استمرار الدعم البريطاني لأوكرانيا بين الالتزام السياسي والعبء الاقتصادي

مي صلاح

 

تأكيدًا على استمرار المملكة المتحدة في دعم أوكرانيا منذ اليوم الأول في حربها مع روسيا، زار رئيس الوزراء “ريشي سوناك” كييف في 19 من الشهر الجاري لأول مرة منذ توليه منصبه الجديد، متعهدًا بتقديم 50 مليون جنيه إسترليني كمساعدات دفاعية، بالإضافة إلى تقديمه عروض لتدريب القوات الأوكرانية، لمعاونة أوكرانيا لإنهاء الحرب والتمتع بالسلام العادل الذي تستحقه، ويأتي ذلك وسط عبء اقتصادي بريطاني يجعل المملكة المتحدة حائرة بين الالتزام أو الانسحاب.

دعم غير مشروط لأوكرانيا.. واستمرار لمسيرة جونسون

بدون ترتيبات للزيارة وبشكل قد يظنه البعض مفاجئًا، توجه سوناك لزيارة كييف، في خطوة تؤكد على تعزيز الدعم الذي تقدمه بريطانيا لأوكرانيا منذ بداية الحرب، واستكمالًا لما بدأه رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون في هذا الملف الذي لطالما كان على قائمة أولوياته، وكذلك يفعل سوناك الآن، خاصة بعد عودته من اجتماع قمة العشرين، الذي كان له فيه دور بارز فيما يتعلق بإنهاء الحرب الروسية على أوكرانيا، حيث دعا خلاله إلى منع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من المشاركة في القمة وإنهاء الحرب فورًا، ولكنه في هذه الزيارة تحديدًا، حرص على تقديم تعهدات مكثفة من أجل تعزيز مكانته لدى الأوكرانيين، والارتقاء من رئاسته للوزراء، والتأكيد على مدى التزام بلاده بدعم أوكرانيا كأولوية قصوى.

وسوف نستعرض أبرز ما تعهد به سوناك وما قدمه خلال هذه الزيارة الاستراتيجية:

  • قام سوناك بتوجيه حزمة مساعدات لمساعدة أوكرانيا في مواجهة الهجمات الجوية الروسية، وشملت هذه المساعدات- البالغة 50 مليون جنيه إسترليني- أي ما يعادل 60 مليون دولار، 125 مدفعًا مضادًا للطائرات، فضلًا عن التكنولوجيا المتقدمة لمواجهة الطائرات بدون طيار المتطورة التي زودت إيران بها القوات الروسية مؤخرًا، هذا بالإضافة إلى عشرات الرادارات وقدرات الحرب الإلكترونية المضادة للطائرات بدون طيار.
  • كذلك تعهد سوناك بأن المملكة المتحدة ستعمل على زيادة عروض التدريب للجيش الأوكراني، وإرسال الخبراء من الأطباء والمهندسين والعسكريين إلى المنطقة لتقديم الدعم اللازم، وحاليًا، تستضيف المملكة المتحدة برنامجًا يهدف إلى تدريب 10 آلاف جندي أوكراني جديد وحالي في غضون 120 يومًا.
  • وتعهد رئيس الوزراء البريطاني بإرسال المزيد من الدعم لأنظمة الدفاع الجوي، وهو بالضبط ما يريد الرئيس الأوكراني زيلينسكي سماعه في وقت دمرت فيه الغارات الجوية الروسية ما يقرب من 50٪ من البنية التحتية للطاقة في البلاد، مما تسبب في انقطاع التيار الكهربائي على نطاق واسع لملايين الأوكرانيين وسط طقس شديد البرودة.
  • ووعد سوناك بعقد مؤتمر لإعادة الإعمار لأوكرانيا العام المقبل في لندن، وهو ما سيكون بشرى سارة للحكومة والشركات الأوكرانية، التي في أمس الحاجة للوصول إلى التمويل الدولي.
  • وأكد كذلك على تقديم 12 مليون جنيه إسترليني لاستجابة برنامج الغذاء العالمي لأوكرانيا، بالإضافة إلى 4 ملايين جنيه إسترليني للمنظمة الدولية للهجرة، حيث إن هذا التمويل سيساعد في توفير مولدات وعيادات صحية متنقلة.
  • بالإضافة إلى تعهد لندن بإرسال عشرات الآلاف من معدات الشتاء لمواجهة الموجة الباردة القادمة للقوات الأوكرانية، سواء كانت ملابس أو أدوات تدفئة ونحوه.
  • وحددت المملكة المتحدة ثمانية مشاريع بناء أولية سيتم دعمها من قبل تمويل الصادرات البريطانية، مما يساعد على إصلاح البنية التحتية الحيوية في أوكرانيا ووضع أسس الانتعاش الاقتصادي.

ومن هنا، نجد أن بريطانيا تعد حاليًا أكبر مزود للمساعدات العسكرية لأوكرانيا بعد الولايات المتحدة، فحتى الآن، التزمت المملكة المتحدة بنحو 2.3 مليار جنيه إسترليني وتعهدت بمطابقة هذا المبلغ في عام 2023.

ومن المثير للاهتمام أن أول مكالمة لسوناك مع زعيم أجنبي بعد توليه منصبه مباشرة كانت مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وذلك لإخباره أن دعم المملكة المتحدة سيظل “قويًا كما كان دائمًا في ظل رئاسته للوزراء”، وربما تأتي هذه الزيارة بالأساس لطمأنة كييف بشأن استمرار الدعم، وعدم تغير الموقف تحت قيادته، خاصة بعد المخاوف التي انتشرت عقب تولي سوناك المنصب بسبب تخفيض الميزانية الدفاعية لبريطانيا واتباع سياسة “التقشف” في أعقاب الوضع الاقتصادي السيئ بالمملكة المتحدة، وتأكيد وزير المالية “جيرمي هينت” أن المساعدات الخارجية لن تنمو إلى 0.7%، بعد أن وصلت إلى 0.5% من الدخل القومي، وبالطبع قد يؤثر هذا الانخفاض على كيفية التصرف في مخصصات الدعم البريطاني لأوكرانيا.

أصداء الزيارة في الداخل البريطاني

بالدعم الكبير لأوكرانيا، يحاول سوناك أن يواصل ما كان محورًا لتركيز أسلافه في المنصب، وهو التأكيد على أن الحرب هي “فرصة لاستنزاف روسيا وإضعافها كمنافس لها”، ولكن على الصعيد الداخلي أيضًا، تمر بريطانيا بواحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخها، ما يجعل هذا الدعم بمثابة عبء كبير، وفي نفس الوقت لا يمكن التخلي عنه، وفي الحقيقة، هذا هو المأزق الحقيقي الذي يقع فيه سوناك حاليًا، بين الالتزام بالتعهدات الخارجية، وحل المشاكل الداخلية، وتحقيق الاستقرار المهم لاستمراره كصانع للسياسة.

يرى البريطانيون أن بلادهم قد خصصت رقمًا فلكيًا لمساعدة أوكرانيا، والذي سيستمر عامًا قادمًا بنفس القيمة تقريبًا، إذ تعتزم لندن تقديم ما يقرب من 2.3 مليار جنيه إسترليني في شكل مساعدات عسكرية لأوكرانيا تتضمن أنظمة دفاع جوي متطورة، ومعدات متقدمة للحرب الإلكترونية، هذا بالإضافة إلى 1.5 مليار جنيه إسترليني من المساعدات الاقتصادية والإنسانية، ولكن ما صدى هذه التكلفة في الداخل البريطاني؟

بلا أدنى شك، يرى البريطانيون أن هذا الجهد الجبار المقدم من حكومة المملكة المتحدة هو عمل صائب يجب القيام به تجاه أوكرانيا، فأوكرانيا –من وجهة نظرهم- كانت وما زالت ضحية اجتياح وحشي وغير شرعي من قبل روسيا، والأوكرانيون يقاتلون لآخر قطرة دماء دفاعًا عن وطنهم بشجاعة، ولهذا يجب على الدول الغربية بالطبع أن تساعد الأوكرانيين، وعلى المملكة المتحدة كواحدة من أغنى الدول في العالم ألا تكتفي بمجرد المساعدة، ولكن عليها أن تلعب دورًا رائدًا في حشد مثل هذا الدعم.

وبالفعل نجحت المملكة المتحدة في إحداث تغيير للأفضل في المنظومة الدفاعية الأوكرانية، بما قدمته من أسلحة متطورة، وتدريب للجنود الأوكرانيين، فقد وصل الأمر إلى عمل القوات الخاصة البريطانية التي يشرف عليها جهاز المخابرات البريطاني “MI6″، في نقاط “قريبة جدًا من الخطوط الأمامية” لمساعدة القوات الأوكرانية على تنفيذ ضربات “في ساحة المعركة العميقة” خلف الخطوط الروسية لإضعاف القيادة والقطارات اللوجيستية ومستودعات الإمداد.

وقد أشاد الجميع بدور بريطانيا في دعم أوكرانيا، ولكن بالنظر إلى تكلفة الحرب التي يريدها الرئيس الأوكراني، والتي قدرها بنحو 5 مليارات دولار شهريًا، فنجد أن ما تقدمه الملكة المتحدة هو بمثابة نقطة في بحر ما هو مطلوب فعليًا لتلبية احتياجات الحكومة الأوكرانية، فالحقيقة تؤكد أن ما قدمته المملكة المتحدة حتى الآن هو مؤشر على “التضامن” مع أوكرانيا، في مقابل زيادة أعباء ميزانية المملكة المتحدة.

وبالطبع، يدور في الأذهان أسئلة تتعلق بأولوية الإنفاق البريطاني، خاصة مع معاناتها مع التضخم الأعلى منذ 41 عامًا، وارتفاع الأسعار وتكلفة المعيشة، وتدهور القطاع الصحي، ومحاولة التعافي من تبعات جائحة كورونا، وأزمات الطاقة مع أعتاب الشتاء، مع انقطاع سلاسل الإمداد، وتراجع ثقة مجتمع الأعمال وزيادة شعور المستثمرين بعدم اليقين، وبالتالي إضعاف أسعار الأصول، وتشديد الأوضاع المالية، هذا بالإضافة إلى محاولات النجاة من التخبط باعتماد سياسة التقشف في جميع القطاعات الحكومية تقريبًا بما فيها قطاع الدفاع.

من المؤكد أن تدور قريبًا أحاديث حول إعادة ترتيب أولويات الإنفاق للصالح البريطاني أولًا، وبناء المرونة الاقتصادية في الداخل، خاصة وأن المبلغ الذي تمنحه بريطانيا لأوكرانيا لا يُذكر أمام ما تقدمه مثلًا الولايات المتحدة، والذي يفوق ما تقدمه الدول الأوروبية مجتمعة عشرات المرات، وبعد كل ذلك، قد يطول أمد الأزمة إلى زمن غير معلوم.

ختامًا، علينا أن نتذكر أنه بالرغم من عدم تورط المملكة المتحدة في مواجهة مباشرة مع روسيا على الأراضي الأوكرانية، إلا أن تداعيات الأزمة ستظل تضرب أرجاء اقتصادها حتى انتهاء الحرب، أو نجاح المحاولات التي تريد أن تدفع كييف للتفاوض، ويبقى السؤال، هل ستواصل لندن دعم أوكرانيا من أجل الثبات على موقفها السياسي، أم تتخلى عن هدفها، وتميل نحو تخفيف الدعم لصالح اقتصادها وتستجيب للضغوطات الداخلية المحتملة؟

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/74130/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M