اسـتهداف التضـخـم: تجارب عربية ودولــــية

في إطار الجهود التي يبذلها صندوق النقد العربي على صعيد الأنشطة البحثية لدعم متخذي القرار في البلدان العربية في الموضوعات ذات الأولوية، أعد الصندوق دراسة حول “اسـتهداف التضـخـم: تجارب عربية ودولــــية”. ألقت الدراسة الضوء على عدد من التجارب الدولية والإقليمية لاستهداف التضخم. كما تطرقت إلى تحديد الأطر المختلفة لتلك الاستراتيجية، والتحديات التي تواجه صانعي السياسات عند تصميمها، ونتائج الدراسات التي اهتمت بقياس كفاءة تلك الاستراتيجية في تحسين الأداء الاقتصادي، وآراء الاقتصاديين المختلفة فيما يتعلق بمزايا وعيوب استراتيجية استهداف التضخم، كما قدمت الدراسة في الجزء الأخير تقييماً عاماً لسياسة استهداف التضخم خلال العقود الثلاث الماضية التي مرت منذ بدء تطبيقها، والانعكاسات على صعيد السياسات استناداً إلى تجارب الدول المتقدمة والنامية في تطبيق هذه السياسة.

أوضحت الدراسة أن استراتيجية استهداف التضخم أو ما يعرف بـ “Inflation Targeting” تُعد واحدةً من أهم التطورات البارزة على صعيد السياسة النقدية منذ عقد التسعينيات من القرن الماضي التي حظت باهتمام واسع من قبل البنوك المركزية على مستوى العالم. تشكل هذه الاستراتيجية التزاماً من قبل السلطات النقدية بتحقيق الاستقرار السعري، وتقليص معدلات التضخم من خلال تبني تحقيق معدلات مستهدفة للتضخم.

يتمثل المغزى من هذه السياسة في تعزيز قدرة السياسة النقدية على دعم مسارات النمو الاقتصادي من خلال المحافظة على الاستقرار السعري. فمن خلال هذه السياسة يتحكم البنك المركزي في مسارات التضخم من خلال استخدام أدوات السياسة النقدية غير المباشرة وعلى رأسها أداة سعر الفائدة للإبقاء على معدلات التضخم ضمن الحدود المستهدفة ذلك استناداً إلى العلاقة العكسية ما بين معدلات التضخم وأسعار الفائدة، وهو ما يقود إلى زيادة مستويات الاستقرار الاقتصادي وفق مؤيدي هذه السياسة.

أشارت الدراسة إلى أن أول تطبيق لإطار الاستهداف الكامل للتضخم (Fully fledged inflation targeting) تم في نيوزيلندا عام 1990، أعقبها تبنيه في كل من كندا وبريطانيا في عامي 1991 و1992. منذ ذلك الوقت تحرص العديد من البنوك المركزية على تطبيقه إلى أن بلغ عدد الدول التي تتبع ذلك الإطار منذ ذلك الوقت وحتى عام 2019 نحو 40 دولة وتتنوع هذه الدول ما بين دول صناعية متقدمة ودول اخرى ناشئة او نامية.

لكن في المقابل تشير بعض الدراسات إلى أن عدد الدول التي لديها هدفاً محدداً لاستهداف التضخم سواءً بشكل كلي أو جزئي يبلغ 67 دولة على مستوى العالم في عام 2018 من بينها 20 دولة تتبني تحقيق مستهدفات منخفضة للتضخم تتراوح ما بين 2 إلى 2.5 في المائة.

تعزو الدراسات الاقتصادية ثلاثة أرباع التطور الاقتصادي الذي اتسمت به حقبة التسعينيات من القرن الماضي المتمثل في تراجع مستويات التضخم، والزيادة في معدلات النمو الاقتصادي العالمي إلى تحسن السياسات النقدية خلال تلك الفترة واتجاه عدد من البنوك المركزية على مستوى العالم إلى تبني استراتيجية استهداف التضخم كمحور أساسي لارتكاز السياسة النقدية، فيما تعزو الربع المتبقي إلى استقرار البيئة الاقتصادية العالمية.

كان من نتاج تلك الاستراتيجية انخفاض معدل التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية أكبر الاقتصادات العالمية من 6 في المائة في بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي إلى 2 في المائة بنهاية عقد التسعينيات، فيما ساعدت تلك الاستراتيجية أيضاً على ارتفاع معدل نمو الاقتصاد الأميركي من أقل من 3 في المائة في بداية التسعينيات إلى ما يفوق 4 في المائة بنهاية ذلك العقد، كما ساعدت على تراجع التقلبات في مستويات الناتج والتضخم بشكل ملحوظ في عدد من الدول المتقدمة بعد اتجاه البنوك المركزية لتطبيق تلك الاستراتيجية.

كذلك توضح دراسات أخرى أن استراتيجية استهداف التضخم ساعدت العديد من الدول الناشئة على تجاوز أزماتها الاقتصادية والمتمثلة في ارتفاع مستويات التضخم لمستويات حادة تفوق 20 في المائـة، وتشير إلى أن ذلك الإطار لم ينجح في خفض التضخم فقط، وإنما نجح أيضاً في تحقيق المزيد من الاستقرار في مستويات التضخم خلال الفترة التي اتبعت فيها الدول النامية هذا الإطار، وأشارت إلى أن استهداف التضخم مكنَّ صانعي السياسات من السيطرة بشكل أفضل على الصدمات التضخمية غير المتوقعة وجعل مداها الزمني أقصر نسبياً مقارنة بالدول التي لم تتبع ذلك الإطار.

لكن في المقابل ذهبت دراسات أخرى إلى أن التحسن الاقتصادي الناتج عن إتباع ذلك الإطار لا يمكن أن يُعزى فقط إلى استراتيجية استهداف التضخم، وإنما يرتبط كذلك بسياسات الإصلاح الاقتصادي الأخرى. إضافة لذلك تشير الدراسات إلى أن استراتيجية استهداف التضخم يمكن ألا تؤتي ثمارها في حالة عدم قدرة البنك المركزي في السيطرة على معدلات الأسعار رغم تبنيه لهذه السياسة، وهو ما قد يقود إلى التأثير على الثقة في السياسة النقدية.

علاوةً على ما سبق، وفي ظل التطورات التي أسفرت عنها الأزمة المالية العالمية التي أكدت أهمية تركيز البنوك المركزية على تحقيق هدف الاستقرار المالي جنباً إلى جنب مع هدف الاستقرار السعري ظهرت الدعوات إلى تبني سياسة ما يعرف باستهداف التضخم المتكامل Integrated Inflation Targeting، وهي سياسة يتم بمقتضاها التنسيق والتكامل ما بين كل من أدوات السياسة النقدية، وأدوات السياسة الاحترازية الكلية (Macroprudential Policy) بشكل يُحقق هدفي الاستقرار السعري والمالي معاً، وإدارة الطلب الكلي بشكل أكثر كفاءة.

تطرقت الدراسة إلى تجارب بعض الدول المتقدمة والنامية في استهداف التضخم وأشارت إلى اتجاه أربع دول عربية ممثلةً في كل من مصر وتونس والجزائر والمغرب إلى تبني سياسة استهداف التضخم بهدف تحقيق الاستقرار السعري وضمان تحرك معدلات التضخم في مستويات داعمة للنمو الاقتصادي، وبينت نجاح سياسة استهداف التضخم في مصر في أعقاب تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي نُفذ خلال الفترة (2016-2019) وساعد على زيادة مستويات مرونة سعر الصرف ومكَّن من تبني سياسات مالية منضبطة.

على ضوء ما تناولته الدراسة تم الخروج ببعض الاستنتاجات والانعكاسات على صعيد السياسات فيما يتعلق بسياسة استهداف التضخم ذلك على النحو التالي:

– يساهم التطبيق الناجح لسياسة استهداف التضخم في السيطرة على التضخم وخفض تكلفة مكافحة التضخم لمستويات لا تضر بدالة الرفاهية المجتمعية، في إطار يسمح في الوقت ذاته بمراقبة التطورات في سعر الصرف، ومعالجة الصدمات المختلفة التي يتعرض لها الاقتصاد وتجاوزها دون رفع مستويات التضخم أو المساس بمستويات استقرار الأسعار.

– يساهم إطار استهداف التضخم في دعم مستويات أداء الاقتصاد الكلي من خلال دوره في تقليل التقلبات في مستويات الناتج والتضخم بشكل ملحوظ، كما يساهم في السيطرة بشكل أفضل على الصدمات التضخمية غير المتوقعة وجعل مداها الزمني أقصر نسبياً.

– يستلزم تبني إطار استهداف التضخم الكامل (Full-Fledged inflation targeting) التزام البنك المركزي صراحة بالوفاء بمعدل تضخم محدد، أو التزامه بتحرك معدل التضخم في حدود معينة خلال فترة زمنية محددة، والإعلان الدوري عن مستهدفات التضخم للجمهور، ووجود ترتيبات مؤسسية لضمان مساءلة البنك المركزي عن تحقيق هذا الهدف.

– تحبذ معظم البلدان استهداف رقم فردي منخفض لمعدل التضخم Single low digit inflation target مثلما هو الحال في عدد من الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، واليابان حيث يتم استهداف معدل للتضخم بحدود اثنين في المائة.

– تركز البنوك المركزية عادة على تحقيق استهداف التضخم في المدى المتوسط -على مدى عامين إلى ثلاثة أعوام- وهو ما يتيح للبنك المركزي القدرة على تبني أدوات تساعده على تحقيق الأهداف الأخرى للسياسة النقدية مع سلطة تقديرية للبنك المركزي للاستجابة للصدمات قصيرة الأجل، بالتالي يصبح البنك المركزي غير مضطر إلى القيام بكل ما يلزم لتحقيق الأهداف على أساس كل فترة على حدة.

– عادة ما يصعب على صانعي السياسات النقدية تحقيق الأهداف المتضمنة باستراتيجية استهداف التضخم في حالة اختيار مدى زمني ضيق لبلوغ تلك الاهداف واختيار نطاق محدود للأهداف التضخميةً. كما تخلق عادة الأهداف التضخمية الضيقة تحديان رئيسيان يتمثلان في صعوبة السيطرة على مستويات التضخم في المدى الزمني المحدد، وعدم استخدام أدوات السياسة النقدية الملائمة في ظل تخوف البنك المركزي من احتمالية عدم إدراك الهدف الموضوع في الوقت المحدد.

بالتالي يكون من الأفضل بالنسبة لصناع السياسات تضمين نموذج استهداف التضخم بعض مسارات الإخفاق المُحتملة في بلوغ الهدف أو ما يعرف بشروط التهرب (Escape clauses) وفقاً لبعض الفرضيات الاقتصادية المتوقعة وغير المتوقعة. علاوة على استهداف “التضخم الأساسي” (Core inflation) عوضاً عن استهداف التضخم الكلي (Headline inflation)، وتوسيع المدى الزمني لنطاق أهداف التضخم، إضافة إلى وضع أهداف تضخمية لعدة سنوات متلاحقة وليس هدف محدد لمرحلة زمنية واحدة.

– يحتاج نجاح سياسة استهداف التضخم إلى وجود أسواق نقدية ومالية متطورة كي يتم من خلالها تمرير توجهات السياسة النقدية إلى القطاع الحقيقي. ويستلزم تبني هذه السياسة تطور أدوات السياسة النقدية وكفاءة قنوات انتقال أثر السياسة النقدية إلى القطاع الحقيقي Monetary policy transmission mechanisms.

– يعزز إطار استهداف التضخم من استقلالية البنك المركزي واستقلالية السياسة النقدية حيث تحقق الدول التي تتمتع بنوكها المركزية باستقلالية أكبر نجاحاً في تطبيق أطر استهداف أهداف التضخم. وفي بعض الأحيان تفرض استراتيجية استهداف التضخم حصول البنك المركزي على استقلالية معلنة في تحقيق الاهداف وتنفيذ السياسات النقدية ذات الصلة.

– يُعمق التنفيذ المتدرج لهذا الإطار من مستويات مصداقية البنك المركزي عن طريق تأكيده على أهمية التواصل الدوري ما بين البنك المركزي والفاعلين الاقتصاديين لتحقيق هدف واحد يهم المجتمع بأكمله وخلق قنوات اتصال فعَّالة وذلك بخلاف النماذج الأخرى للسياسة النقدية التي قد لا تتطلب توافر ذلك القدر من التفاعل بين البنك المركزي والفاعلين الاقتصاديين.

– تواجه أطر استهداف التضخم التي تتعامل مع مستويات مرتفعة للغاية من التضخم الكثير من التحديات بالنسبة صانعي السياسات ويكون من الصعب فيها وضع وإعلان مستويات وأهداف سنوية للتضخم يمكن تحقيقها على ضوء ارتفاع معدلات التضخم المتوقعة، وتراجع مستويات الثقة في السياسات، ذلك بخلاف أطر استهداف التضخم التي تلجأ إليها غالباً الدول التي تتميز بمستويات منخفضة من التضخم بهدف التحول لمستويات أكثر استقراراً للتضخم.

– تستخدم العديد من البنوك المركزية الرقم القياسي لأسعار المستهلكين غير المتضمن لأسعـار المـواد الغذائية والطاقة التي تتأثر سريعاً بصدمات العرض أو ما يُعــرف بالتــضخم الأسـاسـي (Core Inflation)، كأساس لاستهداف التضخم وهو ما يُمكن البنك المركزي من التحديد الدقيق لمكونات التضخم التي يسهل على البنك المركزي التأثير عليها من خلال سياسته النقدية ومن أبرزها مكون التضخم المدفوع بعوامل جذب الطلب (Demand pull inflation).

– تؤثر التغييرات في أسعار الصرف بشكل كبير على أطر استهداف التضخم المتبعة من قبل البنك المركزي خاصة في حالات الاقتصادات الصغيرة نسبياً المفتوحة على العالم الخارجي، فتخفيض سعر الصرف يولد ضغوطاً تضخمية متزايدة على الاقتصاد نتيجة ارتفاع أسعار الواردات وارتفاع أسعار السلع المحلية نتيجة زيادة الطلب على الصادرات، وهو ما يضع المزيد من الأعباء على عاتق صانعي السياسات بالبنك المركزي، وقد يحول دون تنفيذ أطر استهداف التضخم بنجاح إذا لم تتوفر الآليات الملائمة لتخفيف الضغوط على سوق الصرف الأجنبي.

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/economicreports/22229

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M