ارتدادات واسعة النطاق: الحرب الأوكرانية وقطاع الشحن العالمي

بسنت جمال

 

تسببت الحرب الروسية-الأوكرانية في أزمات واسعة النطاق، سواء على المستوى الكلي أو المستوى الجزئي. ومن أبرز القطاعات المتأثرة بتداعيات الحرب، قطاع النقل والشحن البحري، حيث فاقمت الأزمة الأوكرانية من اضطرابات سلاسل التوريد التي كانت لا تزال تتعافى بصورة هشة من ارتدادات أزمة كورونا، مما أسفر عن حدوث حالة من عدم الانتظام في أحوال الشحن العالمي، بسبب ارتفاع أسعار الشحن بشكل غير مسبوق نظرًا لارتفاع أسعار الحاويات وأسعار النفط والوقود، وتعليق شركات الخدمات اللوجستية خدماتها، وتعطيل حركة التجارة مع روسيا وأوكرانيا –اللاعبين الرئيسيين في سوقي الطاقة والغذاء- فضلًا عن تعرض بعض السفن للقصف في منطقة البحر الأسود.

مظاهر الأزمة

تعتبر روسيا وأوكرانيا موردين مهمين للمنتجات الأساسية، ولا سيما الغذاء والطاقة، حيث يمثل البلدان نحو 2.5% من التجارة العالمية للبضائع و1.9% من الناتج المحلي الإجمالي خلال عام 2021. ولهذا، فمن شأن أي اضطراب يحدث في منطقة البحر الأسود أن يؤثر بشدة على سلاسل التوريد وقطاع الشحن البحري الذي يستحوذ وحده على 80% من حركة التجارة العالمية. وفيما يلي أبرز ملامح الأزمة في قطاع الشحن:

• إغلاق الموانئ وتوقف شركات الملاحة: قررت العديد من الدول حول العالم في مهلة قصيرة إغلاق موانئها أمام السفن الروسية، مثل بريطانيا وكندا والنرويج وإيطاليا والولايات المتحدة، وذلك للرد على الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية، لتأتي تلك الخطوات ضمن مجموعة من العقوبات الاقتصادية الموسعة التي فرضتها الدول الغربية ضد موسكو لإجبارها على العدول عن غزوها لأوكرانيا.

إلى جانب ذلك، أعلنت ثمانية خطوط ملاحية تعليق عمليات حجز الشحن من وإلى روسيا جراء حربها على أوكرانيا، وتخوفًا من أن تتكبد خسائر باهظة أثناء عمليات الشحن، ومن أهم تلك الخطوط “ميرسك” و”فيدكس” و”هاياج لويد”، فيما قامت باقي الخطوط الملاحية بإقرار رسوم مخاطر تبلغ قيمتها نحو 1200 دولار على الحاويات.

• أزمة العمالة: يعاني قطاع الشحن منذ بداية أزمة كورونا من أزمة في العمالة ونقص في أطقم البحارة بسبب قيود السفر الصارمة التي فرضها الوباء، وفقًا لدراسة نشرها كل من المجلس البحري البلطيقي والدولي (بيمكو) وغرفة الشحن الدولية، حيث حذرت الدراسة من أن نقص البحارة في طواقم السفن التجارية سيضيف المزيد من المخاطر على سلاسل التوريد العالمية.

وقد تفاقمت أزمة العمالة في القطاع مع اندلاع الحرب بين موسكو وكييف التي تسببت في حصار البحارة العاملين على السفن الأوكرانية، خاصة في الموانئ الساحلية مثل “ماريوبل” و”أوديسا”، أكبر ميناء لتصدير الحبوب في أوكرانيا، مما زاد من صعوبات عملية نقل البضائع عبر هذه المناطق. كما تشكل روسيا وأوكرانيا معًا ما يقرب من 15% من بحاري العالم البالغ عددهم 1.89 مليون بحار، حيث يصل عدد البحارة الروس إلى 198 ألف بحار على مستوى العالم، وتمثل 4% من حجم البحارة عالميًا، بينما يصل الأوكرانيون إلى 76.4 ألف بحار.

• ارتفاع أسعار النفط: ألقت الأزمة الجيوسياسية بين موسكو وكييف بظلالها على أسعار الطاقة المُرتفعة بالفعل في ظل ارتفاع الطلب إلى مستويات ما قبل الجائحة بفعل تخفيف الإجراءات الاحترازية ضد كورونا، وعودة الحياة إلى طبيعتها مقارنة مع محدودية المعروض واضطراب سلاسل التوريد، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الخام الأمريكي وخام برنت كما يتبين من الشكل الآتي:

الشكل 1- سعر الخام الأمريكي وخام برنت شهريًا (دولار للبرميل)

Source: Energy Information Administration (EIA (, Spot Prices.

يتبين من الرسم السابق ارتفاع أسعار الخام الأمريكي وخام برنت منذ بداية العام الجاري ليسجل خام برنت أعلى مستوياته خلال الفترة المذكورة أعلاه عند 117.25 دولارًا للبرميل، فيما بلغ الخام الأمريكي أعلى مستوياته خلال مايو الماضي عند 109.55 دولارات للبرميل.

ومن المرجّح أن يؤثر ارتفاع أسعار النفط على صناعة الشحن من خلال مسارين، المسار المباشر: ارتفاع تكاليف الشحن والنقل باعتبار الطاقة أحد المدخلات الهامة لتلك الصناعة. المسار غير المباشر: قيام شركات الشحن بتمرير ارتفاع الأسعار إلى عملائها بدرجات متفاوتة، وهو ما قد يؤدي إلى تفاقم الموجة التضخمية التي يُعاني منها العالم منذ العام الماضي.

• ارتفاع تكلفة التأمين على السفن: أسفرت الحرب الروسية عن ارتفاع تكاليف التأمين على السفن التجارية عبر البحر الأسود مما زاد من تكلفة شحن البضائع وذلك بسبب ارتفاع المخاطر التي قد تواجهها تلك السفن خلال رحلتها مع زيادة احتمالية تعرضها للتلف أو الاحتراق نتيجة للحرب الدائرة في تلك المنطقة. وقد رفعت بعض شركات الشحن تكلفة التأمين من 1% من قيمة البضاعة إلى 10%. وفي هذا السياق، صنفت شركات التأمين كلاً من منطقة البحر الأسود وبحر آزوف وكذلك المياه القريبة من رومانيا وجورجيا كمناطق عالية الخطورة.

انعكاسات كارثية

بطبيعة الحال، ستخلق العوامل المذكورة أعلاه عددًا من الارتدادات على قطاع الشحن بشكل خاص، والاقتصاد العالمي بشكل عام، إعمالًا بمبدأ “تأثير الدومينو”، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:

• صعود تكلفة الشحن البحري: شهد الاقتصاد العالمي عقب الحرب الروسية-الأوكرانية ارتفاعًا في أسعار الطاقة والتأمين على السفن، وزيادة في القيود المفروضة على التجارة الخارجية، إلى جانب النقص العالمي في حاويات الشحن، فضلًا عن إغلاق الموانئ وتوقف شركات النقل عن تقديم خدمات الشحن إلى روسيا وأوكرانيا مما أجبر السفن على تغيير مسارها، وهو ما أدى إلى تكدس واصطفاف السفن خارج الموانئ لتصل مدة الانتظار إلى أكثر من عشرين يومًا. ومن شأن جميع العوامل السابقة أن تخلق بيئة تجارية وشحن عالمية أكثر تكلفة، ولا يمكن التنبؤ بها، مما يرفع تكلفة الشحن البحري، كما يُبين الرسم الآتي:

الشكل 1- أسعار شحن الحاويات (دولار/ اليوم)

Source: UNCTAD- MARITIME TRADE DISRUPTED THE WAR IN UKRAINE AND ITS EFFECTS ON MARITIME TRADE LOGISTICS.

يتبين من الرسم السابق أن أسعار الشحن العالمية شهدت انخفاضًا ملحوظًا خلال الربع الأول من العام الجاري لترتفع عقب ذلك بصورة مستمر حتى الربع الثاني من العام الجاري عقب بدء تأثيرات الحرب والعقوبات الاقتصادية على سلاسل التوريد العالمية، ولهذا من المرجح أن تستمر أسعار الشحن البحري في الارتفاع حتى نهاية عام 2022 بما سيرفع أسعار السلع النهائية للمستهلكين. فعلى سبيل المثال، ارتفعت أسعار نقل البضائع السائبة الجافة كالحبوب بنحو 60% خلال الفترة بين فبراير ومايو 2022.

• زيادة الضغوط التضخمية: تُعتبر تكلفة الشحن من بين العناصر الرئيسية المؤثرة على معدلات التضخم وأسعار المستهلكين، ولهذا سيؤدي ارتفاع أسعار الشحن البحري إلى تفاقم الموجة التضخمية التي تواجهها جميع الدول حول العالم. وأشارت دراسة صادرة عن “الأونكتاد” إلى أن التكاليف المرتفعة لشحن الحاويات التي لوحظت خلال عامي 2021 و2022 ستسفر عن زيادة إضافية في مؤشر أسعار المستهلكين العالمي بنسبة 1.6%، مع ارتفاع قدره 11.9% في أسعار الواردات العالمية، بالتزامن مع زيادة بنسبة 3.7% في أسعار السلع الغذائية على مستوى العالم، وهو ما سيؤدي إلى زيادة الضغوط المفروضة على الدول المعتمدة على الاستيراد لتأمين احتياجاتها من السلع الأساسية كالطاقة والغذاء، لا سيما في ظل التوقعات التي تشير إلى احتمالية انخفاض التجارة البحرية بنسبة 3.8% بحلول نهاية عام 2022.

• تهديد الأمن الغذائي العالمي: تُمثل أزمة قطاع الشحن العالمي وسلاسل توريد السلع الأساسية عقبة جديدة أمام تحقيق مستهدف تعزيز الأمن الغذائي، حيث هددت الحرب الأوكرانية بتوقف توريد السلع الاستهلاكية والغذائية الهامة خاصة للدول المعتمدة على الدول الواقعة على البحر الأسود. كما تعتبر أزمة قطاع الشحن تحديًا رئيسيًا أمام الاقتصادات الهشة أمام إمكانية البحث عن مصادر بديلة لوارداتها الغذائية بعيدًا عن روسيا وأوكرانيا، حيث إن التضخم العالمي المرتفع وارتفاع تكلفة الشحن والقيود المحتملة على الصادرات تجعل هذا التحول مكلفًا.

تُضاف تلك الأزمات إلى المشكلات الأساسية التي تعاني منها مسألة الأمن الغذائي العالمي كسياسات الحمائية الغذائية التي انتهجتها العديد من البلدان المصدرة للغذاء حول العالم، وتفاقم التغيرات المناخية، فضلًا عن تزايد الصعوبات الماثلة أمام زيادة إنتاج الدول المستوردة بسبب ارتفاع تكلفة مدخلات الإنتاج كالأسمدة.

استخلاصًا مما سبق، يتبين أن الحرب الأوكرانية أسفرت عن ضغوط جديدة على قطاع الشحن العالمي متمثلة في تراجع أعداد الحاويات الفارغة مع ارتفاع أسعارها، وأزمة في العمالة، فضلًا عن ارتفاع تكلفة الشحن البحري، ومن المُرجح أن يترتب على تلك العوامل آثار سلبية واسعة النطاق على الاقتصاد العالمي وقضية الأمن الغذائي بوجه خاص.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/20177/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M