تسعى تركيا منذ أمد بعيد إلى الاستفادة من التطبيقات السلمية للطاقة الذرية شأنها في هذا شأن الدول التي انتبهت إلى المبادرة الأمريكية التي أطلقت لتسخير الذرة من أجل السلام والتي أعلنها الرئيس الأمريكي “آيزنهاور” في الخمسينيات من القرن الماضي. ولأن العالم ينظر إلى استخدام الطاقة النووية لتوليد الكهرباء على أنه الهدية الثمينة التي تقدمها الذرة للإنسان، فقد سعت معظم دوله إلى امتلاك برامج نووية سلمية من خلال إنشاء محطات لتوليد ما يعرف بالكهرباء النووية.
وليست عملية توليد الكهرباء النووية باليسيرة ولا تقوى دول العالم على إنتاجها إلا إذا توفرت لديها الإرادة والقرار والإدارة، وهي ثلاثية تقتضي الدعم السياسي والمالي معًا. ومتى توفرت تلك الثلاثية، فإن الخطوة الأولى هي إبرام اتفاقات تعاون مع دول متقدمة للحصول على الدعم والمساعدة الفنية لامتلاك التكنولوجيا النووية.
يأتي اتفاق أنقرة النووي مع موسكو في عام 2010 ليرسم خريطة طريق نووية أعلنت تركيا من خلالها أن “أكويو” ستكون المحطة الأولى بها. وقد شمل الاتفاق بناء وتشغيل أربعة مفاعلات بمساعدة شركة “روساتوم” الروسية، وفور اكتمال تشغيلها فإنها ستوفر لتركيا 10% من احتياجاتها من الكهرباء.
وأعلنت أنقرة في 27 أبريل 2023 أنها بصدد استلام الدفعة الأولى من الوقود النووي اللازم لأولى المفاعلات النووية بمحطة “أكويو”، وسط أجواء احتفالية شارك فيها كل من الرئيسين التركي والروسي عبر تقنية الفيديو، بالإضافة إلى حضور مسؤولين من كلا البلدين ومدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
أسباب اختيار “أكويو” لبناء المحطة النووية
لبناء محطة نووية، يستلزم أن تكون قريبة من مصدر للمياه من أجل تبريد المفاعل. وتقع “أكويو” في جنوب تركيا بإقليم مرسين على ساحل البحر الأبيض المتوسط، لذا وقع عليها الاختيار المبدئي، كذلك فإن عملية اختيار الموقع نفسه لإقامة مفاعلات نووية على أرضه لابد أن تتم من خلال مجموعة من الدراسات الفنية والاختبارات للوقوف على مدى صلاحيته من الناحية الجيولوجية والزلزالية وغيرها، ويتم منح الأذون والتراخيص وإجراء الدراسات واستيفاء المتطلبات اللازمة من خلال هيئة الرقابة النووية وهيئة الطاقة الذرية التركية (TAEK).
ونظرًا لأن محطة “أكويو” قد وقع عليها الاختيار، فتشير التقديرات التركية إلى أنها الأنسب لبناء المحطة النووية الأولى. وعلى الرغم من ذلك، يوجد الكثير من الانتقادات التي توجه إلى هذا الموقع من خلال الدفع بأن المنطقة التي يقع فيها هي منطقة زلازل، والموقع نفسه لم يحظ بالاختبارات الفنية الكافية. يبين شكل (1) خريطة دولة تركيا وموضح عليها موقع محطة “أكويو” للطاقة النووية على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
مفاعلات محطة “أكويو” النووية
يتم تنفيذ أربعة مفاعلات من طراز (VVER-1200) بمحطة “أكويو” وهي مفاعلات روسية من نوع مفاعلات الجيل الثالث المطور والتي تمتاز بمعاملات أمان نووي عالية، وتبلغ قدرة كل وحدة من الوحدات الأربعة حوالي 1200 ميجاوات بإجمالي 4800 ميجاوات للمحطة بأكملها. وقد أبلغت تركيا نظام معلومات مفاعلات القوى النووية (PRIS) التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية عن بدء تشييد أول محطة للطاقة النووية لديها وصب أول خرسانة للوحدة الأولى من محطة الطاقة النووية في “أكويو” في 3 أبريل عام 2018، بعد الحصول على رخصة البناء من قبل الجهة الرقابية، وهيئة الطاقة الذرية التركية.
وأعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 5 أبريل 2018 أن تركيا هي الدولة الرابعة في السنوات الأخيرة التي بدأت في بناء أول محطة للطاقة النووية، بعد: الإمارات العربية المتحدة في عام 2012، وبيلاروسيا في عام 2013، وبنجلاديش في عام 2017. وتشير المعلومات إلى أنه قد تم العمل في الصبة الخرسانية الأولى للوحدة الثالثة في 10 مارس 2021، في حين تم وضع حجر الأساس للوحدة الرابعة في 21 يوليو 2022.
وتشير الجداول الزمنية إلى أن أول مفاعلات المشروع قد بدأ تشغيله العام الجاري، وسيتم تشغيل المفاعلات اللاحقة تباعًا بفاصل زمني مدته عام حتى نصل لعام 2026. وتبين التصريحات الرسمية أن أول إنتاج للكهرباء النووية التركية سيكون في عام 2024 والمشروع بكامل طاقته سيدخل الخدمة بحلول عام 2028.
أسباب لجوء تركيا إلى الخيار النووي
تجدر الإشارة إلى أن المشروع النووي التركي قد استلهم بدايته الحقيقية منذ فترة السبعينيات، إلا أنه قد واجهه العديد من العقبات التي وقفت حجر عثرة في طريقه لأسباب مختلفة بعضها سياسي والبعض الآخر اقتصادي، فضلًا عن أسباب تتعلق بالمعارضة النووية الداخلية التي تمثلت في غياب التقبل الجماهيري له، بالإضافة إلى معارضة خارجية نتيجة قلق ومخاوف من بعض الدول المحيطة إما تحسبًا من وقوع تشيرنوبل جديدة في منطقة البحر المتوسط أو تخوفًا من طموح تركي قد يحمل اتجاهًا غير سلمي.
ولكن ترمي أنقرة من خلال رؤيتها النووية بألا تكتفي بمحطة “أكويو” فقط؛ إذ تبين المعلومات أن هناك موقعين آخرين بخلاف موقع “أكويو” قد وقع عليهما الاختيار لبناء محطات نووية تركية في المستقبل. الموقع الأول هو موقع “سينوب” على البحر الأسود وتعتزم تركيا أن تبني محطتها الثانية فيه من خلال تعاون يرجح أن يكون فرانكو-ياباني، والموقع الثاني هو “إجنيدا” ويتوقع أن يتم فيه بناء محطة نووية بمساعدة صينية. وقد تلقت تركيا في وقت سابق من عام 2023 عروضًا من كوريا الجنوبية ببناء أربعة مفاعلات على أراضيها.
ويرجع ذلك إلى أن أنقرة تنظر إلى الطاقة النووية على أنها طاقة نظيفة ستدعم جهودها للوصول إلى الحياد الكربوني الذي يرمي العالم إلى تحقيقه للحفاظ على كوكب الأرض، وترى أن توليد الكهرباء النووية هو مشروع له العديد من الآثار والثمار ليس فقط البيئية ولكن أيضًا الاقتصادية.
وجاء خطاب الرئيس التركي في الاحتفالية الخاصة باستلام الدفعة الأولى من الوقود النووي للوحدة الأولى ليؤكد على أن المشروع النووي التركي سيوفر 1.5مليار دولار سنويًا من وارادات الغاز، وسينتج كهرباء مقدارها 35 مليار كيلووات/ساعة سنويًا عقب الانتهاء منه ودخول المحطة الخدمة بشكل كامل.
ختامًا، طبقًا للمتعارف عليه دوليًا، بمجرد استلام تركيا للدفعة الأولى من الوقود النووي فإنها بذلك تكون قد اكتسبت صفة الدولة النووية، وقد مثلت هذه الخطوة نوعًا من الدعاية والتسويق السياسي للرئيس التركي خاصة في ظل أجواء انتخابية من المزمع إجراؤها الشهر الجاري. ولكن تحمل هذه الخطوة تقدمًا في الداخل التركي يشوبه بعض التخوفات جراء الاعتماد على روسيا كمصدر للطاقة من خلال استيراد الغاز الطبيعي في الوقت الحالي ونوويًا لمدة 60 عامًا على الأقل مما قد يضع قيودًا تتعلق بحرية قرار أنقرة في المستقبل إلا أن بعض وجهات النظر تقلل من تلك المخاوف خاصة وأن تركيا ستحقق الكثير من المكاسب البيئية والاقتصادية من خلال تعظيم الاستفادة من الطاقة النووية عن طريق استخدامها لتأمين احتياجاتها من الكهرباء، فضلًا على أن “أكويو” لن تكون سوى أولى خطواتها النووية والتي سيعقبها محطات أخرى –لم يحسم أمرها بعد- بشراكات دولية متنوعة.
.
رابط المصدر: