محمود خالد
يرى القادة الإثيوبيون أن نهر النيل ليس شريان الحياة لمصر فقط، ولكن لإثيوبيا أيضاً، فالدولة عازمة على استغلال هذه المياه التي تتدفق عبر أراضيها لتحقيق نهضتها المنشودة.
إثيوبيا لا تحتاج المياه من أجل الزراعة كما هو الحال في مصر، ولكنها تسعى إلى أن تصبح إحدى قلاع الصناعة في شرق إفريقيا، من خلال تأسيس مجمعات صناعية متخصصة في مناطق متفرقة، ضمن خطة للتحول من اقتصاد زراعي إلى صناعي.
لا تمثل الصناعة في الوقت الحالي سوى حوالي 5 بالمائة فقط في الاقتصاد الإثيوبي، وتطمح البلاد إلى خلق مليوني وظيفة في هذا القطاع بحلول 2025.
ولكن كيف سيتسنى لها جذب استثمارات كافية إن لم تكن قادرة على توفير الطاقة اللازمة لتشغيل عجلة الإنتاج بهذه المصانع؟ كيف لدولة يعيش 56 بالمائة من سكانها دون كهرباء أن تمضي قدماً في سبيل تحقيق نهضتها المنشودة؟
من هنا كان السد بالنسبة لإثيوبيا مسألة حياة أو موت لتوفير ليس فقط احتياجاتها من الطاقة فحسب، ولكن للتصدير أيضاً بنحو ملياري دولار سنوياً، وهو ما يعني تغطية تكلفة السد البالغة 5 مليارات تقريباً في أقل من ثلاث سنوات.
أزمة مصرية تلوح في الأفق: وفرة كهربائية وندرة زراعية
لا تعاني مصر أزمة في الطاقة الكهربائية كإثيوبيا، في الواقع تتمتع مصر بفائض في إنتاج الكهرباء يقدر بـ 19 ألف ميجاوات بما يعادل 35 بالمائة من الطاقة الإنتاجية لمصر، ومن المتوقع أن تصل قدرة مصر الإنتاجية حوالي 60 ألف ميجاوات بحلول 2022 أي ضعف الاستهلاك الحالي تقريباً.
ومن ثم فإن الحديث عن تأثير سد النهضة على انخفاض منسوب المياه في بحيرة ناصر، ومن ثم قدرة السد العالي على توليد الكهرباء، لا معنى له من الناحية العملية، إذ تصل الطاقة الإنتاجية القصوى للسد العالي 2100 ميجاوات، أي أن مصر تحقق فائضاً يوازي 9 أضعاف هذا الرقم.
بالطبع هي خسارة من وجهة النظر الاقتصادية البحتة، ولكن لن يكون لها أي تأثير جوهري سواء على إمدادات الطاقة للصناعة أو للاستخدام المنزلي وبإمكان مصر تعويض هذه الخسارة بسهولة.
على صعيد آخر، من المتوقع أن تتأثر الزراعة بشكل ملحوظ. وقد اجتهد الباحثون في الحصول على تقدير لمدى هذا التأثير، مستخدمين بيانات تفصيلية وأساليب إحصائية متقدمة.
خسارة فادحة في الرقعة الزراعية
في بحوث علمية منشورة بمجلات دولية، توصل باحثان من جامعتي بنها والمنوفية إلى أن مصر معرضة لفقدان ما قد يصل إلى 46% من أراضيها الزراعية بسبب سد النهضة. في المقابل قدر باحثان، من جامعة الزقازيق، أن مساحة الأرض الزراعية التي ستخسرها مصر جراء السد تمثل 29.5% في الوجه القبلي و 23% في الدلتا من إجمالي مساحة الأراضي الزراعية.
وفي سبتمبر/ أيلول الماضي صرح وزير الموارد المائية والري بأن نقص حصة مصر من مياه النيل بـ 1%، سيؤدي إلى فقدان مصر نحو 100 ألف فدان.
دعونا نجري الآن حسبة بسيطة، تبلغ السعة الاستيعابية لسد النهضة نحو 74 مليار متر مكعب من المياه، في حالة ملء الخزان على مدار ثلاث سنوات، كما أعلن الجانب الإثيوبي مراراً وتكراراً، فإن ذلك يعني اقتطاع حوالي 25 مليار متر مكعب من حصة كل من السودان ومصر سنوياً.
لنفترض أن كلتا الدولتين سيقتسمان ذلك الخصم بنفس نسبة نصيب كل منهما في مياه النهر الحالية؛ ذلك يعني انخفاض نصيب مصر من مياه النيل بمقدار 18.75 مليار متر مكعب على الأقل سنوياً.
إلا أن هناك حداً من النقصان يمكن لمصر تحمله دون التأثير على الزراعة فيها، نظراً لإمكانية تعويضه من المياه المخزنة خلف سد العالي، يقدر ذلك الحد بـحوالي 5.5 مليار متر مكعب سنوياً.
أي أن هناك عجزاً قدره 13.25 مليار متر مكعب سيؤثر بشكل سلبي مباشر على الزراعة في مصر، ولكن ما هو حجم ذلك التأثير على وجه التحديد؟
إذا قسمنا 13.25 على 55.5 فإن ناتج القسمة يكون انخفاضاً قدره 24% من مياه النيل سنوياً، ولما كان كل انخفاض بنسبة 1% سيؤدي إلى فقدان مصر حوالي 100 ألف فدان، فإن ذلك يعني خسارة 2.4 مليون فدان في مصر سنويًا، بمجموع 7.2 مليون فدان تقريباً على مدار ثلاث سنوات. وهو ما يعني خسارة حوالي 26% من مساحة الأراضي الزراعية في مصر!
على الناحية الأخرى، تتمسك مصر بملء الخزان على مدار 7 سنوات، وبإجراء نفس الحسابات السابقة نجد أنه، حتى إذا ما وافق الجانب الإثيوبي على ذلك، فإن مصر ستخسر حوالي 432 ألف فدان سنوياً، أي قرابة 3 ملايين فدان على مدار سبع سنوات.
من الجدير بالذكر هنا أن مدة ملء الخزان بالنسبة للسد العالي في أسوان كانت 12 عاماً كاملة.
أمن مصر الغذائي في مهب الريح
ستؤدي خسارة هذه المساحة من الأراضي الزراعية إلى تهديد الأمن الغذائي المصري، وتزايد الاعتماد على استيراد الغذاء، بما لذلك من تأثير سلبي على استقلالية القرار السياسي المصري من ناحية، وتعميق عجز ميزان المدفوعات، في وقت تعاني فيه مصر من نقص الموارد الدولارية، وهو ما سيضغط على سعر الجنيه مقابل الدولار من ناحية أخرى.
وقد بدأت بوادر ذلك في الظهور حيث ارتفعت الواردات وتراجعت الصادرات الزراعية المصرية في يوليو 2018 مقابل يوليو 2017 كما يتضح من الشكل التالي.
يرجع ذلك في جزء منه إلى تقليص زراعة العديد من المحاصيل كإجراء احترازي منذ أدركت الحكومة أننا بصدد أزمة حقيقة في المياه، ولعل الأرز هو المحصول الأبرز على الإطلاق في هذا الصدد.
حتى عام 2015، كانت مصر مصدراً صافياً للأرز، إلى أن قررت وزارة الري تقليص المساحة المزروعة بالأرز من مليون و300 ألف فدان عام 2015 إلى 724 ألف فدان فقط في 2017، بسبب كثرة استهلاكه للمياه.
وبعد أن كانت مصر تحقق فائض إنتاج يوجه للتصدير قدره 528 ألف طن عام 2010، بدأت تحقق عجزاً قدره 14 ألف طن عام 2016، وبدأنا في الاستيراد كما يتضح من الشكل التالي، وسرعان ما ارتفع ذلك العجز إلى 75 ألف طن عام 2018، ثم إلى 160 ألف طن في يوليو 2019، ومن المتوقع أن يتفاقم ذلك العجز خلال السنوات القادمة بالتزامن مع ملء خزان سد النهضة.
بمراجعة بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة للإحصاء يمكن ملاحظة تكرار نفس النمط بالنسبة للعديد من المحاصيل الاستراتيجية الأخرى، خاصة محاصيل الحبوب كالفول والذرة بالإضافة إلى الموز وقصب السكر.
تكريس الجوع والعطش
يمثل قطاع الزراعة 10% من الناتج المحلي الإجمالي في مصر، ويعمل به 5.62 مليون فرد، كل منهم يعول أسرة كاملة، أي أن هناك حوالي 25 مليون مواطن ترتبط حياتهم بشكل مباشر بالزراعة.
لا شك أن كثيرًا من هؤلاء سيفقدون عملهم ومصدر دخلهم بسبب سد النهضة، وهو ما يكرس الفقر في مصر، خاصة وأن معظم الفقراء هم من سكان الريف في الوجه البحري والقبلي، حيث يعاني 6.5 مليون مواطن مصري من الفقر المدقع، وفقاً للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أي أنهم بالفعل واقعين تحت ما يعرف بخط الجوع.
من جهة أخرى، تقع مصر تحت خط الفقر المائي منذ أوائل التسعينيات تقريباً، وبدأت في دخول مرحلة الفقر المدقع منذ 2018 كما يتضح من الشكل التالي، وهي كارثة ستشهد تفاقماً غير مسبوق خلال السنوات القادمة، في ظل نمو سكاني يبلغ مليوني نسمة سنوياً تقريباً من ناحية، وتراجع حصة مصر من مياه النيل من ناحية أخرى.
استفاقت الدولة متأخراً جداً، وبدأت تبحث عن بديل تروى به ظمأ المصريين من خلال تحلية مياه البحر ومعالجة مياه الصرف.
أنفقت مصر خلال الخمس سنوات ماضية نحو 200 مليار جنيه، ومن المتوقع أن تصل لـ 900 مليار جنيه بحلول عام 2037 من أجل إنشاء محطات لتحلية مياه البحر في المدن الساحلية. وفي الجنوب تنوي الحكومة تأسيس 52 محطة لمعالجة المياه، تم الانتهاء من 38 محطة منها حتى الآن.
كثير من هذه المشروعات تم تمويله عبر القروض، وإذا ما أضفنا لهذا الخسارة الاقتصادية الكبيرة الناجمة عن تراجع الإنتاج الزراعي، والتحول من مُصَدِّر إلى مُستورِد للعديد من المحاصيل الزراعية، إلى جانب تضاعف أعداد الفقراء المحتاجين للدعم، سنجد أن الاقتصاد المصري سيكون في وضع شديد الحرج والخطورة جراء سد إثيوبيا العظيم، الذي يعد بالرخاء، لكن ليس لمصر.
رابط المصدر:
https://www.ida2at.com/grand-ethiopian-renaissance-dam-impact-egypt/