الأدوات الدسـتـوريـة لتعزيز التحول الديمقراطي

 شريف البوشي

مضمون الديمقراطية أن تحصل السلطة على قبول ورضا شعبي تجعله الناطق باسم الإرادة العامة لمدة معينة، ليعود الحق في السيادة بعدها لأصحابه للتصرف فيه مـن جديد، إما بإبقائه لنفس السلطة أو تنحيتها واستبدالها بسلطة أخري، وهو ما يحتاج إلى آلية دستورية فعالة تضمن التداول السلمي للسلطة، وبما لا يسمح بتدوير السلطة أو توريثها، وفي هذا الخصوص يكاد يُجمع الفقه الدستوري على اعتبار نظام الانتخاب العام والمباشر الآلية الأكثر والأصدق تعبيراً عن الإرادة العامة وتحقيق التداول السلمي للسلطة، وما يستتبع ذلك من حق تكوين الأحزاب السياسية وحرية الانضمام إليها مما يمكن من مشاركة سياسية وفعالة تفرز ديمقراطية شعبية حقيقية، إذ تتحول من خلاله أحزاب المعارضة اليوم إلى أحزاب حاكمة.

فمعيار الديمقراطية الحقة أن توفر الآليات التي تسمح بترسيخها من أجل تكريس المشروعية، ولأن هذه الآليات متعددة وقد تكون متجددة فإننا سنتناول الدور الهام والجوهري الذي تقوم به بعض هذه الآليات مثل حق تكوين الأحزاب السياسية كأحد الأدوات الدستورية لتحقيق المشروعية وحرية الانضمام إليها ومما يترتب على ذلك من التداول السلمي للسلطة، وضرورة المشاركة السياسية الفعالة سواء من خلال حق الترشح أو الانتخاب سواء لرئاسة الدولة أو للمجالس الشعبية أو المحلية، وضرورة تحديد مدة محددة لكل سلطة سواء كانت السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية، وأهمية وجود رقابة شعبية حقيقية على أداء هذه السلطات، وما يترتب على ممارسة هذا الحق – الرقابة الشعبية – من حق عزل من يتولى السلطة ولا يقوم بحقها سواء كان رئيس الدولة أو عضو في المجالس النيابية، فهم ما تبوأوا مناصبهم إلَّا بإرادة الشعب من أجل تحقيق آمالهم وطموحاتهم، وما من شك أن تحقيق المشروعية تأتي على رأس هذه الأماني والطموحات بما تحتويه من قيم سامية حضارية كالحرية والعدل والمساواة.

وعلي الرغم من أن الفقهاء يضعوا بعض هذه الآليات باعتبارها آليات تطبق في ظل الديمقراطية النيابية والبعض الآخر من هذه الآليات تطبق في ظل الديمقراطية شبه المباشرة إلَّا أن ما يعنينا في هذه الدراسة هو ترسيخ هذه الآليات من أجل الوصول إلى مشروعية دستورية حقيقية ينعم بظلالها كل الشعب، خاصة إذا كانت هذه الشعوب عاشت عقودا من الظلم والاستبداد ولم تنعم خلالها بحقيقة المشروعية.

ويعضد رأينا أن بعض الدساتير التي تتبنى الديمقراطية النيابية تنص دساتيرها على بعض الآليات التي يعتبرها الفقهاء من آليات الديمقراطية شبه المباشرة في حين أن الدستور ذاته يقوم على فكرة الديمقراطية النيابية ومثال ذلك إعمال آلية الاستفتاء الشعبي، فعلي الرغم من أنه يعتبر من أدوات الديمقراطية شبه المباشرة والتي تتمثل في مشاركة الشعب مباشرة في سلطة الحكم نجد أن الدستور ذاته يغفل عن بعض الآليات المعتبرة في نظام الديمقراطية شبه المباشرة مثل حق الاقتراح الشعبي والاعتراض الشعبي.

لذلك فإننا عندما نشير إلى هذه الآليات كضوابط لشرعية الدستور فإننا نعتقد أنه لا يوجد أي غضاضة في المزج بين هذه الآليات المتعددة سواء كانت من نظام الديمقراطية النيابية أو نظام الديمقراطية شبه المباشرة إذ الأهم هو مدى قدرة الدستور على تلبية طموحات وأماني الشعوب

المبحث الأول: حق تكوين الأحزاب السياسية وحرية الانضمام إليها

يعرف الحزب السياسي بأنه: “جماعة منظمة من الأفراد تتجمع اختياريا وبإرادتهم المنفردة لتحقيق أهداف مشتركة يؤمنون بصحتها وصدقها، من خلال جهودهم المشتركة أو عن طريق السلطة التي يسعون إلى الوصول إليها أو الاشتراك فيها، بهدف الوصول إلى السلطة سلميا أو التأثير فيها”، فمن هذا التعريف تعد الأحزاب السياسية هي إحدى الوسائل التي يعبر بها الشعب عن حقه في المشاركة في الحكم، وهي أداة للحكم أو المعارضة وفقاً لما تملكه من أكثرية أو أقلية، وهي بذلك تساهم في صنع إرادة الشعب، وتعد ركيزة أساسية تقوم عليها النظم الديمقراطية، الأفراد لا يستطيعون بمفردهم تحقيق أهدافهم السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية إلا بتنسيق جهودهم والوحدة والتضامن بينهم، ولا يمكن لهذا التضامن أن يصبح فعالاً إلا إذا نظم وتوحدت الجهود في إطار حزب سياسي منظم[1].

ولهذا الدور الهام الذي يقوم به الحزب السياسي في إرساء مبادئ الديمقراطية ولهذه الوظائف العديدة التي يؤديها نجد أن دساتير العالم الديمقراطي تنص صراحة على حرية تكوين الأحزاب السياسية وحرية الانضمام إليها.

ونظراً للدور الهام الذي تقوم به الأحزاب السياسية والتعددية السياسية في إرساء الديمقراطية فإن بعض الأنظمة – وعلى الرغم من أن دساتيرها تنص على حق تأسيس الأحزاب السياسية وحرية الانضمام إليها – تضيق ذرعاً من ممارسة الشعوب لهذا الحق فتعمل على تفريغ النص على التعددية من مضمونه بحيث يجعل من التعددية أمراً صورياً وذلك عن طريق تضمين القوانين المنظمة لإنشاء الأحزاب عدداً من الشروط التعسفية التي تحول بين بعض المواطنين وممارسة هذا الحق[2].

أيضاً إذا أحال الدستور تنظيم حق إنشاء الأحزاب السياسية إلى التشريع، فإنه يجب عند صدور التشريعات المنظمة لهذا الحق ألا تهدر هذا الحق، وإنما يجب أن يقف هذا التدخل التشريعي – بناءً على هذا التفويض – عند حد التنظيم الذي ينبغي ألا يتضمن نقضاً للحرية الحزبية أو انتقاصاً منها، وأن يلتزم بالحدود والضوابط التي نص عليها الدستور، فإن جاوزه إلى حد إهدار الحرية ذاتها أو النيل منها أو خرج على القواعد والضوابط التي نص عليها الدستور، وقع القانون – فيما تجاوز فيه دائرة التنظيم – مخالفاً للدستور.

الأحزاب السياسية آلية لتكريس الديمقراطية:

إذا كانت الأحزاب تؤدي وظيفتها بطريقة جيدة وفاعلية وليست تعددية شكلية في تعمل على تكريس الديمقراطية وذلك من خلال:

  • المشاركة السياسية التي تهدف إلى التأثير في اختيار الحكام والأعمال التي يؤدونها، والتأثير في القرارات الحكومية.
  • تعمل الأحزاب السياسية على تعزيز دور المواطن وذلك من خلال مشاركته السياسية حيث تعد هذه المشاركة معياراً لنمو النظام السياسي، وذلك في إطار النظام السياسي بضمان مساهمتهم في عملية صنع السياسة العامة، كما تزيد المشاركة السياسية من الوعي الاجتماعي للمواطنين.
  • تعمل الأحزاب السياسية على تنمية التنشئة السياسية التي تعني اكتساب المواطنين للقيم السياسية واكتساب الثقافة السياسية التي تزيد من وعيه وتحدد سلوكه السياسي، وقبوله أو رفضه لأنماط معينة من النظم السياسية.

المبحث الثـانــي: انتخاب رئيس الجمهورية وتحديد مدة ولايته

يختلف النظام الملكي عن النظام الجمهوري اختلافاً جذرياً في طريقة إسناد السلطة، إذ يتولى رئيس الدولة في الحكومة الملكية منصبه عن طريق الوراثة في حين أن الطريق لتولي رئيس الدولة للحكم في الأنظمة الجمهورية هو الانتخاب ولمدة محددة، وتختلف طريقة انتخاب رئيس الجمهورية باختلاف الدساتير.

فقد يكون ذلك بواسطة البرلمان وإن كانت هذه الطريقة منتقدة لأنها تؤدي إلى إضعاف سلطة رئيس الدولة وتجعله خاضعا لسلطة البرلمان الذي انتخبه.

وقد ينتخب بواسطة الشعب، وقد يكون ذلك مباشرة – أي على درجة واحدة – حيث يقوم الناخبون بانتخاب الرئيس مباشرة دون وساطة، وقد يكون انتخاب الرئيس بشكل غير مباشر – أي على درجتين – حيث يقوم الناخبون بانتخاب مندوبين يتولون عنهم مهمة انتخاب الرئيس، وإذا كان انتخاب الرئيس على عن طريق الشعب يرجع إلى الرغبة في تقوية السلطة التنفيذية إلا أن هذا الأسلوب – خاصة الانتخاب المباشر – قد يؤدي إلى التقوية كثيراً من مركز رئيس الدولة ويمهد السبيل إلى استبداده، لأنه يعتمد على أنه منتخب من الشعب كله بينما أعضاء البرلمان لا ينتخب كل منهم إلا في دائرة محددة، ومن ثم يشعر باستقلاله تجاه السلطة التشريعية لاستناد سلطته مباشرة إلى الشعب صاحب السيادة.

وقد ينتخب رئيس الدولة بواسطة الشعب والبرلمان معا، وهذه الطريقة تعتبر حلاً وسطا بين الطريقتين السابقتين، وهذه الطريقة – المختلطة – ليست لها صورة ثابتة ولكنها تتنوع وتتعدد.

ومدة ولاية الرئيس في النظام الجمهوري محددة بزمن معين تنص عليه الدساتير، وهذه المدة تختلف من دستور إلى آخر، فهناك من الدساتير ما تجعل مدة الرئاسة سبع سنوات قابلة للتجديد لأكثر من مرة مثل الدستور الفرنسي الحالي، ودساتير تجعلها لمدة خمس سنوات تجدد مرة واحدة فقط، في حين يجعلها الدستور الأمريكي أربع سنوات ولا يجوز إعادة انتخاب الرئيس أكثر من مرة واحدة، وأياً كانت المدة المنصوص عليها في الدستور فإنه يجب أن تكون هذه المدة كافية ومعقولة لإمكان مباشرة مهام المنصب تحقيقا للسياسة العامة التي تم انتخابه من أجلها، فلا يجب أن تكون قصيرة لا تتسع ولا تكفي لتحقيق هذه الأغراض، كذلك لا يجب أن تكون مدة طويلة بحيث تضحي الحكومة الجمهورية شبيهة بالحكومة الملكية بصورة غير مباشرة.

المبحث الثـــالــث: انتخاب المجالس النيابية وتحديد مدة لولايتها

تقوم الديمقراطية النيابية في جوهرها على الانتخاب، فالنظام النيابي هو النظام الذي ينيب فيه صاحب السلطان غيره في ممارسة سلطته، ولا وسيلة لإيجاد هيئة تمارس الحكم نيابة عن الشعب صاحب السلطان إلا بالانتخاب، حتى يمكن اعتبار تلك الهيئة ممثلة للشعب معبرة عـن إرادته، فالفقه يبين أن الشعب يظل صاحب السلطة رغم ممارسة البرلمان لها فعلاً، وإن إرادة البرلمان هي إرادة الشعب بحيث لا يكون ثمة تعارض بين النظام النيابي والمبدأ الديمقراطي[3]، ومن ثم فإنه وحتى يتسم الدستور بالمشروعية فإنه يجب أن يضع أسس النظام النيابي الديمقراطي الصحيح وهو بأن ينص على أن يكون البرلمان منتخبا بكامله أو أغلبية أعضائه بواسطة الشعب، وبذلك تكون الحكومة نيابية ديمقراطية.

وإذا كان الفقه يجمع على أن الانتخاب هـو وسيلة إسناد السلطة في النظم الديمقراطية، فإن هذا النظام يقتضي أن تكون نيابة البرلمان عن الشعب موقوتة بمدة محددة، وتبرير ذلك أن البرلمان يمثل الشعب ويعبر عن إرادته، ومن المؤكد أن هذه الإرادة مرتبطة بتغير وتطور متطلبات وطموحات هذا الشعب، إذ أن هذه الاحتياجات هي في الأصل متطورة ومتجددة – فهي لا تتصف بالجمود – ومن ثم فإنه يجب الرجوع إلى الشعب من وقت إلى آخر بإجراء انتخابات جديدة من أجل ضمان أن يبقى البرلمان – ممثل الشعب – معبراً تعبيراً حقيقياً عن هذه الإرادة، أما جعل النيابة مدى الحياة فمن شأنه أن يبتعد النواب عن التعبير عن إرادة الشعب واتجاهاته وينهار النظام النيابي، أيضاً من مزايا هذا التأقيت تحقيق رقابة دائمة من الشعب على النواب بعدم إعادة انتخابه مرة ثانية إن هو قصر في واجباته النيابية.

وتقتضي الديمقراطية أن تكون نيابة البرلمان عن الشعب موقوتة بمدة معينة، لأن المفترض أن البرلمان يمثل الشعب ويعبر عن إرادته، وإرادة الشعب ورغباته لا تبقى ثابتة وإنما تتغير وتتطور مع الزمن، لذا يتعين الرجوع إلى الشعب من وقت إلى آخر بإجراء انتخابات جديـدة، حتى نضمن أن يبقى البرلمان دائماً ممثلاً للشعب تمثيلاً حقيقياً بقدر الإمكان، أما جعل النيابة لمدى الحياة فمن شأنه أن يبتعد النواب عن التعبير عن إرادة الشعب واتجاهاته، وتعتبر معول هدم للمبدأ الديمقراطي.

وتحديد مدة نيابة البرلمان وهي ما يطلق عليها الفصل التشريعي تختلف من دولة إلى أخري فهي ليست بالمدة الثابتة في الدساتير المختلفة، لكن من المهم عند تحديد هذه المدة هو ألا تكون هذه المدة قصيرة بحيث لا يتمكن النائب من القيام بدوره التشريعي والرقابي على أتم وجه، إذ أن قصر مدة النيابة تضع النائب تحت ضغط مستمر من الناخبين لإعادة انتخابهم، أيضاً لا يجب أن تكون هذه المدة من الطول الذي يؤدي إلى ضعف الرقابة الشعبية على النواب وحتى لا يضعف تمثيل البرلمان للشعب، ومن ثم فإن مدة نيابة البرلمان يجب أن تكون وسط ما بين القصر والطول، فالمدة ينبغي أن تتحدد بحيث لا تؤدي إلى إضعاف الرقابة الشعبية على البرلمان ولا إلى الإسراف فيها[4].

المبحث الــرابــع: ترسيخ مفهوم المشاركة السياسية

“الحق في الترشيح والانتخاب”

تقتضي الديمقراطية مشاركة الشعب في ممارسة السلطة، وهذا ما يتضح من تعريف الديمقراطية بأنها حكم الشعب وللشعب، والمشاركة تعني مساهمة المواطنين في ممارسة السلطة في شتى المجالات، لذا أصبحت المشاركة السياسية قاسماً مشتركاً بين جميع الدول الديمقراطية وإن اختلفت طرق وأشكال التطبيق، ولكنها يجب أن تكون مشاركة حقيقية وليست مشاركة يخفى وراءها الحكم الفردي المطلق[5].

والمشاركة تعني انشغال وإسهام المواطن بالمسائل السياسية العامة داخل نطاق مجتمعه سواء كان هذا الانشغال عن طريق التأثير أو الرفض أو المقاومة أو الاعتراض، أي اشتراك المواطن في مناقشة الأمور العامة بطريق مباشر أو بطريق غير مباشر وذلك عن طريق اختيار ممثليه في المجالس النيابية.

والمشاركة السياسية هي العملية التي يلعب الفرد من خلالها دوراً في الحياة السياسية العامة لمجتمعه، وتكون لديه الفرصة لأن يشارك في وضع الأهداف العامة للمجتمع وتجسيد المشاكل واقتراح الحلول من خلال حرية التعبير والرأي أو من خلال الأحزاب السياسية، والمشاركة السياسية تعد أفضل الوسائل لتحقيق وانجاز هذه الأهداف، كما تُـعد هدفاً ووسيلة للديمقراطية في آن واحد، فالمشاركة السياسية والتأكيد عيها تُعد السياج الأمين للديمقراطية، لأن ذلك يتحقق من خلال كفالة حق كل مواطن في التعبير عن رأيه بموضوعية وفي حدود القانون.

ولبلوغ درجة عالية من المشاركة السياسية الفعّالة فهناك بعض المتطلبات والتي منها[6]:

1- الارتفاع بمستوى وعي المواطنين سواء باجتهاد ذاتي من المواطنين، أو عن طريق وسائل الإعلام المختلفة من أجل تكوين رأي عام.

2- توفير قنوات شرعية وقانونية يستطيع من خلالها الأفراد الوصول بآرائهم إلى صانعي القرار، وذلك عن طريق سيادة روح الديمقراطية.

3- سيادة مناخ ديمقراطي يحكم العلاقة بين الشعب والحكومة.

4- حرص كل من له حق الانتخاب من ممارسة هذا الحق في كل مناسبة انتخابية سواء استفتاءات شعبية أو انتخابات رئاسية أو برلمانية أو محلية.

5- حث المواطنين على ممارسة حقهم في الانتخاب عن طريق العمل الحزبي والنقابي وأجهزة الإعلام حتى تتأصل هذه الحقوق في وجدان الشعب، فتصبح ممارستها سلوكا معتادا لديهم.

6- تفعيل دور المشاركة الشعبية في حل مشاكل الوطن في شتي المجالات مثل مشاكل البطالة أو الارتقاء بمستوي التعليم أو مستوي الخدمات الطبية وغيرها من المشاكل التي تمس حياة المواطن، ومن ثم لا يقتصر دور الفرد على مجرد إبداء الرأي بل يتحول دوره إلى المشاركة التنفيذية.

7- العمل على توفير الضوابط اللازمة لتطوير الإدارة المحلية بما يتيح من زيادة مشاركة الجماهير في صنع القرار، مع ضرورة تطوير فلسفة الإدارة المحلية وأفكارها بما يتماشى وواقع الديمقراطية التي تعيشها شعوب العالم الآن.

المبحث الخـامـس: الرقابـة الشعبيـة على السلطة

على الرغم من أن النظام النيابي يقوم على أربعة أركان أساسية تتمثل في وجود هيئة نيابية منتخبة، وأن تكون نيابة هذه الهيئة لمدة محددة، وأن النائب المنتخب يمثل الأمة بأسرها، واستقلال الهيئة النيابية عن هيئة الناخبين[7]، مما يترتب على ذلك من تأقيت مدة العضوية في الهيئة البرلمانية واستقلال الهيئة النيابية عن الناخبين ومن ثم لا يجوز بأي من مظاهر الديمقراطية شبه المباشرة.

إلَّا أننا نعتقد – وكما سبق لنا القول – إنه لا غضاضة من المزج بين آليات الديمقراطية النيابية وآليات الديمقراطية شبه المباشرة، إذ الأهم في هذا المجال هو تحقيق المشروعية الدستورية بشكل يكفل حماية الحقوق والحريات العامة ويحول دون الاستبداد بالسلطة أو التعسف في استخدامها، لذلك نجد أن التطورات الاجتماعية في الدول المعاصرة أدت بالنظام النيابي أن يتجه إلى أخذ صورة أكثر تمثيلا للشعب بكافة طبقاته واتجاهاته المختلفة، وتحقيق مشاركة أكبر للشعب في ممارسة السلطة عن طريق الأخذ ببعض مظاهر الديمقراطية شبه المباشرة[8]، كما أن هذه الآليات وسائل دستورية حاسمة يملكها الناخبون تمثل عامل ضغط على السلطة وتتميز عن الوسائل الفعلية مثل التظاهر والتهديد بعدم إعادة انتخابهم، إذ أن هذه الوسائل يمكن أن يضرب بها عرض الحائط لأنها وسائل غير قانونية، ولكنهم لا يستطيعون أن يفعلوا نفس الشيء مع وسائل الرقابة الدستورية والتي منها:

أولاً: عزل رئيس الجمهورية

أعطت بعض الدساتير حق عزل رئيس الجمهورية بواسطة الشعب إذا طلب ذلك عدد معين من الناخبين على أساس فقده لثقة شعبه بـه، ومثال ذلك مـا كان ينص عليه دستور “فيمار” الألماني الصادر عام 1919 من جواز عزل رئيس الجمهورية بناء على طلب معين من الناخبين، وبعد موافقة مجلس “الريشتاغ” المجلس الشعبي “بأغلبية الثلثين بوقف رئيس الجمهورية عن العمل، ويعرض الأمر على الشعب لاستفتائه فيه، ويعتبر الرئيس معزولاً إذا وافق الشعب على عزله، وإذا لم يوافق عد ذلك بمثابة تجديد لانتخابه ووجب حل “الريشتاغ” وإجراء انتخابات جديدة، كما أخذ بذلك دستور النمسا الصادر سنة 1920 والمعدل سنة 1929 بحق الشعب في عزل رئيس الدولة بشروط وإجراءات خاصة[9].

ثانيا ً: إقالة النائب بواسطة الناخبين

وبمقتضي هذا الحق يحق للناخبين إقالة نائبهم عن طريق تقديم طلب بذلك من عدد معين منهم، ويترتب على ذلك إجراء انتخابات في هذه الدائرة، ويحق للنائب المقال أن يتقدم للانتخابات من جديد، أي لا يترتب على إقالة النائب عزله من الحياة السياسية، بل من حقه أن يدافع عن نفسه وتسمح له الدساتير عادة بكتابة ملخص دفاعه على بطاقة التصويت نفسها، وإذا أعيد انتخابه تحمل من اقترحوا عزله مصاريف إعادة انتخابه كجزاء لهم، ولا يلزمهم القانون عند تقديم طلب الإقالة بإيداع كفالة مالية معينة، وهو ما دعا إلى القول بأنه ليس ثمة عزل أو إقالة بالمعني الصحيح، وإنما فتح الباب لانتخابات من جديد قبل انتهاء مدة النائب التي يحق له أن يرشح نفسه فيها[10].

ثالثاً: الحل الشعبي

يقصد به حق عدد معين من الناخبين في طلب حل المجلس النيابي، وعندئذ يعرض الأمر على الشعب للاستفتاء، فإذا وافقت عليه الأغلبية اعتبر المجلس منحلا وتعين إجراء انتخابات جديدة.

وبعض الدساتير مثل دستور استونيا الصادر عام 1920 يقرر اعتبار المجلس النيابي منحلا، ويوجب إجراء انتخابات جديدة إذا ما رفض الشعب عند استفتائه قانونا أقره المجلس أو وافق على قانون رفضه المجلس، وذلك دون الحاجة إلى أن يطلب عدد من الناخبين حل المجلس أو يستفتى على ذلك[11].

رابعاً: الاستفتاء الشعبي

يقصد بالاستفتاء الشعبي أخذ رأي الشعب في موضوع من الموضوعات، ويتفرع من الاستفتاء الشعبي عدة أنواع تختلف فيما بينها من حيث موضوع الاستفتاء، فقد يكون استفتاء دستورياً عند تعلقه بموضوع دستوري، وقد يكون تشريعياً عند أخذ رأي الشعب في مشروع قانون، وقد يكون سياسياً في حالة إجراء الاستفتاء بشأن أمر من أمور السياسة العامة.

أيضاً قد يجري الاستفتاء قبل صدور القانون، أو يكون لاحق على إصداره، وقد يكون الاستفتاء إجباريا، أي يتحتم إجراؤه بصدد موضوع أو موضوعات محددة، أو يكون الاستفتاء اختياريا، أي يجوز فيه الرجوع إلى الشعب لأخذ رأيه أو عدم الرجوع إليه، وختاما قد يكون الاستفتاء ملزما يتقيد البرلمان بنتيجته، أو يكون استفتاء استشاري، أي لا يتقيد البرلمان بنتيجته[12].

خامساً: الاعتراض الشعبي

ويقصد به إعطاء الحق لعدد معين من الناخبين في الاعتراض على قانون صادر من البرلمان في خلال مدة زمنية محددة.

فإذا تم الاعتراض في غضون هذه المدة المحددة فإنه ينتج أثره في وجوب عرض هذا القانون على الشعب لاستفتائه عليه لمعرفة هل يوافق عليه أم لا، بحيث يسقط القانون بأثر رجعي في حالة عدم الموافقة عليه، أما إذا لم يتم الاعتراض خلال هذه المدة المحددة فإن القانون يصبح نهائيا وواجب النفاذ[13].

وعن طريق الاعتراض الشعبي يستطيع الشعب أن يساهم مساهمة محدودة في التشريع بمنع بقاء القانون الذي لا يوافق عليه[14].

 سادساً: الاقتراح الشعبي

ويقصد به أن يكون لعدد من الناخبين الحق في اقتراح مشروع قانون وتقديمه إلى البرلمان الذي يلتزم بمناقشته والبت فيه.

والاقتراح الشعبي يأخذ صورتين، الأولى صورة الاقتراح المفصل الذي يصاغ في شكل مشروع قانون محدد ومقسم إلى مواد، وفي هذه الحالة فإن البرلمان يكون ملتزما بمناقشته وإصداره أو عرضه على الشعب في استفتاء تشريعي لأخذ رأيه فيه حسبما ينص الدستور.

والصورة الثانية صورة الاقتراح غير المفصل أو غير المبوب، حيث يقتصر مشروع القانون على بيان الموضوع أو المبدأ أو الفكرة التي يراد التشريع وفقا لها، ويترك للبرلمان مهمة صياغتها في مشروع قانون ليأخذ طريقه إلى المناقشة ثم الإصدار أو الاستفتاء الشعبي طبقا لما يحدده الدستور[15].

وتجيز بعض الدساتير في حالة رفض البرلمان لمشروع القانون المقترح أن يعد – أي البرلمان – مشروع قانون مضاد ليختار الشعب بين المشروعين، بل إن الدستور قد ينص على طرح الاقتراح الشعبي مباشرة في استفتاء عام دون أن يعرض على البرلمان.

ويعتبر الاقتراح الشعبي مشاركة فعلية وايجابية من الشعب في صنع القانون لأنه يستطيع أن يفرض القانون الذي يريده حتى ولو عارض البرلمان، لذلك يعتبر ذلك تطبيقاً للمبدأ الديمقراطي على نحو اقرب للكمال، لأن القانون يكون من صنع الشعب مباشرة دون أي تدخل من الهيئات النيابي.

المبحث السادس: التداول السلمي للسلطة

التداول على السلطة هي إحدى المعايير لوجود نظام ديمقراطي، ويقصد بها وجود آلية لانتقال المنصب السياسي إلى آخر سواء كان شاغل المنصب رئيس الدولة أو رئيس الوزراء.

ومن شروط التداول السلمي على السلطة ضمان إمكانية العودة إلى الحكم، توفر الفرصة لمختلف الوحدات مرة أو عدة مرات، الاحتكام إلى الشعب وقبول اختياراته مهما كانت.

تداول السلطة بطرق سلمية وتشكيل حكومة طبقاً لقواعد قانونية وإجرائية تسمح للحائز على الأغلبية من خلال انتخابات عامة مباشرة حرة ونزيهة تسلم مسؤولية الحكم، ومنع احتكار السلطة من قبل شخص أو جماعة مهما كانت الظروف أو الأسباب، ويعتبر هذا الأمر من أهم الأدوات التي تعمل على ترسيخ الديمقراطية.

والمزية الكبرى للديمقراطية هي توفير الآليات الشرعية لتداول السلطة بعيداً عن الانقلابات العسكرية، وهذه الآليات تبقى وتستمر لأنها تجعل من الجماهير الحكم بين الأطراف المختلفة، بحيث يكون لها الحكم بعد اطلاعها على برامج المشاركين في الانتخابات بعدل ومساواة، بحيث تفضل بعدها أي طرف على آخر في الاستحقاقات الانتخابات الدورية.

وهذه العبرة بالممارسة الفعلية وليس بالنصوص الدستورية التي تنص على التداول السلمي للسلطة دون الانتقال بها إلى الممارسة والتطبيق[16].

وتعتبر الانتخابات هي الوسيلة لتحقيق التداول الدوري للسلطة وتعتبر المظهر البارز للديمقراطية فهي آلية لتكريس الديمقراطية خاصة إذا كانت تعبر حقاً عن إرادة الشعب.

ويرتبط التداول السلمي للسلطة بوجود تعدد حزبي حقيقي يسمح بتنافس فعلي بين عدد من الأحزاب ذات التوجهات المتباينة في تنقل السلطة من حزب لآخر أو من زعيم حزب إلى زعيم حزب آخر، ومن ثمَّ فلابد من وجود تعددية حزبية لتحقيق التداول السلمي للسلطة باعتبار أن الأحزاب وسيطة بين الدولة والمواطن [17].


الهامش

[1] – د. عبد العظيم عبد السلام – حقوق الإنسان وحرياته العامة وفقا لأحدث الدساتير العالمية والمواثيق الدولية – طبعة 2005 – صفحة 835.

[2] – د. شعبان أحمد رمضان – الحماية الدستورية لحقوق الإنسان “رقابة الدستورية كوسيلة لحماية الحقوق والحريات” – دار النهضة العربية – طبعة 2006 – صفحة 81.

[3] – د. محمود عاطف البنا – الوسيط في النظم السياسية “الدولة – السلطة – الحقوق العامة” طبعة 1996 – صفحة 254.

[4] – د. محمود عاطف البنا – المرجع السابق – صفحة  265، 266.

[5]– د. صلاح الدين فوزي – الأنظمة السياسية وتطبيقاتها المعاصرة – طبعة 1985 – صفحة 370.

[6] – د. محمد أبو زيد محمد – الوجيز في النظم السياسية – طبعة 2006 – صفحة 273 وما بعدها.

[7] – د. وحيد رأفت ، د. وايت إبراهيم – المرجع السابق – صفحة 141 وما بعدها.

[8] – د. ثروت بدوي – التطور الحديث للنظام النيابي – صفحة 187 : 189.

[9] – د. محمود عاطف البنا – المرجع السابق – صفحة 289 ، 290.

[10] – د. وحيد رأفت ، د. وايت إبراهيم – المرجع السابق – صفحة 177.

[11] – د. محمود عاطف البنا – المرجع السابق – صفحة 289.

[12] – د. عبد الغني بسيوني عبد الله – النظم السياسية “دراسة لنظرية الدولة والحكومة والحقوق والحريات العامة في الفكر الإسلامي والفكر الأوربي” – منشأة المعارف – الطبعة الرابعة سنة 2002 – صفحة 219.

[13] – د. عبد الغني بسيوني عبد الله – المرجع السابق – صفحة 219 ، 220.

[14] – د. محمود عاطف البنا – المرجع السابق – صفحة 287.

[15]– د. عبد الغني بسيوني عبد الله – المرجع السابق – صفحة 220.

[16]– د. إسماعيل صبري عبد الله – الديمقراطية داخل الأحزاب الوطنية وفيما بينها – مركز دراسات الوحدة العربية – سنة 1987 – صفحة 468.

[17] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

 

رابط المصدر:

https://eipss-eg.org/%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%af%d9%88%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%af%d8%b3%d9%80%d8%aa%d9%80%d9%88%d8%b1%d9%8a%d9%80%d8%a9-%d9%84%d8%aa%d8%b9%d8%b2%d9%8a%d8%b2-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ad%d9%88%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%8a%d9%85%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%b7%d9%8a/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M