اقتصاد العراق في مواجهة أزمة المورد النفطي

د. احمد ابريهي علي

 

تعرض المقالة أبرز ملامح الاقتصاد الكلي للعراق وقليل من التفصيل، بمنتهى التبسيط والاختصار، إستنادا الى أحدث البيانات المتاحة من الجهات الرسمية. وهي لا تغني، بالطبع، عن الدراسات المستفيضة والمتخصصة والمنشورة في محلها، وهذه مقدمة لمقترحات، تأتي لاحقا، تتناول تنظيم الاقتصاد الوطني وإدارة القطاع العام. إذ لا بد أن تنطلق تلك المقترحات وغيرها والحوار حولها من حقائق صلبة عن مجرى الوقائع، كي لا تتجاوز نطاق التقدير الموضوعي للإمكانية. وقد تضمّن المتن تعريف بعض المفردات الأولية لتوسيع المشاركة وتحاشي الالتباس.

ملامح بارزة في الإنتاج ومصادر الدخل والاستثمار:

يقدر الناتج المحلي الإجمالي، 255 ترليون دينار بالأسعار الجارية عام 2018، والسكان لنفس السنة 38.3 مليون نسمة، ليبلغ المتوسط للفرد 5667 دولار بموجب اسعار الصرف الاعتيادية، ويعادل 9.3% من نظيره للولايات المتحدة الأمريكية و51.6% من المتوسط العالمي؛ والدخل القومي 245 ترليون دينار ومتوسطه للفرد 5445 دولار. والعراق ضمن مجموعة الدول النامية متوسطة الدخل في الطرف الأدنى للشريحة العليا من هذه المجموعة، التي تصنف دولها في فئتين بمعيار متوسط إجمالي الناتج القومي للفرد بالدولار الأمريكي الجاري: الدنيا بين 1006 و3955 والعليا بين 3956 و12235؛ والإجمالي يتضمن الاندثار أينما ورد، والفرق بين القومي والمحلي صافي عوائد عوامل الإنتاج من وإلى الخارج.

وأسهمت القطاعات من غير النفط الخام بتوليد 54.33% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2018 بضمنها 4.53% منه للزراعة والتعدين غير النفطي والصناعة التحويلية. وعند النظر في مكونات الناتج غير النفطي فالقطاعات الثلاثة، آنفا، لها 8.34%، والتشييد والكهرباء والماء 12.92%؛ وبقية الأنشطة، اي قطاع الخدمات بالتعريف الواسع، 78.74%. وللقطاع العام، تقريبا، 39% من الناتج غير النفطي والباقي للقطاع الخاص 61%.

ويتبين بوضوح ان النشاط الاقتصادي خارج النفط الخام خدمي بصفة عامة. ويفتقر إقتصاد العراق على نحو إستثنائي لأساس إنتاجي زراعي وصناعي، لأن 91.66% من الناتج غير النفطي في البناء والتشييد والكهرباء والماء والأنشطة غير السلعية. ويلاحظ تقلص نسبي سريع في الزراعة والصناعة التحويلية إذ كان ناتج القطاعين يعادل 27.8% من ناتج الخدمات بالتعريف الواسع عام 2005 أصبح 9.3% عام 2018. وتستحوذ الخدمات على حوالي 60% من القوى العاملة عام 2019، و18% في الزراعة و22% في بقية القطاعات وهي: التعدين والاستخراج، بما في ذلك النفط والغاز، والصناعة التحويلية والتشييد والبناء والكهرباء والماء.

ومن مقارنة حصة الخدمات في الناتج مع حصتها في القوى العاملة يظهر أن متوسط القيمة المضافة للعامل في الخدمات أعلى منها لبقية القطاعات عدا النفط الخام وفي الزراعة بالغة الانخفاض. وان سعة التفاوت بين الأنشطة في إنتاجية العمل، او القيمة المضافة للعامل، من سمات التخلف إذ تتقارب إنتاجيات العمل مع التطور أكثر فأكثر. ويكرّس هذا النمط من الحركة، التزايد السريع في هيمنة الخدمات وتراجع السلع، الخاصية الريعية والتي وصلت ذروتها في العراق إذا ما إضيفت الى الصورة ابعادها الأخرى المهمة: هيمنة النفط على توليد الدخل ودورته في الاقتصاد الوطني وتمويل الإنفاق الحكومي وموارد العملة الأجنبية.

وإزدادت كمية النفط المُنتج بنسبة 3.8% في الفصل الثالث عام 2019 مقارنة مع نفس الفصل من عام 2018 لكن القيمة المضافة النفطية قد انخفضت تبعا لتغير أسعار النفط، وقد تراجعت الكمية المصدرة حسب بيانات وزارة التخطيط. وارتفع الناتج من غير النفط الخام بنسبة 4.1% بالأسعار الجارية.

ومن أخطر نتائج التعثر التنموي، أو تأجيل المهمة الكبرى للنهوض الاقتصادي، التخلف الشنيع للصناعة التحويلية حيث متوسط القيمة المضافة للفرد من السكان في هذا القطاع 108 دولار. وهي إستثنائية في ضآلتها مقارنة بمجموعة الدول التي ينتمي اليها العراق حيث المتوسط للفرد 1923 دولار؛ وفي المانيا 9097 دولار للفرد، وفي كوريا الجنوبية 8218 دولار للفرد.

وفي المجموعة الدولية التي تضم العراق تسهم الصناعة التحويلية بما يقارب 70% من صادرات السلع عام 2018، وكذلك في الدول عالية الدخل، و86% في الدول النامية لشرق آسيا والمحيط الهادي. فكيف يستطيع العراق التحرر من تقلبات اسعار النفط في مورد العملة الأجنبية مع هذا التخلف الصناعي. ولا تخفى على ذوي الاطلاع حقيقة التلازم المحكم بين التصنيع والتحولات الاقتصادية العميقة في مسار الانتقال نحو عتبة الدول المتطورة.

كانت معدلات التضخم منخفضة: وهي على التوالي 0.1%، 0.2%، 0.4%، و0.2% للسنوات 2016-2019، أي أقل من نصف الواحد بالمائة، وهي أوطأ معدلات تضخم في العالم. ويفسّر هذا الجمود في حركة الأسعار بتدني الطلب الكلي دون المستوى الكافي لتشغيل الطاقات الإنتاجية. وفي عام 2020، بعد صدمة كورونا، ينخفض الطلب الكلي أكثر ويتراجع مستوى النشاط الاقتصادي، دون ما كان عليه عام 2019، لانخفاض الإنفاق الحكومي ارتباطا بأزمة المورد النفطي. ومن المعروف ان الإنفاق الحكومي، وعلى الأخص في العراق، هو العامل الرئيس في تحديد الطلب الكلي وبالتالي حجم النشاط الاقتصادي وهذا الدور، للإنفاق الحكومي بمنتهى الأهمية، إضافة على إدامة الخدمات العامة وتطوير البنى التحتية بالاستثمار. وتعني معدلات التضخم الواطئة تلك، من جهة اخرى، استقرار القوة الشرائية للدينار العراقي وجدارته العالية لحفظ قيمة الثروة مقارنة بالأغلبية الساحقة من العملات في العالم.

تعويضات المشتغلين في القطاع العام 43.8 ترليون دينار منها، تقريبا، 1.9 في النفط الخام و41.9 ترليون دينار في القطاع العام غير النفطي بنسبة 76.2% من ناتجه المحلي. وأغلب تعويضات المشتغلين في القطاع العام تدفع من الموازنة العامة. ومن تجارب عينة كبيرة من دول العالم تنخفض نسبة تعويضات المشتغلين من مجموع الإنفاق الحكومي التشغيلي لكنها في العراق ترتفع، وهذا الاتجاه من نتائج الانحسار النسبي للإنتاج السلعي الذي اوضحته البيانات آنفا.

أما تعويضات المشتغلين في القطاع الخاص فتقدر بنحو 26.1 ترليون دينار بنسية 30.7% من ناتجه المحلي. ويتضح من تلك العلاقات تآكل الوظيفة الإنتاجية للقطاع العام الى جانب غلبة الإنتاج الفردي والعمالة غير الأجرية في القطاع الخاص.

أظهرت التقديرات المنشورة ان راس المال، العيني، على المستوى الوطني دون المتوقع قياسا على التناسب المألوف بين الناتج وراس المال. وقد تفسر هذه الصفة بغلبة الإنتاج الخدمي كما تقدم اي الأنشطة خفيفة راس المال. ومع هذه تلزم الإشارة الى التكاليف المرتفعة للتكوين الرأسمالي في القطاع العام لتدني كفاءة إدارة الاستثمار وهشاشة الرقابة وأسباب أخرى.

وتُلاحَظ في القطاع الخاص ضآلة تراكم رأس المال بصفة عامة وخاصة في ميادين الإنتاج السلعي، إذ يتجه الى السكن والتجارة وسياحة ومطاعم… وسواها من الأنشطة الثانوية والهامشية. ولم ينتفع من وفرة العملة الاجنبية والمعدلات المنخفضة للضريبة أو حتى إنعدامها على نحو نادر في دول العالم.

وبقي الاستثمار الأجنبي خارج قطاع النفط، على قلّته، في الأنشطة الثانوية وترد عليه الكثير من الملاحظات من جهة الوظيفة التنموية. والاستثمار الأجنبي في تعريفه الواسع يشمل ليس فقط الاستثمار المباشر بل جميع التدفقات من غير العمليات الجارية لميزان المدفوعات؛ ومثلما يستقبل البلد تدفقات من الخارج ثمة أخرى خارجة، فما هي المحصلة، الجواب معروف من متطابقات الحساب الاقتصادي الكلي وهو: صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي تساوي بالضبط، دائما وأبدا، عجز، او فائض، الحساب الجاري. فعندما يعمل الاقتصاد مع فائض في العمليات الخارجية الجارية، اي ان صادرات السلع والخدمات وتحويلات الدخل من الخارج أكبر من الاستيرادات ومدفوعات الدخل للخارج، يكون الاستثمار الأجنبي الخارج أكبر من الداخل أي ان الحصيلة سالبة والعكس صحيح. وهكذا نستدل على ان الاستثمار الأجنبي يبقى ثانويا وبالمتوسط العالمي، الداخل هو الخارج، لا يتعدى نطاق 3% من الناتج المحلي او نحو ذلك. ولا يمكن تصور ان العراق يستطيع المنافسة على إجتذاب الاستثمار الأجنبي على نحو متميز حتى لو تمثل في جهازه الحكومي وقطاعه الخاص جميع المعايير التي ينشرها البنك الدولي ومؤسسات أخرى.

ومما يؤسف له ان التطلع نحو الاستثمار الأجنبي في أغلب الدول النامية قوامه حكايات ومقالات صحفية أكثر من إرتكازه على معرفة منهجية تساعد على تصور موضوعي لاقتصاد العالم.

بدأ تكوين رأس المال الثابت، الإضافة السنوية من الأصول الثابتة في البنى التحتية والطاقات الإنتاجية، من مستويات بالغة الانخفاض مطلع القرن الحالي على خلفية الحصار. ويقدر بالمتوسط السنوي نسبة الى الناتج المحلي الإجمالي 17.3% للسنوات 2005-2018، وفي السنة الأخيرة 12.9%، وأعلاها في السنوات 2013-2016، ولا نجزم بدقة هذه البيانات لكنها قريبة من الواقع. في العالم لنفس السنوات متوسط تلك النسبة 23.8%؛ وفي الدول متوسطة الدخل 28.3%؛ وفي كوريا الجنوبية والصين 30.3% و43% على التوالي.

ومنها يستنتج كم ان الاقتصاد العراقي بحاجة ماسة الى جهد استثماري أعلى، بتكاليف أدنى، بمضمون رفع معدلات مراكمة الأصول العينية لتطوير البنى التحتية والطاقات الإنتاجية بوتيرة أسرع. فالعبرة ليست بالإنفاق بل بما يُشيّد حقيقة على الأرض والكفاءة. ويُنتَظر من القطاع العام الإضطلاع بالدور الرئيسي في الاستثمار لأنه يشكل ثلثي الاقتصاد الوطني بدلالة الناتج، ويستحوذ على أكثر من ذلك في القدرات الإدارية والتنظيمية والتقنية والخبرة في الاتصالات الدولية التي تتطلبها عمليات الاستثمار المعقدة.

المالية العامة وقطاع المال:

للسنوات 2011-2018 بلغت إيرادات الموازنة العامة ذروتها عام 2012 بحوالي 120 ترليون دينار؛ أما النفقات فقد وصلت اعلى مستوياتها عام 2014 في نطاق 125 ترليون دينار. وفي عام 2016 أوطأ الإيرادات والنفقات 54 ترليون دينار و74 ترليون دينار على التوالي. وأعلى إيرادات من غير النفط الخام 12 ترليون دينار تقريبا عام 2017.. لكن تلك البيانات تقديرية أيضا في بعض مكوناتها. وتذبذب الإيرادات واضح ومتوقع طالما النفط هو المصدر الرئيس للتمويل وإيراداته يتحكم بها السعر في سوقه الدولية. كما ان ربط الإنفاق الحكومي ميكانيكيا بالإيرادات يعني الارتباك الدائم وعدم إنتظام الطلب والتشغيل. ويدل الحجم المحدود للإيرادات غير النفطية أن توسع الاقتصاد غير النفطي لا يقدم حلاّ لمعضلة تمويل الإنفاق العام ما لم تتغير بنية الاقتصاد حسب الأنشطة وتنظيمه، مع توجه مختلف في فلسفة وإدارة تطوير الإيرادات العامة.

رصيد الدين الداخلي على الحكومة 41.8 ترليون دينار عام 2018 بزيادة 32.3 ترليون دينار عن عام 2014 وهو منخفض نسبة الى الناتج المحلي مقارنة بمجموعة الدول متوسطة الدخل. أما الدين الخارجي فقد إزداد رصيده بمقدار 9.4 مليار دولار عام 2018 عن مستوى عام 2014 وفي هذه السنة كان أدنى منه لعام 2011 والحصيلة زيادته بمقدار 5.4 مليار دولار عما كان عليه عام 2011، بيانات وزارة التخطيط. وتوضح هذه المؤشرات أن الاقتصاد العراقي لا يمكن ان يوصف بثقل المديونية؛ ولم يسفر تعاون العراق مع المؤسسات المالية الدولية، والأمم المتحدة، وكثافة إتصالاته الخارجية عن إقراض سخي. وفي نفس الوقت لا يبدو ان الدول المتقدمة والغنية تريد مشاركة جادة في إعادة الأعمار أو تدفق إستثمارات أجنبية ذات تأثير واضح. ومن الضروري إعادة تقييم تجربة العراق في هذا المجال قبل التطلع نحو دعم خارجي في أزمته الحالية.

وازدادت ودائع القطاع الخاص في المصارف من حوالي 25 الى 30 ترليون دينار وهي منخفضة نسبة الى حجم الاقتصاد العراقي بالمقارنة الدولية. وحجم الائتمان 41 ترليون دينار أكبر من الودائع لكنه دون الحجم المناسب للناتج المحلي. مجموع رؤوس اموال الشركات المساهمة لم يزل واطئا وهذه الصفة من نتائج التخلف التنظيمي للقطاع الخاص، وأغلب الأسهم المتداولة في السوق للمصارف. وقد تزايدت رؤوس أموال المصارف من 4 ترليون دينار تقريبا عام 2011 الى 15 ترليون دينار عام 2018 وتُلاحَظ العطالة النسبية في رؤوس أموالها لعدم كفاية الودائع، وبالتالي الائتمان، لتشغيلها.

إجمالي الموجودات الأجنبية للبنك المركزي، ذهب وعملة أجنبية وإستثمارات في الخارج، حوالي 66.6 مليار دولار، بيانات البنك المركزي آذار 2020. وفي نوفمبر، تشرين الثاني، 2019 بلغ الأساس النقدي، ودائع المصارف في البنك المركزي والعملة المصدرة، 77.2 ترليون دينار، علما ان العملة المصدرة هي العملة في التداول خارج المصارف إضافة على المقدار الذي تحتفظ به المصارف لطلبات زبائنها؛ والنقود بالتعريف الضيق، العملة في التداول والودائع الجارية، 86.5 ترليون دينار؛ والنقود بالتعريف الواسع 102.9 ترليون دينار.

وفي نهاية عام 2018 كانت النقود بالتعريف الضيق 77.83 ترليون دينار منها 40.5 ترليون دينار عملة في التداول، خارج المصارف، والباقي ودائع جارية؛ وعند َإضافة الودائع الأخرى 17.6 ترليون دينار تكون النقود بالتعريف الواسع 95.4 ترليون دينار، وهي ليست كبيرة، وتسمّى نسبتها الى الناتج المحلي العمق المالي. ومع تزايد الودائع بالتفاعل مع الائتمان تتكاثر النقود بأسرع من نمو الناتج، ليصبح اقتصاد العراق أعمق ماليا. وتقترن زيادة العمق المالي مع ارتفاع نسبة الأسهم وسندات الدين الى الناتج، وكلما كان الاقتصاد أعمق ماليا يصبح أكثر تحملا للدين الحكومي.

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/23316

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M