استعادة النفوذ: آفاق وعقبات الحقبة الفرنسية الجديدة في أفريقيا

نسرين الصباحى

 

جاءت زيارة الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” لأربع دول في وسط أفريقيا التي تقع في حوض نهر الكونغو (هي: الجابون، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، والكونغو برازفيل، وأنجولا) خلال الفترة من 1-5 مارس 2023، وتقع هذه الدول بعيدًا عن المستعمرات الفرنسية السابقة الأخرى، في وقت يُواجه فيه نفوذ فرنسا في القارة الأفريقية تحديات مُتشابكة غير مسبوقة، في ظل انسحاب القوات الفرنسية من دول مالي وبوركينافاسو. بالإضافة إلى ذلك، تصاعد المشاعر الشعبية المعادية للوجود الفرنسي في منطقة غرب أفريقيا. وهو ما ظهر جليًا في احتجاجات المواطنين في الشوارع للمطالبة برحيل القوات الفرنسية. لذا، جاءت جولة “ماكرون” الأفريقية الأخيرة كمحاولة لنهج جديد يتسم بالشراكة والتعاون المتكافئ والعادل مع مستعمراتها السابقة لتعزيز نفوذ فرنسا المتضائل. فضلًا عن التغييرات في النهج العسكري لفرنسا في منطقة الساحل الأفريقي، في إطار الإعلان عن شراكة أمنية جديدة، وبناء شراكة متوازنة، واستعادة المصالح الاقتصادية والثقافية والبيئية في أفريقيا.

أهداف عديدة ونتائج متباينة 

خلال جولة “ماكرون” التي تُعتبر الجولة الثامنة عشرة التي يقوم بها الرئيس الفرنسي في أفريقيا، زار أنجولا الناطقة بالبرتغالية بهدف تعزيز العلاقات في مجالات الزراعة وصناعة الأغذية، والطاقة، بما في ذلك النفط والغاز. لكن ندد بعض نشطاء المعارضة في الجابون بزيارته التي يرون أنها تقدم الدعم للرئيس “علي بونجو أونديمبا” الذي تحكم عائلته منذ فترة الستينيات قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في أغسطس 2023. كما حرص “ماكرون” على إظهار التزام فرنسا بتحسين العلاقات الاقتصادية والثقافية مع بلدين يتحدثان الفرنسية، وهما جمهورية الكونغو الديمقراطية والكونغو برازفيل.

في هذا السياق، كانت الجولة الفرنسية لبحث القضايا الفرنسية-الأفريقية برؤية جديدة، حيث عكست الزيارة تباين الاهتمام، ولطالما أراد “ماكرون” الخروج من ساحة النفوذ الفرنسية القديمة. وتُمثل أنجولا وجهة جذابة بسبب وجود حقول النفط والغاز ومشروع الطاقة الكهروضوئية، مع تزايد نشاط الشركة الفرنسية (توتال إنرجيز). بالإضافة إلى ذلك، الطموحات الفرنسية للاستثمار في مجالات الزراعة والمياه وقطاع الكهرباء. كما تُعد جمهورية الكونغو الديمقراطية، عملاق التعدين والغابات، أكبر دولة ناطقة بالفرنسية في أفريقيا من خلال تقديم فرنسا الدعم لتهدئة الوضع الأمني في شرق الكونغو، والاستثمارات في مشروع سد (إنجا)، ويمكن توضيح أهم نتائج الجولة الفرنسية على النحو التالي:

• استجابة إنسانية للوضع في شرق الكونغو الديمقراطية: قال الاتحاد الأوروبي إنه سيخصص حوالي 47 مليون يورو، متضمنة المساهمة الفرنسية بمقدار 34 مليون يورو، لتلبية الاحتياجات الإنسانية العاجلة مثل التغذية والرعاية الصحية والمأوى والمياه في شرق الكونغو، حيث قال مفوض الاتحاد الأوروبي لإدارة الأزمات، “يانيز ليناركيتش”، إن الاتحاد الأوروبي على استعداد لحشد جميع الوسائل اللازمة لدعم العاملين في المجال الإنساني، بما في ذلك الخدمات اللوجستية والجوية. بالإضافة إلى ذلك، دافع “ماكرون” عن خطة السلام الإقليمية بجدول زمني جديد لإنهاء الأزمة، التي تم التصديق عليها في قمة الاتحاد الأفريقي في منتصف فبراير 2023. من ناحيةٍ أخرى، رفض “ماكرون” أن يحدد بوضوح مسئولية رواندا في زعزعة الاستقرار في شرق الكونغو، مما أثار استياء نظيره الكونغولي، واعتبر خطابه في كينشاسا سلطة أبوية.

• دعم الحفاظ على الغابات الاستوائية: حضر “ماكرون” قمة بيئية متعلقة بقضايا التغير المناخي والحفاظ على الغابات الاستوائية المطيرة تحت عنوان (قمة الغابة الواحدة- One Forest Summit) في ليبرفيل عاصمة الجابون على مدار يومي 1 و2 مارس 2023، لمناقشة الحفاظ على الغابات الاستوائية من خلال تبني خطة ليبرفيل لوقف إزالة الغابات كحل للحدّ من ظاهرة الاحتباس الحراري وإظهار دعم فرنسا العمل المناخي في أفريقيا. في هذا السياق، ركزت القمة على الحفاظ على الغابات الاستوائية والتنوع البيولوجي، وكانت فرصة للقادة والخبراء والشخصيات المدعوة لفحص الآليات والوسائل التي يتعين تنفيذها للتوفيق بين الحفاظ على الغابات والتنمية الاقتصادية، على سبيل المثال، استغلال رواسب حقول النفط والغاز في قلب الغابة الاستوائية التي تعتبر الرئة الخضراء الثانية لكوكب الأرض بعد غابات الأمازون في أمريكا اللاتينية، كما أنها موطن للتنوع البيولوجي الضخم، بما في ذلك أفيال الغابات والغوريلا، وتحمل آثار استقرار البشرية المبكرة، لكنهم يواجهون تهديدات مثل الصيد الجائر وإزالة الغابات من أجل صناعات زيت النخيل والمطاط وقطع الأشجار غير القانوني واستغلال المعادن.

 علاوة على ذلك، يرغب “ماكرون” في تحويل قمة الغابة الواحدة إلى حدث سنوي من أجل تركيز العمل المناخي العالمي من أجل الحفاظ على مصارف الكربون الرئيسية التي تُشكلّها مناطق الغابات الكبيرة، ويأمل “ماكرون” ونظيره الجابوني “علي بونجو أونديمبا” أن تشجع القمة التضامن بين الغابات الاستوائية الثلاث الرئيسية في العالم في الأمازون وحوض الكونغو وجنوب شرق آسيا، في إطار عائدات حماية الغابات المربحة وتحقيق إيرادات منها.

• إنهاء سياسات التدخل الفرنسية: أعلن “ماكرون” نهاية سياسة فرنسا الأفريقية (Françafrique)، واعدًا بأن تكون باريس محاورًا محايدًا، لا يتمثل دوره في التدخل في السياسة الداخلية، في ظل معارضة السكان المحليون بشكل متزايد وجود فرنسا في القارة الأفريقية، وتوقف فرنسا عن النظرة إلى أفريقيا بنظرة أبوية.

• تعزيز الشراكة في مجال الزراعة: شارك “ماكرون” في منتدى اقتصادي بشأن تطوير الزراعة في أنجولا، شاركت فيه أكثر من 50 شركة فرنسية، لمساعدتها في ضمان أمنها الغذائي بشكل أفضل من خلال تحديد المنتجات الزراعية المناسبة للنمو، حيث تعتبر فرنسا أول شريك تدريب زراعي في أنجولا لتعزيز الأمن الغذائي، وتم إبرام اتفاقيات تعاون لتعزيز القطاع الزراعي الأنجولي، ولا سيما من خلال مساعدة وكالة التنمية الفرنسية تصل إلى 200 مليون يورو، والتي تؤكد على طلب المعلومات، واستخدامها لتمويل برنامج المرونة المناخية.

ملامح التحوّل في الاستراتيجية الفرنسية الجديدة 

يأتي الإعلان عن الاستراتيجية الفرنسية الجديدة تجاه القارة الأفريقية بعد أسابيع فقط من وعد روسيا بتقديم مزيد من الدعم العسكري والتدريب لدول غرب أفريقيا، وبالتزامن مع خروج القوات الفرنسية من بوركينافاسو؛ إذ أعلن “ماكرون” عن هذه الاستراتيجية قبل جولته الأفريقية بأيام قليلة، وجاءت الاستراتيجية الجديدة بعنوان: “مستقبلنا-الشراكة بين أفريقيا وفرنسا”، في ظل التحديات الماثلة أمام هذه الشراكة الجديدة مع تراجع مناطق النفوذ وظهور تحالفات جديدة، وجاء خطاب “ماكرون” في السابع والعشرين من فبراير 2023 بشكل شبه متكرر لخطابه السابق عام 2017 في عاصمة بوركينافاسو (واجادوجو)، الذي تعهد فيه بالانفصال عن سياسات فرنسا ما بعد فترة الاستعمار، ويمكن توضيح أهم ملامح الاستراتيجية الجديدة، كما يلي:

• خفض أعداد القوات الفرنسية وإعادة توزيع المهام: قررت فرنسا سحب قواتها من مالي وبوركينافاسو بناءً على طلب المجالس العسكرية الحاكمة في هذه الدول، في ظل تصاعد العداء الشعبي للوجود الفرنسي، مع عدم تحسن الأوضاع الناجمة عن الانقلابات المتتالية وانعدام الأمن. بالإضافة إلى ذلك، الاتجاه إلى سياسة تنويع الحلفاء والشركاء وتحديدًا روسيا، مع وصول قوات “فاجنر” الروسية إلى مالي، وعقد روسيا مع مالي اتفاقيات أمنية ودفاعية جديدة، وتسليمها إلى مالي معدات عسكرية جديدة. وعلى ناحيةٍ أخرى، لاتزال هناك قوات فرنسية في النيجر وتشاد، في إطار إعادة نشر وتوزيع القوات وليس الانسحاب الفرنسي. كما تشهد المعسكرات العسكرية في السنغال وكوت ديفوار والجابون انخفاضًا في أعدادها بنسبة 70%، مع عدم وجود أكثر من 300 جنديًا لكل قاعدة في المستقبل. بالإضافة إلى ذلك، يوجد لدى فرنسا أربع قواعد عسكرية في أفريقيا؛ كوت ديفوار وجيبوتي والجابون والسنغال والنيجر وتشاد للقيام بعمليات خاصة، حيث تتجه سياسة التعاون الفرنسي للإدارة المشتركة لقواعدها العسكرية مع الدول المعنية، وهذا النمط الجديد للشراكة العسكرية بين فرنسا وأفريقيا من خلال إضفاء الطابع الأفريقي على القواعد العسكرية، وإنشاء أكاديميات بإدارة مشتركة بين الجيوش الأفريقية وفرنسا مع جهود متزايدة في مجالات التدريب والمعدات العسكرية.

• الاهتمام بالأبعاد الفنية والثقافية وتعزيز ريادة الأعمال: وعد “ماكرون” بإقرار قانون من شأنه تسهيل استعادة الفن الأفريقي من المتاحف الفرنسية والمجموعات الأخرى، وذلك تأكيدًا على خطابه في واجادوجو عام 2017 بشأن إعادة تأسيس الشراكة الثقافية بين فرنسا وأفريقيا بإصدار أول مشروع قانون إطاري يسمح بتحديد المنهجية لنقل الأعمال الثقافية إلى موطنها الأصلي والتعويضات الجديدة للأعمال الفنية بالاستناد إلى شراكات علمية وثقافية. كما تم تقديم مشروع قانون عودة الأعمال الفنية إلى أفريقيا في 15 يوليو 2020 في مجلس الوزراء من خلال إتاحة إمكانية العودة إلى بنين والسنغال لمختلف السلع الثقافية التي تم أخذها خلال فترة الاستعمار. كما أصر “ماكرون” في خطابه على التزامات فرنسا التي تم تنفيذها بالفعل خلال السنوات الأخيرة، لا سيما مع إصلاح عملة (فرنك- سيفا “CFA”) ومبادرات أخرى مثل “Choose Africa” التي تدعم ريادة الأعمال في الثقافة، ومجالات الرياضة والرقمنة والزراعة، بتمويل قدره 3 مليارات يورو خلال الفترة (2019-2022)، ومواصلة هذه الجهود من خلال مبادرة “Choose Africa 2”. كما رفض “ماكرون” أن يرى في أفريقيا مجالًا للمنافسة، ودعا إلى علاقة جديدة متوازنة ومتبادلة مع دول القارة الأفريقية.

• تكريس الحضور الأوروبي وتعزيز مجالات الشراكة الاقتصادية: في ضوء بحث الاتحاد الأوروبي عن حلول للوضع الجديد وخيارات نشر القوات الأوروبية في النيجر؛ إذ تهدد الفوضى في منطقة الساحل الأفريقي بالانتشار إلى الدول الأكثر ثراءً واستقرارًا في خليج غينيا مثل ساحل العاج. من ناحية أخرى، يمكن للجماعات الإرهابية التي أن تستخدم المنطقة كقاعدة لشن أعمال إرهابية في جنوب أوروبا. بالإضافة إلى اتجاه متزايد من بعض دول المنطقة لروسيا. لذلك، اصطحب “ماكرون” في جولته أثنين من مفوضي الاتحاد الأوروبي؛ المفوض الأوروبي للصناعة والخدمات “تييري بريتون”، والمفوض الأوروبي للشراكات الدولية “جوتا أوربيلينن”، لتجنب مواقف الدول الأفريقية ضد فرنسا، كمحاولة للتعبير عن مجالات الشراكة الجديدة بين الاتحاد الأوروبي وأفريقيا في مشاريع البنية التحية. فيما يأمل “ماكرون” في ظهور جيل جديد من رواد الأعمال الفرنسيين والأفارقة في تعاون جديد بفلسفة قائمة على التصنيع المشترك لتنفيذ أهداف برنامج”Pass Africa”، من أجل تطوير ريادة الأعمال في أفريقيا.

حاصل ما تقدم، يتضح أن فرنسا تُحاول استعادة مسارات نفوذها داخل القارة الأفريقية والبحث عن موطئ قدم جديد في منطقة وسط أفريقيا من خلال عقد شراكات استراتيجية ودعم الاستجابة الإنسانية للصراعات الداخلية، والتأكيد على الأولويات البيئية، وتعزيز الاستثمار الزراعي، في ضوء الانتقال من منطلق المساعدة إلى التضامن والاستثمار في الشراكة على أساس مبدأ البناء المشترك، لكن ستواجه مُعضلة لوجستية في عملياتها العسكرية في منطقة الساحل الأفريقي مع تقليص قواتها البشرية، ويتطلب ذلك مزيدًا من الطائرات لتزويدها بعمليات استطلاع الجو وغيرها من الإجراءات ضد الجماعات الإرهابية في هذه المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، تصدر عدة عوامل تفسيرية متداخلة لتراجع النفوذ الفرنسي في منطقة غرب أفريقيا شملت العدوى الانقلابية، والحركة المعادية والمناهضة للفرنسيين، وصعوبة تحقيق الانتصارات النهائية على الحركات الإرهابية، والصراع العنيف بين الحركات الإرهابية وتشكيل تحالفات جديدة.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/33408/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M