لم تكن للأزمة الحالية بين أوكرانيا وروسيا تداعيات جذرية على الأوضاع العسكرية والسياسية في شرق أوروبا فحسب، بل امتدت هذه التداعيات لتشمل كامل الجسد الأوروبي، وصولًا إلى المؤسسات العسكرية والسياسية في كامل دول القارة العجوز. ألمانيا لم تكن استثناء في هذا الإطار، لكن كان التأثير الأبرز والأكبر لهذه الأزمة في الداخل الألماني مركزًا بشكل أساسي على المؤسسة العسكرية، حيث ازداد وضوح الصورة القاتمة للحالة العامة للجيش الألماني، والتي بدأت في التشكل والظهور خلال حقبة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل.
فقد تسببت تداعيات بدء الهجوم البري الروسي على أوكرانيا في إبراز أوجه القصور الكبير الذي تسرب على مدار السنوات الماضية لكافة مفاصل القوات المسلحة الألمانية، سواء فيما يتعلق بالجاهزية القتالية للوحدات العسكرية الألمانية، أو فيما يخص الموارد المالية واللوجستية المتوفرة لهذه الوحدات. ظهور هذا القصور جاء بعد أن وجد الوسط السياسي الألماني نفسه أمام مساهمة “هزيلة” من جانب برلين في تعزيز دفاعات حلف الناتو في شرق أوروبا، وكذا عدم مقدرة الحكومة الألمانية على تقديم مساعدات عسكرية نوعية وفعالة للجيش الأوكراني.
على هذه الخلفية، يمكن أن نقرأ القرارات الأخيرة التي أصدرها المستشار الألماني أولاف شولتس، التي تجاهلت الرفض الذي شاب مواقف الأحزاب الألمانية المشاركة في الترويكا الحكومية من مسألة رفع النسبة المخصصة للدفاع ضمن الميزانية العامة الألمانية، وتجاوبت هذه القرارات مع مطالبات وزيرة الدفاع الألمانية، وما طالب به أيضًا سابقًا رئيس رابطة الجيش الألماني برفع هذه النسبة إلى 2%، عوضًا عن 1.5% خلال الميزانية الحالية، لدفع عجلة تحديث القوة العسكرية الألمانية، والتي يتوقع أن تشمل الجانب التصنيعي والجانب التسليحي، خاصة فيما يتعلق بالقوة المدرعة والقوة الجوية. وستسهم هذه الزيادة كذلك في تسهيل مهمة الاستدعاء المحتمل لنحو 20 ألف جندي احتياط ألماني خلال المدى المنظور.
تشعبات هذه التداعيات فتحت الباب أمام نقاشات داخلية واسعة في ألمانيا، بشأن ملف القسم المخصص للشؤون الدفاعية في الموازنة الألمانية العامة، وكذا ملفات أخرى منها السياسة الألمانية المتبعة فيما يتعلق بنوعيات الأسلحة والذخائر ألمانية الصنع التي يتم تصديرها أو تقديمها كمساعدات، وكذا ملف واقع الجاهزية الحالية للقوات المسلحة الألمانية، سواء تلك المتعلقة بالأفراد وتدريبهم، او المتعلقة بالحالة العملياتية للأنظمة الهجومية والدفاعية الرئيسية في الجيش الألماني. وهي جميعها ملفات تم طرحها بشكل أو بآخر خلال السنوات الماضية، لكن لم تتوفر في هذه السنوات الإرادة السياسية المطلوبة -أو الدواعي الاستراتيجية أو العسكرية- اللازمة للتجاوب الكافي مع المعضلات التي شابت هذه الملفات.
الخوذ الألمانية … دواعي سخرية كييف
ربما كانت سخرية رئيس بلدية العاصمة الأوكرانية كييف من المساعدات العسكرية الألمانية التي تم تقديمها إلى بلاده قبيل بدء الهجوم الروسي على الأراضي الأوكرانية بمثابة تعبير واضح من جانب قسم كبير من الدول الأوروبية عن “خيبة الأمل” من ضآلة المساهمة الألمانية في الجهود الأوروبية لدعم أوكرانيا في مواجهة موسكو على المستوى العسكري؛ فقد اقتصرت المساهمة الألمانية في هذا الإطار على تقديم خمسة آلاف خوذة قتالية، بجانب معدات خاصة بمستشفى ميداني، تم التبرع بها مع إستونيا.
ضآلة هذه المساعدات أثارت ردود فعل غاضبة في الداخل الأوروبي، بالنظر إلى أن أوكرانيا قدمت إلى برلين أواخر يناير الماضي، قائمة بالمساعدات العسكرية التي تحتاجها، وتتضمن مائة ألف خوذة قتالية، ودروع واقية للأفراد، بجانب صواريخ مضادة للدبابات، ووسائط خاصة بالعمليات البحرية والجوية. يضاف إلى ذلك أن مقارنة هذه المساعدات بما قدمته دول أوروبية أخرى مثل بريطانيا وليتوانيا وإستونيا وبولندا يجعل ما قدمته ألمانيا هامشيًا للغاية بالنسبة لكييف في هذه المرحلة.
بطبيعة الحال كانت أسباب الموقف الألماني هذا تتعلق بشكل أساسي بالسياسة التي كانت تتبعها برلين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فيما يتعلق بمساهماتها العسكرية الخارجية، سواء عبر إرسال الأسلحة أو إرسال القوات، والتي كانت تقتضي عدم الانخراط في أي صراع عسكري خارجي، ولهذا كان من المنطقي أن ترفض ألمانيا حتى إرسال دول اخرى لأسلحة ألمانية الصنع إلى أوكرانيا، مثل رفضها إرسال إستونيا قطعًا مدفعية ألمانية إلى كييف كانت قد اشترتها سابقًا من فنلندا.
هذه السياسة، تعد من أمثلة التناقضات الكبيرة في الاستراتيجية الألمانية بشكل عام، فبرلين التي تعد رابع أكبر مصدر للأسلحة حول العالم، بحجم مبيعات بلغ نحو 9 مليار يورو خلال العام المنصرم، كانت مترددة بشكل واضح في مساعدة كييف على المستوى التسليحي في ظل الظروف الحرجة الحالية، ففي بداية الشهر الماضي قالت وزيرة الدفاع الألمانية، كريستين لامبرخت، إن بلادها ليس لديها أي خطط أخرى لتزويد أوكرانيا بالأسلحة، لكن في نهاية الشهر تراجعت الحكومة الألمانية عن هذا الموقف، وأعلنت أنها سترسل من هولندا وإستونيا نحو ألف مدفع مضاد للدبابات، بجانب 500 صاروخ كتفي مضاد للطائرات من نوع “ستينجر”، بجانب السماح لهولندا بتصدير 400 راجمة صواريخ ألمانية الصنع إلى أوكرانيا، وفك الحظر الذي فرضته ألمانيا على تصدير إستونيا مدفعية الميدان الألمانية الصنع إلى كييف.
العجز العسكري الألماني لم يقتصر فقط على ملف المساعدات العسكرية، بل شمل أيضًا المساهمة الميدانية الألمانية في تعزيز الوحدات العسكرية المشتركة لحلف الناتو في شرق أوروبا، فقد اقتصرت هذه المساهمة قبيل بدء المعارك في أوكرانيا على إرسال ثلاث مقاتلات إلى رومانيا منتصف الشهر الماضي، مع التجهيز لإرسال ثلاثة مقاتلات أخرى بحلول منتصف هذا الشهر، للمشاركة في وحدات الشرطة الجوية التابعة للناتو. هذا يضاف إلى مشاركة محدودة للقوات البرية الألمانية في ليتوانيا، عبر قيادتها الوحدات العسكرية التابعة للناتو فيها، ومشاركتها بنحو 550 جنديًا معززين بعشر مركبات قتالية مدرعة، سينضم إليهم خلال الشهر المقبل 350 جنديًا إضافيًا.
ضآلة المشاركة الألمانية في هذا الإطار كانت سببًا أساسيًا في تنامي الشعور الداخلي في البلاد بوجود مشاكل كبيرة فيما يتعلق بالقدرات التي تمتلكها القوات المسلحة الألمانية، خاصة أن برلين تبحث حاليًا في كيفية تقديم مساهمة أكبر في وحدات حلف الناتو المتمركزة في خط الدفاع الأول أمام روسيا “بحر البلطيق”، لكن هذا يقتضي تقليل الوجود العسكري الألماني في مناطق أخرى، لتوفير الوحدات والمعدات اللازمة لتقديم هذه المساهمة، نظرًا لعدم وجود احتياطي قتالي جاهز على مستوى العدد والعدة.
لهذا لا يتوفر لبرلين هامش مناورة كبيرة في هذا الصدد، حيث تبحث حاليًا نقل سرية مشاة -نحو 140 جنديًا- إلى رومانيا، معززين ببضع ناقلات جند مدرعة، وتبحث وزارة الدفاع الألمانية محاولة سحب فرقاطة ومدمرة لتعزيز الوحدات البحرية للناتو في بحر البلطيق، لتنضما إلى سفينة دورية ألمانية تم إرسالها بالفعل إلى بحر البلطيق. حتى فيما يتعلق بالدفاع الجوي، تحاول ألمانيا بحث مدى امكانية نقل بطارية من نوع “باتريوت” من أراضيها نحو سلوفاكيا، لكن هذا يصطدم بعدة عراقيل من بينها عدم الجاهزية القتالية الكاملة لبطاريات هذا النوع في ألمانيا.
بشكل عام، يمكن القول إن التعديلات الأخيرة في السياسة الألمانية حيال إرسال الأسلحة “الفتاكة” إلى ساحات الصراع العسكري، تعد تغييرًا جذريًا في الذهنية الألمانية المتبعة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لكنها في نفس الوقت ألقت الضوء على ملف الحالة العملياتية للجيش الألماني، وهو ملف تم طرحه مرارًا خلال حقبة المستشارة أنجيلا ميركل، ولكنه تعزز في هذا التوقيت بعد أن اتضح للأوكرانيين أن ألمانيا لم تزودهم بالأسلحة والمنظومات القتالية المطلوبة، بسبب أن الجيش الألماني نفسه يفتقر إلى هذه المنظومات، أو على الأقل يمتلكها ولكنها غير صالحة للاستخدام القتالي.
واقع الجيش الألماني ومدى جاهزيته القتالية في ضوء التطورات الأخيرة
تعددت بشكل لافت خلال العقود الماضية حملات الانتقاد الداخلية لأوضاع الجيش الألماني من حيث الأفراد والمعدات القتالية، وتراوحت هذه الانتقادات بين الحديث عن تواضع المهمات الشخصية التي يتزود بها كل جندي -بما في ذلك تلك المتعلقة بخيام المبيت الميدانية- وبين الحالة الفنية والتشغيلية للوسائط القتالية الرئيسة في هذا الجيش، ناهيك عن بعض القصور الذي انتاب المواقع القيادية الوسطى والصغرى في هذا الجيش، الذي تم تقييد أدواره الخارجية بقيود عدة في مرحلة ما بعد إعادة تشكيله عام 1955.
وظلت هذه القيود سارية رغم أن دور الجيش الألماني في عمليات حلف الناتو تطور بشكل متدرج منذ انسحاب فرنسا من قوة حلف الناتو المشتركة منتصف ستينيات القرن الماضي، واستتبع ذلك مشاركة الوحدات الألمانية في عدة مهمات عسكرية خارجية، شملت أفغانستان وكوسوفو ولبنان والبوسنة. هذه القيود -على المستوى المالي والخططي- حولت المؤسسة العسكرية الألمانية إلى مؤسسة تقليدية، لم تتكيف مع التطورات المتلاحقة على المستوى الدولي، وظلت منهكة بفعل قلة الموارد.
اتضحت صورة الوضع السيئ لتسليح الجيش الألماني بشكل واضح أواخر عام 2014، والمفارقة هنا تتمثل في أن بدء اتضاح هذه الصورة كان مرتبطًا أيضًا بالملف الأوكراني، ففي هذه الفترة، وتحديدًا شهر سبتمبر، نفذ حلف الناتو مناورة واسعة في النرويج، شاركت فيها كتيبة المشاة الميكانيكية ألألمانية رقم 371، بعيد بدء المعارك في إقليم دونباس شرقي أوكرانيا، وقد اتضح من مجريات هذه المناورة، افتقار الكتيبة الألمانية لقسم كبير من أسلحتها الأساسية، حيث دخلت تلك المناورات بدون 30% من رشاشات “إم جي – 3” المتوسطة، وبدون 40% من المسدسات الشخصية لأفراد الكتيبة من نوع “بي-8″، وبدون نحو ثلاثة أرباع أجهزة الرؤية الليلية المزودة بها هذه الكتيبة.
كشف النقاب عن هذه الحادثة تم بعد تلك المناورات بعدة أشهر، بعد أن ظهرت صور تشير إلى أن جنود هذه الكتيبة اضطروا إلى وضع أعواد خشبية مطلية باللون الأسود، على متن ناقلات الجنود المدولبة من نوع “بوكسر”، كبديل عن الرشاشات المتوسطة التي تتسلح بها هذه الناقلات. ناهيك عن ظهور صور أخرى خلال تلك المناورات ومناورات أخرى تلتها يظهر فيها استخدام حافلات غير عسكرية لنقل الجنود، نظرًا لقلة أعداد ناقلات الجنود المدرعة المتوفرة للوحدات الألمانية.
وقد أثارت هذه الحادثة حينها ردود فعل عاصفة في الوسط العسكري الألماني، إلى حد وصف فيه الجنرال هارالد كوجات، رئيس الأركان السابق للقوات المسلحة الألمانية، والرئيس السابق للجنة العسكرية لحلف الناتو، هذا الوضع بأنه “إحراج كبير”، خاصة أنه بعد هذه الحادثة بعدة أشهر اضطرت عناصر إحدى الكتائب التابعة للقوات الخاصة الألمانية “KSK” إلى الانسحاب من إحدى مناورات حلف الناتو، بسبب عدم توفر مروحية نقل عسكرية جاهزة لنقلهم من ألمانيا إلى مقر المناورات.
في نفس العام، وتحديدًا في شهر مارس، اعترفت وزيرة الدفاع الألمانية آنذاك أورسولا فون دير، بوجود عيوب تصنيعية في البندقية الهجومية القياسية في الجيش الألماني “جي-36″، منها ما يتعلق بالسخونة الشديدة أثناء استخدامها، ما يتسبب في تقليص فعاليتها القتالية ومداها المؤثر أثناء الاشتباك. واللافت هنا أن هذا الاعتراف جاء بعد سنوات طويلة من رصد هذا العيب عام 2012. وعلى الرغم من أن وزارة الدفاع الألمانية قامت باستبدال هذه البنادق البالغ عددها نحو 180 ألف بندقية، إلا أن عدم الكشف عن هذا الملف في وقته أثار شكوكًا حول مدى السوء الذي وصل إليه التسليح الألماني.
اتضحت الصورة أكثر خلال عام 2017، حين أصدر المفوض البرلماني للقوات المسلحة الألمانية، هانز بيتر بارتلز، تقريره حول الجاهزية العملياتية للجيش الألماني حتى اواخر عام 2016، ذكر فيه أن قدرة الانتشار السريع للوحدات القتالية الألمانية لم تتحسن خلال السنوات الأخيرة، بل بالعكس ازدادت تدهورًا. تحدث التقرير أيضًا حول عدم جاهزية الغواصات الست التي تمتلكها البحرية الألمانية من الفئة “تايب-212” للإبحار الفوري، وكذا عدم صلاحية طائرات النقل الثقيلة من نوع “‘إيرباص -إيه400” للتشغيل وخضوعها جميعًا لعمليات إصلاح وإعادة تأهيل.
كذلك تناول التقرير حالة الطائرات المقاتلة الرئيسية في سلاح الجو الألماني، وذكر أن 42 من أصل 109 مقاتلة ألمانية من نوع “تايفون” صالحة للإقلاع والاستخدام القتالي، في حين 38 قاذفة فقط من أصل 89 قاذفة من نوع “تورنيدو” تصلح للإقلاع والتشغيل، علمًا بأنه في أكتوبر 2016 اتضح لسلاح الجو الألماني عدم فاعلية هذه القاذفات في تنفيذ مهام الاستطلاع الليلي، خلال مشاركة ست قاذفات ألمانية من هذا النوع في عمليات التحالف الدولي ضد تنظيم داعش في سوريا والعراق انطلاقًا من المطارات التركية.
المثير للدهشة في هذا الإطار، أن الجيش الألماني اكتشف في نفي العام قصورًا شديدًا في عمليات إحلال وتجديد الذخائر الخاصة به، حيث نفدت بعض أنواع الذخائر بشكل كامل، في حين تقلصت الكميات المتوفرة من أنواع أخرى.
تقرير المفوض بارتلز -لعام 2019- حمل صورة أكثر قتامة للوضع التسليحي للجيش الألماني، وتحدث عن استمرار النقص الحاد في المهمات الفردية الأساسية للجنود الألمان، مثل الدروع الواقية وأجهزة الرؤية الليلية، وأجهزة اللاسلكي، بجانب تدهور حالة أسطول طائرات النقل المروحية والقتالية، خاصة مروحيات “تايجر” التي قام سلاح الجو الألماني عام 2018 بإيقاف تشغيل أسطوله من هذا النوع والمقدر بنحو 53 طائرة، بجانب 22 طائرة مضادة للغواصات من نوع “سي لينكس”.
بالإضافة إلى ذلك، تحدث التقرير عن بطء عملية إدخال معدات جديدة إلى الجيش الألماني، فقد كان مقررًا بحلول عام 2019 أن يمتلك الجيش 71 عربة قتالية مدرعة جديدة من نوع “بوما”، لكنه لم يتسلم سوى 27 فقط، فضلًا عن أن الفرقاطات الأربع الجديدة من الفئة “أف-125″، والتي كان من المفترض أن تكون جميعها في الخدمة بحلول عام 2019، لم يدخل منها الخدمة حينها سوى فرقاطة واحدة، في حين دخلت الثلاثة المتبقية الخدمة عامي 2020 و2021، وظلت هذه الفرقاطات رغم دخولها الخدمة محل شك في قدرتها على الوفاء بكامل المهام المنوطة بها.
على ما يبدو فإن هذه الأوضاع استمرت حتى وقتنا الحالي، فقد واجهت القوات الألمانية خلال عملية الانسحاب السريع من أفغانستان العام الماضي، مشاكل كبيرة خاصة فيما يتعلق بتوفير وسائط النقل الجوية، ما دفع برلين إلى استئجار طائرات الشحن من دول أخرى مثل أوكرانيا.
يضاف إلى ذلك ما أظهرته التقارير الألمانية أواخر العام الماضي بشأن تقلص الجاهزية العملياتية للمروحيات الألمانية إلى حدود 40%، وتقلص الجاهزية القتالية لسلاح الجو الألماني بصفة عام إلى 70%، ناهيك عن النقص الحاد في العربات المدرعة والدبابات، إذ ساهمت القيود التمويلية في تخفيض أعداد الدبابات الألمانية على مدار السنوات الماضية، منذ نحو ثلاثة ألاف دبابة مطلع التسعينيات، إلى نحو 300 دبابة فقط، قسم معتبر منها يعاني من مشاكل ميكانيكية، وهذا كله يمكن وضعه في نفس إطار سببي يمكن من خلاله تفسير العجز الألماني عن تزويد أوكرانيا بما تحتاجه من أسلحة ومنظومات.
التمويل العسكري… مشكلة ألمانية مزمنة ترتبط بالماضي
هذا الوضع بشكل عام، أثار ردود فعل علنية غاضبة داخل السلك العسكري الألماني، سواء عبر ما قاله قائد الجيش الألماني “ألفونس ميس” حول أن الجيش الألماني “مكشوف تسليحيًا وغير قادر على تقديم الكثير لحلف الناتو”، أو ما قالته وزيرة الدفاع السابقة “أنغريد كارنباور” بشأن “الفشل التاريخي لألمانيا في ردع الروس”، أو حتى تحذير وزيرة الدفاع الحالية “كريستين لامبرخت” من وصول الجيش الألماني إلى أقصى حدود طاقته الاستيعابية ضمن الحدود المالية المخصصة له.
يمكن بشكل رئيس إيعاز الحالة المتردية للجانبين التسليحي والتدريبي للجيش الألماني، لملف الميزانية الدفاعية المخصصة لتحديث الجيش الألماني، وهو ملف تختلط فيه الاعتبارات الداخلية في ألمانيا، بالعلاقة بين برلين وحلف الناتو. ففي عام 2014، اتفقت ألمانيا ودول حلف الناتو الأخرى على تخصيص ما نسبته 2% من الناتج المحلي لكل دولة للإنفاق الدفاعي بحلول عام 2024، وقد شرعت معظم الدول الرئيسة في أوروبا في هذه الخطة، ووصل عدد كبير منها إلى هذا الحد وأكثر.
لكن ظلت ألمانيا تتباطأ بشكل ملحوظ في تنفيذ هذا الاتفاق، الذي قام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإعادة التأكيد عليه عام 2017، وهو ما ادى إلى توتر في العلاقات بين برلين وواشنطن، تصاعد في العام التالي بإعلان المستشارة الألمانية آنذاك أنجيلا ميركل، عن أن ألمانيا لن تستطيع الوفاء بهذا الاتفاق في المدى المنظور، حيث بلغت نسبة المخصصات الدفاعية في الميزانية الألمانية لعام 2017 نحو 45 مليار دولار، أي ما نسبته 1.2 بالمائة فقط من الدخل القومي لألمانيا.
عجز ألمانيا عن توسيع حجم المخصصات الدفاعية المالية جاء نتيجة للنظرة الداخلية لدور الجيش الألماني سواء النظرة الشعبية أو النظرة الحزبية، حيث تظهر أغلب استطلاعات الرأي في ألمانيا، أن الشعب الألماني يعارض أي انتشار خارجي للجيش الألماني، وهو ما يتوافق مع توجهات بعض الأحزاب الرئيسية في الحياة الحزبية الألمانية، مثل حزب “الاشتراكيين الديموقراطيين”، أحد الشركاء الأساسيين في الائتلاف الحاكم الحالي، حيث يتبنى هذا الحزب توجهات تدعو إلى ابتعاد ألمانيا عن أي نزاعات مسلحة إقليميًا ودوليًا، وهي نفس التوجهات التي يتبناها حزب “الخضر” الذي بدأت بعض الأصوات الداعية لدعم أوكرانيا عسكريًا في الظهور داخله منذ منتصف العام الماضي، دون أن يكون لها تأثير على توجهات الحزب الأساسية.
الخشية من توسيع المخصصات الدفاعية تأتي أيضًا بسبب قناعة الوسط الداخلي في ألمانيا بأن المشكلة لا تكمن في عدم وجود مخصصات مالية كافية، لكن بسبب عدم الاستخدام الأمثل للموارد المالية، وهو التقدير الذي وصلت إلى إحدى الشركات الاستشارية المحاسبية، التي قامت وزيرة الدفاع الحالية أورسولا فون دير عام 2014، بتكليفها التحقيق في عمليات توقيع وإدارة بعض مشاريع التصنيع العسكري في البلاد، حيث أشار تقرير هذه الشركة إلى وجود مشاكل في التعامل مع الموردين وتقدير التكاليف وتحديد مواعيد التسليم في معظم مشاريع تحديث أسلحة الجيش الألماني، خاصة المشاريع المتعلقة بالقوة المدرعة والقوة الجوية.
خلاصة القول، إن ألمانيا -وإن استفاقت متأخرًا- تبدو على أعتاب مرحلة جديدة فيما يتعلق بقوتها العسكرية، وإن كان قرار رفع المخصصات المالية للتحديث الدفاعي، كان فعليًا تحت التنفيذ منذ عام 2017، لكن وجد المستشار شولتس أن الضرورة الحاكمة داخليًا وخارجيًا، تقتضي قيام الترويكا الحكومية بقيادة حزبه -حزب الديمقراطيين الليبراليين- بتسريع عملية زيادة هذه المخصصات إلى حدود 2% من إجمالي الناتج العام الألماني.
السبب الأساسي لاعتبار هذه الخطوة بمثابة تدشين لمرحلة جديدة، أنها تأتي متزامنة مع تعهدات ألمانية مهمة تتعلق بتعزيز وجود القوات الألمانية في شرق أوروبا، وتحديث الطائرات المقاتلة اللازمة للمشاركة القتالية مع الولايات المتحدة، والعمل على بناء جيل جديد من الطائرات المقاتلة والدبابات، بالشراكة مع دول أخرى مثل فرنسا، بجانب تعهد ألمانيا بالعمل على امتلاك أسطول من الطائرات بدون طيار، وهي قضية شائكة في ألمانيا كان الحديث عنها يترافق دومًا مع جدل كبير.
.
رابط المصدر: