجوية والصاروخية في إدلب. ودمَّرَت تركيا في المقابل مدفعية النظام السوري، لكنَّ أردوغان اختار تحميل موسكو المسؤولية عن مقتل هؤلاء الجنود الأتراك.
وترى واشنطن أن الحلقة السابقة، مقرونة بالدور الحالي الذي تؤديه موسكو في محاولة ترتيب عملية التطبيع بين أنقرة ودمشق، تدل على النفوذ الذي تحظى به روسيا لدى تركيا. بتعبير آخر، يَتَمَثَّلُ النفوذ الرئيس الذي يحظى به بوتين لدى أردوغان في قدرة موسكو على تحويل محافظة إدلب –آخر معقل للمعارضة الإسلامية المناهضة للأسد في شمال سورية– إلى كابوس بالنسبة لأنقرة. ويوجد في إدلب ما بين ثلاثة وأربعة ملايين سوري، وإذا ما قررت تركيا تجاوز الخطوط الحُمر الروسية في شمال سورية فإن بإمكان موسكو (أو نظام الأسد بدعم من موسكو) شن حملة جوية ضد المنطقة، ودفع ملايين اللاجئين السوريين باتجاه الحدود التركية. وتُعَدُّ هذه مخاطرة لا يرغب أردوغان في الدخول فيها قبيل الانتخابات المقررة في 14 مايو المقبل. وتضررت شعبية أردوغان بالفعل داخل تركيا بسبب الظروف الاقتصادية. وفي ظل ارتفاع معدلات التضخم والبطالة ازداد الغضب الشعبي بشكل كبير في تركيا إزاء تدفق أكثر من أربعة ملايين لاجئ سوري منذ اندلاع الحرب الأهلية في سورية عام 2011، وتحول إلى عبء كبير بالنسبة لأردوغان.
وبعد أن حققت روسيا هدفها الأساسي بإنقاذ نظام الأسد وتعزيز سيطرته على السلطة يبدو أن موسكو تُركز الآن على وضع الاستراتيجية النهائية بالنسبة لسورية التي تتألف من السماح لنظام الأسد بفرض سيادة كاملة على الأراضي السورية من خلال إنهاء وجود القوات التركية والأمريكية في سورية. وبعثت موسكو برسالة واضحة حول معارضتها قيام أنقرة بمزيد من التوغلات العسكرية في شمال سورية. ويتمثل حل بوتين لمشكلة تركيا في سورية بتطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة. وفي خطوة ذكية، تمارس روسيا الضغط أيضاً على أكراد سورية للعودة إلى حضن دمشق، حيث أوضحت موسكو لهم بأنه في حال رفضهم لذلك فإنها لن تحميهم من أي توغل تركي.
وتُعَدُّ احتمالات توصل أكراد سورية إلى اتفاق مع الأسد، أو توصل أنقرة إلى اتفاق للتطبيع مع دمشق، تطوراً يبعث على القلق بالنسبة لواشنطن لأسباب واضحة: فهذان السيناريوهان يعنيان أن الوجود العسكري الأمريكي في شمال سورية والشراكة الأمريكية مع أكراد سورية -اللذان يعدان حيويان من أجل المعركة ضد تنظيم “داعش”- يجب أن ينتهي. وفي ظل مثل هذه الظروف فمن غير المفاجئ أن تراقب واشنطن عن كثب خطة أنقرة تجاه نظام الأسد. وبحسب معلومات حصل عليها الكاتب من مسؤولين أمريكيين كبار في مجلس الأمن القومي، فقد أجرى عددٌ من كبار المسؤولين الأمريكيين زيارات غير مُعلنة إلى تركيا، للتشاور حول أهداف أنقرة من الانخراط مع دمشق، ومواصلة المحادثات المتعلقة بنشر قوات “قسد” على طول المناطق الحدودية شمال شرقي سورية.
قراءة واشنطن للتطورات في سورية
يَتمثَّلُ هدف واشنطن الرئيس في سورية بمكافحة الإرهاب الذي يمثله تنظيم “داعش”. كما يُعَدُّ تجنُّب نشوب أزمة مع تركيا نتيجة دعم واشنطن لقوات “قسد” و”وحدات حماية الشعب” الكردية هدفاً حيوياً آخر بالنسبة للولايات المتحدة نظراً لارتباطه الوثيق بالتحدي الذي يُشكِّله تنظيم “داعش”. وهذا هو السبب الذي يدفع إدارة بايدن إلى النظر إلى أي توغل تركي في شمال سورية باعتباره تطوراً يبعث على زعزعة الاستقرار، ويُضر بقدرة التحالف الدولي لمحاربة “داعش” على إبقاء التنظيم تحت السيطرة. وتتمثل المصلحة الحيوية الأخرى بالنسبة لواشنطن في سورية –وربما الأصعب تحقيقها– في احتواء نفوذ إيران على دمشق.
انتهت إدارةُ بايدن في نهاية 2021 من مراجعة سياستها في سورية، وحددت أربع أولويات لهذه السياسة من أجل تحقيق أهداف واشنطن بالتوصل إلى تسوية سياسية للصراع هناك بما يتماشى مع مضامين قرار مجلس الأمن رقم 2254 لسنة 2015، هي:
- استدامة الحملة الأمريكية والتحالف الدولي لمحاربة تنظيم “داعش”.
- دعم اتفاقيات وقف إطلاق النار المحلية.
- التوسع في إيصال المساعدات الإنسانية.
- الضغط من أجل المساءلة واحترام القانون الدولي وحقوق الإنسان ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل من خلال فرض العقوبات المستهدفة.
وأشارت إدارة بايدن في المراجعة نفسها إلى أنها لن تعترف بحكومة الأسد، وأنها تعارض قيام الآخرين بذلك أيضاً. وترى إدارة بايدن أن الأولوية القصوى تَتَمَثَّل في إبقاء تنظيم “داعش” تحت السيطرة دون الحاجة إلى زيادة كبيرة في القوات القتالية على الأرض، الأمر الذي يجعل من الحفاظ على الجاهزية القتالية لقوات “قسد” هدفاً رئيساً بالنسبة لوزارة الدفاع الأمريكية. ويرى المسؤولون العسكريون الأمريكيون أن قوات “قسد” قوة فاعلة، غير أنهم في الوقت نفسه يُدركون تماماً بأن هذه القوات منتشرة على نطاق واسع في شمال وشمال شرقي سورية، وأنها “ما زالت تعتمد تماماً على قدرات التحالف في مجالات الاستخبارات والاستطلاع والمراقبة”.
وتدرك واشنطن أن روسيا لم تنسحب من سورية، غير أنها وجدت نفسها مضطرة -بسبب الحرب في أوكرانيا- لسحب بعض مرتزقة مجموعة “فاجنر”، والانسحاب من بعض المناطق في جنوب غرب وشرقي سورية. كما جنَّدت موسكو بعض الجنرالات المعروفين بوحشيتهم في سورية لقيادة الحرب في أوكرانيا. كما عملت موسكو على نقل نظام الدفاع الجوي “أس-300” من سورية إلى أوكرانيا، وقد تجد نفسها مضطرة لسحب معدات عسكرية إضافية.
كما تُولي واشنطن اهتماماً متزايداً لمدى تأثير العلاقات الروسية-التركية، في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، على الديناميات في سورية. ويُعتقد أن مناورات أردوغان منذ الغزو الروسي لأوكرانيا –لعب دور الوسيط بين روسيا والغرب، وتسليح أوكرانيا بالطائرات المسيرة، وتوفير ملاذ آمن لرجال الأعمال والمواطنين الروس، واستغلال عضوية بلاده في “حلف شمال الأطلسي” (الناتو) للتأثير في محاولات السويد وفنلندا الانضمام إلى عضوية الحلف– أدت جميعها إلى تغيير ديناميات القوة مع روسيا لصالح تركيا. ومع ذلك ونتيجة للعوامل المتعلقة بمحافظة إدلب السورية تمكّنت موسكو لغاية الآن من إبقاء طموحات أنقرة تحت السيطرة، حيث بدأت الآن بالدفع باتجاه تطبيع العلاقات السورية-التركية.
لكنْ لا يُمكن تطبيع العلاقات من دون قبول حلول وسط من قبل الجانبين التركي والسوري. ولغاية الآن، لا يبدو أن أياًّ من الجانبين على استعداد للقيام بذلك. فتركيا تدعو دمشق إلى إنشاء منطقة بعمق 30 كيلومتراً على طول الحدود التركية خالية من المجموعات التي تتهمها أنقرة بأنها جزء من حزب العمال الكردستاني. وتريد أنقرة أيضاً أن تُساعد سورية في إدارة عودة ما لا يقل عن مليون لاجئ سوري. ومع ذلك، لم تُظهر دمشق رغبة كبيرة في تنفيذ تلك المطالب، وبدلاً من ذلك طلبت دمشق من تركيا الانسحاب فوراً من الأراضي السورية كشرط مُسبق للمضي قُدُماً بتطبيع العلاقات. وبحسب التقارير، رفضت تركيا أحد مطالب دمشق الأساسية، وهو تصنيف جميع جماعات المعارضة السورية تنظيمات إرهابية. وعلى غرار منظور تركيا لـ “وحدات حماية الشعب” الكردية بوصفها مجموعة إرهابية، تنظر الحكومة السورية إلى المناطق السورية التي تخضع للسيطرة التركية على أنها “مناطق إرهابية” تأوي مجموعات مثل “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً)، وهو التنظيم الجهادي الذي يُسيطر على إدلب في شمال سورية.
كل هذا يُشير إلى أن التطبيع بين أنقرة ودمشق سيكون عملية صعبة للغاية، ويُدرك المسؤولون في واشنطن أن الطريق إلى التطبيع التركي-السوري مليء بما يبدو بتحدّيات لا يُمكن التغلّب عليها في الوقت الحالي، ومع ذلك فهم يُتابعون الموقف عن كثب.
لماذا تُعارض واشنطن التطبيع التركي-السوري؟
إن الإجابة المُختصرة عن هذا السؤال هي أن مثل هذا التطوّر سيأتي على حساب شركاء الولايات المتحدة في البلاد، وهم “قوات سورية الديمقراطية”/”وحدات حماية الشعب” الكردية التي تُمثّل القوى الأكثر فاعلية في مجابهة أنشطة “داعش” في سورية. والشرط المُسبق التركي لأي تطبيع مع دمشق سيكون تفكيك الميليشيات الكردية ودمجها في الجيش السوري، وهذا سيعني عدم وجود شريك أكثر فعالية لوزارة الدفاع الأمريكية على الأرض. علاوة على ذلك، سيتعيّن على القوات الأمريكية في تلك الحالة الانسحاب أيضاً من الأراضي السورية. ومن وجهة نظر وزارة الدفاع الأمريكية، تفتقر أنقرة ودمشق إلى الإرادة الاستراتيجية والرؤية لوضع “داعش” على قائمة أولوياتهما كعدو رئيس؛ فلطالما كانت أولوية أنقرة الحركات الانفصالية الكردية بدلاً من الإرهاب الجهادي. وفي الواقع، أبرمت أنقرة شراكة مع القوى الجهادية للعمل ضد وحدات حماية الشعب الكردي. وتَنظر دمشق إلى “داعش” بوصفها تهديداً كبيراً، لكن في ظل تراجع قدرات التنظيم العسكرية فإن أولوية دمشق تنصب على الفصائل المعارضة والقوى الجهادية في شمال سورية. وباختصار، سيوفّر أي تطبيع سوري-تركي للتنظيم بيئة عملياتية، وسيسمح له بتنفيذ أنشطة إرهابية.
أمّا السبب الآخر لمُعارضة واشنطن للتطبيع السوري-التركي فهو أن مثل هذا التطوّر سيمثّل فوزاً كبيراً لكلٍّ من روسيا وإيران؛ ففي حال توسّطت موسكو في مثل هذه الصفقة فإن إيران ستستفيد من ترسيخ وجود نظام الأسد، وانسحاب القوات الأمريكية من شمال شرقي سورية. فمنذ عام 2015، نفّذت القيادة العسكرية الأمريكية الوسطى ضربات عسكرية دورية في سورية خارج إطار “عملية العزم الصلب”، بما في ذلك ضد الأهداف المُرتبطة بتنظيم “القاعدة” والحكومة السورية والميليشيات المدعومة من إيران. وفي فبراير ويونيو 2021، ومرة أخرى في أغسطس 2022، نفّذ الجيش الأمريكي غارات جوية ضد الميليشيات المدعومة من إيران في شرق سورية، والتي استخدمت منشآت في سورية لاستهداف القوات الأمريكية في العراق. كما استهدفت الميليشيات المدعومة من إيران قوات الولايات المتحدة في قاعدة التنف باستخدام طائرات بدون طيّار مُسلّحة. ويدعم حوالي 100 جندي أمريكي “جيش مغاوير الثورة”، وهي قوة عربية تتمركز داخل قاعدة التنف، حيث تقع هذه المنطقة على طول طريق رئيس بين العراق وسورية، يستخدمه أيضاً مقاتلو تنظيم “داعش” في تحركاتهم بين البلدين.
كيف يُمكن أن تؤثّر واشنطن في التطبيع السوري-التركي؟
إن العنصر الأهم والمسألة الأكثر إلحاحاً في الوقت الحالي على الأجندة التركية-الأمريكية، بالنسبة لإدارة بايدن، هو اعتراض تركيا على توسيع حلف الناتو. والسبب بسيط، وهو أن هذه هي القضية الوحيدة التي تتعلّق مُباشرة بالديناميات الأوكرانية-الروسية. فهناك مُقايضة ضمنية بين موافقة تركيا على انضمام السويد وفنلندا لحلف الناتو واستعداد الإدارةالأمريكية لإقناع الكونجرس الأمريكي بالموافقة على صفقة بيع 40 طائرة “أف-16” حديثة، والتي يرفضها حالياً. وفي معظم الحالات، يجب على الكونجرس الموافقة على مبيعات الأسلحة الأمريكية الكبيرة للحلفاء الخارجيين، وسيقوض رفض الكونجرس أو تقاعسه بهذا الخصوص اقتراح الرئيس بايدن.
وتريد الإدارة الأمريكية إتمام الصفقة، لكن الكونجرس يُعارض ذلك؛ فعضو مجلس الشيوخ الأمريكي، روبرت مينينديز، الذي يرأس لجنة العلاقات الخارجية في المجلس يُعارض بشكل خاص تنفيذ تلك الصفقة. فقد انتقد مينينديز وغيره من أعضاء مجلس الشيوخ، مثل كريس فان هولين، بشكل حاد أسلوب الحكم الاستبدادي لأردوغان، وأنشطة زعزعة الاستقرار التي تقودها أنقرة في سورية وشرق المتوسّط وفي القوقاز ضد أرمينيا. وأعلن مينينديز مُعارضته للصفقة إلى أن توقف تركيا “انتهاكات حقوق الإنسان في الداخل، وتوقف كل سلوكياتها وأنشطتها المُزعزعة للاستقرار في منطقتها، وتبدأ في التصرّف كما ينبغي على الحليف الموثوق أن يفعل”. وكما تُشير قائمة مينينديز الطويلة من المآخذ على تركيا، فإن توسيع حلف الناتو هو بالكاد العقبة الوحيدة التي يواجهها الطلب التركي لشراء الطائرات الأمريكية من طراز “أف-16” في الكونجرس.
ويبدو أن إدارة بايدن، التي تسعى إلى إظهار تعاونها مع الكونجرس، من غير المُرجّح أن تلجأ إلى الإجراء غير المعتاد الذي اتخذته إدارة ترمب في عام 2019 لتجاوز المعارضة التشريعية لبيع الأسلحة إلى دول الخليج العربية؛ ففي ذلك الوقت، استخدم ترمب سلطات الطوارئ الخاصة به لتجاوز الكونجرس وإتمام 22 صفقة لبيع الأسلحة إلى السعودية ودول أخرى، على الرغم من اعتراضات المُشرّعين الأمريكيين. ويبدو أن إدارة بايدن على استعداد للعمل مع مينينديز في محاولة لإقناعه بسحب معارضته للصفقة. ويُمكن للرئيس الأمريكي أيضاً أن يُعفي مجلس الشيوخ من مراجعة الصفقة وحق الاعتراض عليها بموجب قانون مراقبة صادرات الأسلحة. ولكن للقيام بذلك، يجب على الرئيس بايدن تزويد الكونجرس بـــــ “تبرير مُفصّل لتصميمه بهذا الخصوص، بما في ذلك وصف الظروف الطارئة” التي تجعل ذلك الاجراء ضرورياً، وكذلك “مُناقشة تهديدات الأمن القومي المُترتّبة عن ذلك”.
وبعبارة أخرى، سيكون من المُستحيل على البيت الأبيض بقيادة بايدن أن يتصرّف أو يضغط لصالح تركيا إذا اتّبعت أنقرة سياسات ضد مصالح الأمن القومي الأمريكي؛ لذا، لدى واشنطن بعض النفوذ في الوقت الحالي لدعم تركيا فيما يخص صفقة الطائرات من طراز “أف-16″، ولكن إذا استمرت تركيا في التدخّل فيما يتعلّق بتوسيع حلف الناتو ، أو اتّبعت سياسات في سورية ضد المصالح الأمريكية (التطبيع مع نظام الأسد أو شن أي هجوم على “وحدات حماية الشعب” الكردية)، أو اتخذت إجراءات عسكرية ضد اليونان، فإنه لن يكون أمام إدارة بايدن سوى خيار إلغاء تلك الصفقة العسكرية. أمّا الأداة الأخرى التي يُمكن لإدارة بايدن استخدامها ضد التطبيع التركي-السوري فهي العقوبات؛ فلا تزال الولايات المتحدة تفرض عقوبات على سورية، وفق قانون “قيصر”، بسبب دعم الأخيرة للإرهاب وتدخلها بشؤون لبنان، واستخدام السلاح الكيماوي ضد شعبها، وانتهاكات حقوق الإنسان.
الاستنتاجات
يُمثّل التطبيع التركي-السوري تحولاً كبيراً بالنسبة للولايات المتحدة، إذ من شأنه أن يُغيّر الحسابات الاستراتيجية بشكل أساسي في سورية، ويُهدد بشكل مُباشر موقف الأكراد السوريين المدعومين من قبل الولايات المتحدة، وهو الطرف الذي من المُحتمل في نهاية الأمر أن يُشكّل منطقةً للحكم الذاتي الكردي في شمال شرقي سورية. وهذا الموقف يُمكن أن يخلق أيضاً معضلةً كبيرة لإدارة بايدن: إمّا التخلي عن شركائها الأكراد أو مواجهة أزمة أخرى مع تركيا. وستأتي هذه الأزمة مع تركيا إلى جانب الأزمات الحالية، مثل توسيع الناتو (السويد وفنلندا)، وصفقة صواريخ الدفاع الصاروخي الروسية من طراز “أس-400″، وقانون مُكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات (كاتسا)، وقضية بنك خلق التركي (وهو بنك تديره الدولة مُتهم بانتهاك العقوبات المفروضة على إيران).
وعلى الرغم من كل مشكلاتها مع تركيا، فإن واشنطن لا ترغب في معاقبتها في ظل تزايد أهمية أنقرة الجيو-استراتيجية بسبب أوكرانيا والبحر الأسود. فمن خلال مبيعاتها الدفاعية إلى كييف، والقدرة على تأمين صفقة الحبوب عبر البحر الأسود، أصبحت تركيا مُهمةً لأوكرانيا لكي تتمكن الأخيرة من الدفاع عن نفسها. ومع وجود مشاكل كافية بالفعل على الجبهة التركية-الأمريكية، لا ترغب واشنطن في الاختيار بين شراكتها مع الأكراد لمواجهة تنظيم “داعش” وحليفها الجيو-استراتيجي في حلف الناتو. وهذا هو السبب في أن السياسة المُحتملة لواشنطن فيما يتعلّق بآفاق التطبيع التركي-السوري ستأخذ طابع الصبر الاستراتيجي. ويُدرك صانعو السياسة الأمريكيون أن العقبات التي تحُول دون التوصّل إلى صفقة مُغيرة لقواعد اللعبة بين أردوغان والأسد هائلة؛ فأردوغان يقترب من الانتخابات، واستعداده لالتقاط صورة مع الأسد هو جزء من محاولة تجميلية، تهدف إلى خلق تصوّر (خاطئ) بأن اللاجئين السوريين في تركيا قد يبدؤون قريباً في العودة إلى سورية. ويعرف الأسد هذه الحقيقة، وأخبره أنصاره الإيرانيون بضرورة تجنّب خدعة أردوغان والانخراط مع أنقرة فقط إذا كان أردوغان جاداً في سحب قواته من الأراضي السورية.
إن حقيقة صعوبة التوصّل إلى حل وسط بين الجانبين التركي والسوري سيُعزّز الموقف الأمريكي فقط لتبنّي منهجية الانتظار لرؤية ما ستؤول اليه الأمور، إلى أن تحين الانتخابات التركية، والتي من المُقرّر الآن إجراءها في منتصف مايو. وفي غضون ذلك، ستتعامل واشنطن مع أي مؤشرات ملموسة للتطبيع التركي-السوري، والذي سيُعرّض الوجود العسكري الأمريكي للخطر على الأرض، من خلال الدبلوماسية القسرية وفق الخطوط المذكورة أعلاه. وستمنع أدوات هذه الدبلوماسية القسرية بيع الطائرات من طراز “أف-16” لتركيا، وستفرض عقوبات إضافية على أنقرة في إطار “قانون قيصر”.
وأخيراً، هناك عامل حاسم آخر ستتابعه واشنطن عن كثب وهو فيما إذا كان سيُنخرط شركاؤها الأكراد (“وحدات حماية الشعب” الكردية) في مُحادثات جادة مع نظام الأسد، تحت إشراف موسكو. ويجب أن يدرك الأكراد السوريون في أعماقهم أن سياسة الاعتماد على الوجود العسكري الأمريكي قد لا تكون مُستدامة على المدى الطويل؛ فبعد رحيل القوات الأمريكية عن أفغانستان، فإن مشكلة مصداقية القيادة العسكرية الوسطى الأمريكية مع الأكراد تبدو حقيقية؛ ولهذا السبب ربما تكون واشنطن أكثر قلقاً بشأن التقارب المُحتمل بين النظام السوري و”وحدات حماية الشعب” الكردية من التطبيع بين أنقرة ودمشق.
.
رابط المصدر:
https://epc.ae/ar/details/featured/alhisabat-al-amrikia-iiza-masaei-altatbie-bayn-turkia-wa-suria