د. طارق عبود
مقدمة
بينما كان العالم يتحضر للمواجهة الكبرى بين الولايات المتحدة والصين، على خلفية التوترات الحاصلة بين البلدين بسبب المنافسة على تصدّر الاقتصاد الأكبر في العالم، وبناءً على التوصيات التي وردت في الأوراق الاستراتيجية للأمن القومي المتتالية منذ إدارة الرئيس باراك أوباما، مروراً بإدارة دونالد ترامب، والتي كانت الإدارة الأكثر تشدداً مع الصين، وصولاً إلى التوصيات المؤقتة التي صدرت عن إدارة الرئيس جوزيف بايدن في آذار من العام 2021، لم يشعر العالم إلا وهو يغرق في مستنقع الأزمة الأوكرانية الروسية. الأزمة المعقّدة التي استفحلت، وغطّت تداعياتُها المعمورة، وأدخلت العالم في مرحلة جديدة من النزاعات العسكرية، ولا سيما في أوروبا التي كانت قد نسيت الحروب والمعارك وأصوات الصواريخ والقذائف. فاستعادت مجدداً مشاهد الموت والدمار والنزوح والتهجير. وانتقل اهتمام وسائل الإعلام، والسياسيون إلى أوروبا الشرقية، وعادت لغة الحرب الباردة من جديد.
يسعى هذا البحث إلى الكشف عن وجوه أزمة أوكرانيا وخلفياتها، ولماذا اندلعت الحرب في هذا التوقيت السياسي العالمي؟ وماذا سيترتّب على نتائج الصراع فيها على بنية النظام الدولي القائم، وما هو دور القوى الكبرى والإقليمية في هذا الصراع؟ وما هو تأثير الصراع على سوق الطاقة والنفط ومستقبله؟ والرابحون والخاسرون في هذه الحرب.
روسيا من منظور جيوسياسي
تُحسب روسيا تاريخياً، وبحكم موقعها الجغرافي مُهدَّدة بالغزو، وقد تعرضت لذلك في أكثر من محطة تاريخية، وقد غزاها المغول في القرن الثالث عشر، ونابليون بونابرت في القرن التاسع عشر، والألمان في الحربين العالميتين الأولى والثانية. والسبب الأساسي لكل ذلك يعود إلى عدم وجود موانع طبيعية تحمي روسيا من الغزاة، أو تعيق تقدّمهم بالحد الأدنى، وتمتاز روسيا بالسهول الكبيرة التي تغري الطامعين فيها، وتشكّل هدفاً مثالياً لهم. وهي بعكس الولايات المتحدة الأميركية غير المحاطة بالأعداء، والتي تجاورها دولتان هما المكسيك وكندا، إضافًة إلى طرف ثالث، هو الأسماك التي تعيش في المحيطين الأطلسي والهادي. وكان الاتحاد السوفياتي يعتبر عامل حماية لروسيا بسبب التوسع الذي قام به السوفيات، وشكّل درعاً لها من الأعداء. لذلك صرّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قائلاً: إنّ انهيار الاتحاد السوفياتي كان أكبر كارثة في القرن العشرين.
منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، تشغل معضلة تعامل الولايات المتحدة مع روسيا؛ بين مهاجمتها أو احتوائها أو إضعافها عبر “ثورات ملوّنة” في مجالها الحيوي، (جورجيا وأوكرانيا) ونشر الفوضى والحرب (الشيشان) مساحة مهمة في العقل الأميركي والحلفاء الأوروبيين، على قاعدة “روسو فوبيا”. وتتصدّر أوكرانيا واجهة الأزمة بين الغرب وروسيا في العقدين الأخيرين. وسنتكلم في سياق البحث عن وثيقة سياسية قدمتها إدارة الرئيس الأسبق رونالد ريغان لنظيره السوفياتي ميخائيل غورباشوف، تعهّدت فيها واشنطن بعدم توسع حلف الناتو شرقاً، مقابل موافقة الأخير على إعادة توحيد ألمانيا، بتاريخ 6 آذار/مارس 1991 [1] وهي المشكلة المركزية اليوم في كل الصراع الذي نشهده اليوم بين الأطلسي وروسيا.
أوكرانيا ساحة نزاع بين واشنطن وموسكو
يدرك المتابعون لمسارات السياسة الدولية أنّ للولايات المتحدة الأميركية سياسة معلنة بمنع أي دولة في العالم من منافسة سيطرتها العالمية، وبذلها الجهود الكبيرة للاحتفاظ بقيادة العالم منفردةً، ولا سيّما بعدما لمست الفوائد العظيمة من قيادة الأرض لوحدها على المستويات كافّة. وأعادت الورقة المؤقتة لاستراتيجية الأمن القومي الأميركي في إدارة بايدن التأكيد على هذه السياسة التي تصنّف الصين وروسيا كعدوّين، وكمنافسين للأحادية القطبية العالمية التي تقودها الولايات المتحدة منذ ثلاثة عقود.
من هذه الخلفية كانت الولايات المتحدة الأميركية تضع في حسابها تطويق موسكو، ومنعها من العودة إلى مشاركة واشنطن في قيادة العالم. وبدأت الأخيرة تفعيل هذه الاستراتيجية مبكراً. فقضت الخطة الأميركيّة في عهد الرئيس الروسي الضعيف بوريس يلتسين الاعتماد على تطويق روسيا بـ “زنار” معادٍ لها، والعمل على إدخال الدول التي كانت حليفةً لموسكو في حلف الـ «ناتو». وأرادت واشنطن بذلك منع أي انتعاش للقوّة الروسية مستقبلاً، تحت أي مسمّى أو حجّة او ذريعة. ومن هذا المنطلق يثبت أنّ العداء الأميركي في الحرب الباردة لم تكن خلفيته أيديولوجيّة بالنسبة إلى واشنطن، وإنما كانت صراع قوّة محض، وهي تعاملت مع روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، كما تعامل المنتصرون مع ألمانيا بعد الحرب العالميّة الأولى. ولم يكن هناك أي تفسير عقلاني للإصرار الأميركي على الحفاظ على الـ «ناتو» وضمّ أعضاء سابقين في المنظومة الشيوعيّة فيه، طالما أنّ التهديد الشيوعي قد زال، وأنّ حلف وارسو قد تلاشى إلى الأبد.
في 23 ديسمبر2021، وخلال المؤتمر الصحفي السنوي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أثار سؤال من مراسلة سكاي نيوز ديانا ماجناي جدلاً كبيراً، حيث أجاب بوتين باقتضاب، بأنّ ملاحظات روسيا حول سلوك الولايات المتحدة تعود إلى العام 1990، وأنّ واشنطن لم تتجاهلها فحسب، بل استمرت في المضي قدماً. الآن أصبحت أسلحة الناتو على وشك نشرها في أوكرانيا، الأمر الذي سيكون حقيقة غير مقبولة بالنسبة إلى موسكو. يجب أن يكون مفهوماً أنّ تثبيت الصواريخ في غضون أربع دقائق بالطائرة من موسكو، يشكل تهديداً شديداً، وسبباً كافياً للحرب. وهذا ما كان له تطبيق فعلي في الرابع والعشرين من شباط 2022 عندما بدأت روسيا حملتها العسكرية على أوكرانيا، بعدما وصلت المفاوضات السياسية والوساطات الفرنسية والألمانية إلى طريق مسدود. ولم تحصل موسكو على ضمانات فعلية وواقعية من الغرب بعدم دخول أوكرانيا على حلف شمال الأطلسي، بتحريض واضح، ودفع من واشنطن ولندن، إلى أن دخلت أوروبا والعالم في حرب لا يعلم أحدٌ نهايتها ولا نتائجها.
وفي عودة تاريخية، ستكون مفيدة لفهم الواقع السياسي للأزمة. فإنّ مشكلة أوكرانيا مع روسيا تعود إلى عشية انهيار الاتحاد السوفياتي، لما تشكّله مساحتها الكبيرة، وحدوها الطويلة مع روسيا، والتداخل الاجتماعي والثقافي من أهمية استراتيجية للأمن القومي الروسي. وعقب الحرب الباردة، بالغت واشنطن في إجراءاتها التوسعية، وضمت عدداً من دول أوروبا الشرقية، ودول البلطيق الثلاث إلى الناتو، مستغلة ضعف روسيا، ومشاكلها الاقتصادية، وعدم استقرارها السياسي، وناقضت التعهدات التي حصل عليها الاتحاد السوفياتي من واشنطن وبقية العواصم الغربية في مباحثات توحيد ألمانيا في العام 1990.وهي اليوم تحاول تطويق روسيا، ووضع صواريخ الناتو وترسانته واستخباراته تحت أنف الدولة الروسية.
ولمزيد من التوضيح، ففي زمن الاتحاد السوفياتي، كانت أقرب نقطة تمركز لحلف شمال الأطلسي، تبعد عن مدينة بطرسبرغ في روسيا الموجودة على شاطئ بحر البلطيق حوالي ألف وخمسمئة كلم، أما اليوم فأصبح وجود الناتو في دول البلطيق الثلاث، ومنها استونيا أقل من مئة وأربعين كيلومتر فقط. من هنا نستحضر أهمية أوكرانيا بالنسبة إلى موسكو عبر قول مستشار الأمن القومي الأكثر شهرة زيبيغنيو بريجنسكي في أوائل العام 1994: إذا سيطرت روسيا على أوكرانيا، فيمكن لها أن تعيد بناء إمبراطوريتها من جديد.
وفي هذا السياق يقول جوزيف ناثان في مقالة له في “آسيا تايمز” إنّ مشاركة الولايات المتحدة في الصراع في أوكرانيا ليس له أي معنى استراتيجي، وإذا أرادت واشنطن استعادة مكانتها العالمية، من أجل إعادة البناء بشكل أفضل، تحتاج إلى العودة إلى جذورها التي جعلتها متفوقة، وهذا يكمن في قدرتها على متابعة الابتكارات التكنولوجية، بدلاً من شنّ الحروب، واتباع سياسة الخداع. وهذا ما يذهب إليه ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، إلى أنّ هذه الأزمة كان من الممكن تجنّبها بأكملها لو لم تستسلم الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون للغطرسة والهيمنة.[2]
يقول وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر “إن التعامل مع أوكرانيا كجزء من المواجهة بين الشرق والغرب من شأنه أن يفسد لعقود أي احتمال لإدخال روسيا والغرب عموماً – وروسيا وأوروبا خصوصاً – في نظام دولي تعاوني. وإذا كان لأوكرانيا أن تعيش وتزدهر، فلا يجب أن تكون البؤرة الأمامية لأيّ من الجانبين -الشرق والغرب- ضد الآخر، بل ينبغي لها أن تعمل كجسر بينهما .ويتعين على روسيا أن تتقبّل أنّ محاولة إرغام أوكرانيا على التبعية، وبالتالي نقل حدود روسيا مرة أخرى، من شأنه أن يحكم على موسكو بتكرار تاريخها من دورات الانجراف الذاتي للضغوط المتبادلة مع أوروبا والولايات المتحدة.ويتعين على الغرب أيضا، أن يدرك أن أوكرانيا بالنسبة إلى روسيا، لا يمكن أبداً أن تكون مجرد دولة أجنبية.[3]
العالم يدخل مرحلة التحوّل؟
يرقد العالم اليوم على صفيح ساخن، وهو يشهد مزيجاً معقداً من التوترات المتصاعدة لجملة من الأسباب، أكثرها أهمية تراجع الولايات المتحدة الأميركية في أكثر من ساحة، آخرها الانسحاب من أفغانستان بعد عقدين على احتلالها هذا البلد الفقير، وهزيمتها في العراق، بعد احتلاله وتدمير الدولة فيه. ومن ثم بروز أكبر أزمة مالية للولايات المتحدة في العام 2008، يضاف إلى ذلك الانقسام الحاد في الداخل الأميركي الذي تجلى في اقتحام الكابيتول، وفي رفض الرئيس السابق دونالد ترامب الاعتراف بنتيجة الانتخابات الرئاسية 2020، واتهامه الديمقراطيين بالتزوير.
والأهم أنّ صنّاع القرار في واشنطن يلمسون هذا التراجع، وأنّ قبضة أميركا بدأت تنفك من حول عنق العالم، وهيمنتها على العالم وسطوتها عليه بدأت في التحلل. يرافق هذا الانكفاء الأميركي، تقدّم واضح للصين على المستوين الاقتصادي والتكنولوجي، والعسكري أيضاً، وإصرار على المتابعة، وعدم التراجع أمام التهويل الأميركي والعقوبات والضغوطات والاتهامات، إن من خلال مشروع الطريق والحزام، أو من خلال بناء تحالفات غير خفية مع روسيا ( تخضع اليوم لامتحان كبير)، واقتصادية مع إيران، ومع عدد من الدول الأوروبية والآسيوية والإفريقية، من هذه الخلفية، تتفاعل الأزمة الأوكرانية الروسية، وتتقدم المشهد السياسي الدولي، لتصبح القضية الأولى التي تشغل العالم وإعلامه وسياسييه ومنابره ومؤتمراته.
لذلك، لا يمكن الفصل بين تسخين هذا الملف اليوم، وبين ما يحصل على المستوى الدولي، من انزياحات تطال الصفائح التكتونية للنظام الدولي المستمر منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولا يمكن التغاضي عن التداخل والمشتركات بين كل من مسألتي أوكرانيا وتايوان أيضاً، وبين ما يحصل مع روسيا، وما يمكن أن يتكرر مع الصين وغيرها من الدول.
يقول الكاتب الأميركي فريد زكريا في واشنطن بوست: “إنّ حرب روسيا على أوكرانيا حدث زلزالي، وربما تكون أهم حدث في الحياة الدولية منذ سقوط جدار برلين، وتشير إلى نهاية عصر، وبداية حقبة ما بعد أميركا. ومن السمات المميزة للعصر الجديد أنه عصر ما بعد حقبة الهيمنة الأميركية على العالم التي امتدت ثلاثة عقود، وبالإمكان العثور على أدلة على ذلك في كل مكان. وما قيل عن رفض قادة الإمارات والسعودية -المعتمدتين على واشنطن في أمنهما لعقود- تلقي مكالمات هاتفية من الرئيس الأميركي في بداية الحرب في أوكرانيا، وكذلك رفض إسرائيل والهند (في البداية) وصف تصرفات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنها غزو، وأن الدول الأربع قد أوضحت أنها ستستمر في التعامل مع روسيا، هي مؤشرات على حقبة جديدة”[4]. وهذا ما ستتم مناقشته أيضاً في طيات هذا البحث.
الأطلسي يتوسع شرقاً
ثمة سؤال يُطرح بإلحاح عن سبب بقاء حلف الناتو بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وتحلّل حلف وارسو؟ وأيّ تهديد واجهه الحلف بعد انهيار المنظومة الاشتراكية؟ وإذا كان الموضوع اليوم قد خرج عن كونه حرباً عقائدية، بين الشيوعيين والليبراليين، فلماذا هذا العداء لروسيا وللصين، إذاً؟ ليس من جواب واضح، سوى أنّ واشنطن تريد استمرار هيمنتها على العالم، والسيطرة على قراره لعقود قادمة.
وعلى الرغم من انتفاء الأسباب التي تأسَّس من أجلها حلف شمال الأطلسي، فإنّ هذا الحلف لم يتحلّل، ولم ينفرط عقدُه. حيث التذرّع الدائم بالدفاع عن المصالح السياسية والعسكرية للدول الأعضاء فيه، وازداد توسعاً حتى وصل عدد الدول المنضوية فيه إلى تسعٍ وعشرين دولةً، مع تمددّه ليضم دولاً كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي السابق، وأعضاءً في حلف وراسو المعادي مثل تشيكيا وسلوفاكيا وألمانيا الشرقية وإستونيا ولاتفيا ولتوانيا وجورجيا وبلغاريا والمجر وبولندا نفسها، التي حمل الحلف السابق اسم عاصمتها. وقد كان القضاء على بقايا حلف وارسو، وتفكيكه تماماً، هدفاً أميركياً واضحاً.
الجدل في كواليس السياسة الأوروبية وداخل أروقة حلف الناتو
لقد استعاد العالم اليوم ما حدث منذ أكثر من ثلاثة عقود عشية انهيار الاتحاد السوفياتي، والحديث عن وعود أميركية للاتحاد السوفياتي عشية انهياره، بعدم تمدد حلف شمال الأطلسي أو توسعّه شرقاً، واستمرار ذلك الجدل منذ ولاية الرئيس بوريس يلتسين الأولى. ينكر الأميركيون أنهم منحوا روسيا وعوداً بعدم التوسع شرقاً، ويدعمون رأيهم أنّ الدول المستقلة لها الحرية في اختيار الحلف أو الإطار الذي يؤمّن لها الاستقرار الأمني والاقتصادي. وهذا ينطبق على دول أوروبا الشرقية، أو الدول التي كانت منضوية تحت لواء الاتحاد السوفياتي السابق.
يجادل الروس وحلفاؤهم، بأنّ الولايات المتحدة كانت قد قدمت عبر وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر ثلاث مرات تأكيدات بأنه إذا سُمح لألمانيا بالانضمام إلى الأطلسي، والحفاظ على الوجود الأميركي في أوروبا، فإن “الناتو لن يتوسع نحو الشرق”.[5]
يقود هذا الجدل إلى العودة إلى الأرشيف، وإلى مرحلة سابقة، تحيلنا إلى رفع السرية عن محاضر الجلسات الموجودة في الأرشيف الوطني البريطاني، بحسب ما نشرته الصحيفة الألمانية دير شبيغل، الى جانب ما نشر سابقاً من وثائق لدى أرشيف الأمن القومي الأميركي، والمتعلقة بموضوع الاتفاق بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بتوحيد المانيا، وعدم التوسع شرقاً، يثير التساؤل حول الموقف البريطاني مما يحصل في الحرب الروسية الأوكرانية، -خاصة وأنّ رفع السرية مرتبط بمحاضر الجلسات التي سجلت اللقاء الأميركي الروسي للاتفاق حول مصير شرق أوروبا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي-ويكشف عن التخوفات من تمدّد هذه الحرب الى غرب أوروبا وضربها لألمانيا وفرنسا، وبالتالي وصولها الى حدود بريطانيا. يذهب الاعتقاد الى أن الكشف عن هذا الأرشيف الآن، هو تأكيد على خطورة ما يحصل وارتداداته على دول القارة الأوروبية. فبريطانيا لا ترغب في المواجهة مع روسيا (على الرغم من أنها في الحضن الأميركي)، وهي أيضا قلقة من التأثيرات السلبية لهذه الحرب على ألمانيا، والتي ستكون الضحية الأولى لهذه الارتدادات السلبية، وفرنسا لا تقل قلقاً عن ألمانيا. من المؤكد أن لبريطانيا رغبة في توسيع النفوذ والهيمنة على أوروبا، يؤكّد ذلك خروجها من الاتحاد الاوروبي، ورغبتها بالتفرّد والتسلط الأحادي، لكن سياسييها يدركون تمام الإدراك أن ذلك الأمر لن يتحقق في ظل أوروبا ساقطة ومنهارة في يد روسيا.
تكشف الوثيقة الجدل حول مدى قانونية هذه الوثيقة من عدمه، وإن كانت بالفعل وثيقة ملزمة للأطراف التي اتفقت على تفاصيلها كما يدّعي الروس، أو انها مجرد اتفاق شفهي بين طرفين يحاولان لملمة آثار نهاية حقبة من الصراع البارد بين القطبين. يبدو أن أهمية الوثيقة تكمن في أنها أولاً اتفاق مكتوب، وهذا ما أثبتته الوثائق التي كشف عنها، وفيها إشارة واضحة إلى وجود التزام مشترك بين روسيا والولايات المتحدة بوقف الحرب الباردة، وتقاسم النفوذ والمصالح في أوروبا، مع احترام أحقية روسيا في السيطرة على شرق أوروبا من دون تدخل حلف الناتو.
المقال، الذي يحمل عنوان “مزاعم التحقق من صحة أن الناتو والولايات المتحدة خرقوا اتفاقاً ضد توسع الحلف شرقاً”، يستكشف ادعاء المعلق المحافظ كانديس أوينز [6] بإصراره على أن الناتو، وبتوجيه من الولايات المتحدة، انتهك الاتفاقات السابقة مع روسيا من خلال التوسع شرقاً. هذا ما ردده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ومع ذلك، أشار الناتو رسمياً إلى أنه لم يتم التوصل إلى اتفاق من هذا القبيل، وأنّ أبوابه مفتوحة دائماً للأعضاء الجدد.[7]
عرضت صحيفة دير شبيغل هذا الجدال في مقال نشر على موقعها بتاريخ 15 فبراير 2022، تحت عنوان”توسع الناتو شرقاً، هل فلاديمير بوتين على حق؟”. يشير الكاتب الألماني كلاوس ويغريف، الى أن فلاديمير بوتين يصرّ على أن الغرب خدع روسيا بموضوع توسّع نفوذ الناتو شرقاً بعد نهاية الحرب الباردة. لكن يبدو أن الأمر معقّد جداً. في سبتمبر من العام 1993، كتب الرئيس الروسي بوريس يلتسين رسالة طويلة إلى الرئيس الأميركي بيل كلينتون، وبدأت الرسالة الموجهة إلى “عزيزي بيل” بالإشارة إلى “تبادل صريح للآراء” بين الزعيمين عن هذا الموضوع. كانت بولندا والمجر وجمهورية التشيك مهتمة بالانضمام إلى منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الأمر الذي أثار قلق الرئيس الروسي. وأشار يلتسين، بالطبع، إلى أنه يمكن لكل دولة أن تقرر بنفسها التحالف الذي ترغب في الانضمام إليه. اعتبر الشعب الروسي تمدّد حلف الناتو نحو الشرق بمثابة ” الحصار الجديد لروسيا”، وإنها عزلة، ويجب أخذ ذلك في الاعتبار.
أشار يلتسين أيضاً إلى المعاهدات 2+4 المتعلقة بإعادة توحيد ألمانيا في العام 1990. وكتب أن “روح المعاهدة” “تستبعد خيار توسيع منطقة الناتو إلى الشرق”. في هذه الرسالة كانت المرة الأولى التي تتهم فيها روسيا الغرب بعدم احترام التزامه. وعلى الرغم من حقيقة أن الأميركيين نفوا الاتهام، لم يتم العثور على حل للصراع – وهو وضع كان له عواقب وخيمة امتدت حتى يومنا هذا. نادراً ما تسببت أي قضية تاريخية أخرى في تعقيد العلاقات بين موسكو والغرب على مدى العقود الثلاثة الماضية، مثل الخلاف حول ما تم الاتفاق عليه تحديداً في العام 1990. في السنوات التي أعقبت إرسال بوريس يلتسين رسالته، قَبِل الناتو أربع عشرة دولة من شرق أوروبا وجنوب شرقها في الحلف. واشتكى الكرملين من تعرضه للخداع في كل خطوة. في الآونة الأخيرة، اشتكى الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين قائلاً: “لقد خدعتنا واشنطن بلا خجل.” [8]
يقول الديبلوماسي جورج كينان في العام 1998، وهو يُعدّ من أهم الخبراء الأميركيين في الشؤون الروسية، وأحد أهم الخبراء الاستراتيجيين، وهو صاحب نظرية “الاحتواء” الشهيرة بين القوتين العظميين إبّان الحرب الباردة. وكينان، السياسي المخضرم، حافظ على اتّزان نظريته الشهيرة، احتواء روسيا، يقول: إنّ توسّع رقعة الناتو شرقاً “سيؤسّس لحرب باردة جديدة”، واستطرد متهكماً على صنّاع القرار في واشنطن بأن “توسيع (الناتو) ناجم أصلاً عن قرار متسرّع من مجلس شيوخ لا يفقه شيئاً في السياسة الخارجية”[9] ويضيف كينان متحسّراً: إنّ آباءنا المؤسّسين يتقلّبون في قبورهم حسرةً، لأننا سندفع الثمن. حيث اعتبر أن توسع حلف الناتو في الجوار الروسي هو بداية لحرب باردة جديدة، “وخطأ مأساوي لا سبب له على الإطلاق”
الموقف الأوروبي والاستلاب السياسي
غير خفي النقاش غير المعلن الذي يجري بين النخب الأوروبية، بالتوازي مع موجة الشعبوية والعنصرية المتفشية اليوم في أوروبا، والأسئلة الإشكالية التي تُطرح، عن كيفية سماح قادة فرنسا وألمانيا للبريطانيين بالتدخل في شؤون الاتحاد الأوروبي بهذا الشكل، والتحريض والدفع نحو إشعال حرب بين أوروبا وروسيا، بعد خروج لندن من الاتحاد، وسعيها مع واشنطن إلى تجويفه، ومن ثم تحييده؟ وما هي مصلحة أوروبا في خوض حرب جديدة على ملعبها وبين جمهورها، تفرمل العجلة الاقتصادية، وتستعجل الكساد والخوف، بعد حربين عالميتين دمرتا أوروبا، وحرب في يوغسلافيا ذهب ضحيتها عشرات الآلاف في أعقاب الحرب الباردة. وفي الحروب الثلاثة لعبت واشنطن على أراضي غيرها، وبقيت بمنأى عن أهوال الحرب ونتائجها المدمرة؟
يقول الرئيس شارل ديغول: ليس النّاتو إلّا واجهة للهيمنة الأميركية على أوروبا، لأنّ القائد الأعلى للحلف هو دائماً ضابطٌ أمريكي (حتى ذلك الحين، لم يكن غير أميركي في سدة الأمانة العامة للحلف)، وأنّ القرارات السّياسية تتَّخذ بشكلٍ مشترك بين واشنطن ولندن، وليس الحلفاء الباقون سوى أتباع.
لا يخفى على متابع أنّ الدول الأوروبية متّهمة بالانصياع إلى واشنطن، وأنها تعاني من الاستلاب السياسي، وللموضوع شواهد لا يتّسع له هذا البحث، ولكن سنحيل القارئ إلى شاهدين فقط:
الأول، هو الحرب على العراق، ومعارضة فرنسا لها لأسباب تتصل بمصالحها، ولكن جورج دبليو بوش أمسك بيد طوني بلير، وأدارا ظهرهما للعالم، وقادا حرباً دمرت الدولة العراقية بحجة كاذبة وملفّقة. وفي أعقاب الحرب أصاب الرئيس الراحل جاك شيراك الرئيس الأرق وسعى جاهداً إلى مصالحة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، والتكفير عن خطئه.
الثاني، هو انسحاب إدارة الرئيس دونالد ترامب من اتفاقية العمل الشاملة المشتركة، أو الاتفاق النووي مع إيران، ووقوف الأوروبيين كشاهد زور لا حول لهم ولا رأي.
ولا ننسى قضية الغواصات النووية الفرنسية، كدليل على ضعف فرنسا، وطعن واشنطن لها في صميم كبريائها، وإنشاء تحالف أوكوس مع بريطانيا وأستراليا، ضاربة بعرض الحائط زعل حليفتها باريس في الناتو أو رضاها. وليس هناك من تفسير لإيقاف العمل بمشروع خط السيل الشمالي الثاني نورد ستريم 2 بعد جهد كبير بُذل لتنفيذه، وكلفة مادية وصلت إلى أحد عشر مليار دولار أميركي، سوى انّ ألمانيا رضخت لمطالب واشنطن وإملاءاتها بإيقاف العمل بالمشروع، وحرمان ألمانيا وأوروبا من ميزة تفاضلية، وسعر أرخص للغاز بحدود ال 25%، من دون تأمين البديل.
لذا نرى اليوم انّ الأوروبيين يعانون من التشتّت على مستوى القرار السياسي، ويعانون أيضاً من انكشاف ضعف شخصيتهم السياسية أمام واشنطن، فهم رغم تخوّفهم من الحرب في أوكرانيا، ومن تداعياتها الكارثية على الأمن والاقتصاد الأوروبيين، إلا أنهم انجرّوا خلف واشنطن ولندن، ولم يجرؤوا على الاعتراض، وكانوا كمن يطلق النار على قدميه، او كمن يشعل النار في ثيابه، ومن ثم يملأ الدنيا صراخاً لإنقاذه من نفسه.
ألمانيا، إعادة العسكرة، كسر قواعد النظام الدولي الحالي
من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية أن العالم بدأ يتغيّر، وأنّ ما كان ممنوعاً أصبح مقبولاً، بل ومطلوباً ربما. ينطبق ذلك على المانيا. التي من المعروف أنها التزمت على امتداد مرحلة نظامي القطبين، ومن ثم القطب الواحد بقواعد وضعتها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وأهمها الالتزام بعدم تسليح ألمانيا، وعدم السماح لها بتسليح نفسها. وأنّها بفضل هذه القواعد حقّقت قفزة اقتصادية وسياسية مهمة جداً، سواء في بناء الدولة الألمانية الموحدة المتقدّمة على المستوى الصناعي، أو في تنفيذ مشروع الوحدة الأوروبية. اليوم بدأت الأوضاع تتغيّر. الدول المنتصرة في الحرب العالمية، وصاحبة قواعد العمل المعمول بها في النظام الدولي، والتي تبنّتها هي نفسها، صارت تتخلى من دون خشية أو رهبة عن التزامها بتلك القواعد.
” تخلت الولايات المتحدة مراراً عن هذا الالتزام عندما شنّت غزوات متكررة على دول أخرى إثباتاً لحقّها في أنها أصبحت القطب الأوحد في نظام دولي مختلف عن نظام القطبين. أما أن تفعل روسيا الآن الشيء ذاته، فهذا تطوّر يعني للألمان وغيرهم أحد أمرين؛ أولهما، أنّ النظام الدولي ذا القطبية الأحادية بالفعل يتغير، ولم تعد قواعد عمله، التي هي قواعد عمل النظام السابق، محل التزام القوى العظمى كافة. وثانيهما، أنّ فراغ القوة في النظام الإقليمي الأوروبي صارت له قوة جذب صعبٌ جداً على روسيا مقاومتها؛ روسيا هذه القوة المجاورة والكبيرة والمتطلعة للاستفادة من التغيير، برغم أنها كانت في القرن التاسع عشر القوة الأوروبية الأكثر محافظة، والمعادية للتغيير باستثناء المرحلة البولشيفية، في ظني أنها تعود. لو صح هذا المعنى، علينا أن نتوقع خلال الفترة القادمة سباق تسلح بين دول أوروبا يقوي من ساعد احتكارات السلاح العملاقة، ويضاعف من نفوذها السياسي. علينا أن نتوقع في الوقت نفسه زيادة في وتيرة صعود التيارات والزعامات الشعبوية في أوروبا.”[10]
في حسابات التفاضل والتكامل الأميركية، تعتبر ألمانيا قوة اقتصادية. من حيث التاريخ والجغرافيا والاستراتيجية الجغرافية، هي القوة الأوروبية الوحيدة الموثوقة اليوم التي يمكن أن تدخل في مواجهة مضمونة مع روسيا، وومن غير المُستغرب أن التدخل في العلاقات الروسية الألمانية كان النهج الذي حرصت عليه واشنطن طوال الوقت.
وبحسب ملكولانغارا بهادرا كومار (Melkulangara Bhadrakumar)، الدبلوماسي الهندي السابق الذي تنقّل خلال ثلاثة عقود بين باكستان وأفغانستان وإيران والاتحاد السوفياتي السابق. ربما اعتقد المستشار الألماني أولاف شولز أنّ أداءه أمام كل هؤلاء السياسيين الأميركيين الأقوياء الذين كانوا حاضرين في ميونيخ صنع انطباعات ممتازة بخصوص ما أراد توضيحه. فهو أراد أن يثبت ابتعاده عن روسيا، في الوقت الذي كانت فيه وسائل الإعلام الأميركية تسخر من أنّ ألمانيا لم تعد حليفاً غربياً. قد أدّت ألمانيا دوراً مماثلاً ومشكوكاً فيه في التفاوض على “اتفاقيات مينسك”. فصيغة شتاينماير (الرئيس الألماني الحالي، فرانك شتاينماير) التي تقترح وضعاً خاصاً للمنطقة الانفصالية، هي مسار توافقي. لكن برلين تراجعت لاحقاً عن التزامها بتوجيه النظام في كييف، وإلزامه بتنفيذ الاتفاقية. ولكن، ربما انصاعت ألمانيا لرغبات الأميركيين.[11]
الصين وروسيا ومواجهة الولايات المتحدة
“قبل خمسين عاماً، وجهت الولايات المتحدة ضربة إلى الاتحاد السوفياتي، ولكنها ساعدت أيضاً في خلق وحش جيوسياسي جديد”، يشهد شهر آذار مرور مئة عام على ميلاد الحزب الشيوعي الصيني، وهي الذكرى المئوية التي احتفل بها الرئيس شي جين بينغ بالتعهد بأنّ أعداء الصين سوف «تتحطم رؤوسهم دامية على جدار فولاذي ثقيل». ويصادف التاريخ أيضاً الذكرى السنوية الخمسين للحظة الأكثر تفاؤلاً في العلاقات الصينية الأميركية: وهي رحلة هنري كيسنجر السرية إلى بكين في العام 1971.
فلقد أنهت الاجتماعات بين كيسنجر، مستشار الأمن القومي للرئيس ريتشارد نيكسون آنذاك، ورئيس الوزراء الصيني تشو إن لاي، جيلاً من العداء، ومهدت الطريق أمام شراكة استراتيجية تاريخية بين البلدين. واليوم، فيما تندفع الصين والولايات المتحدة نحو المواجهة، من المغري أن ننظر إلى الانفتاح على بكين باعتباره بداية لما يقرب من خمسين عاماً من الانخراط الخاطئ إزاء قوة معادية بالأساس. ولكن من الجدير بنا أن نتذكّر أنّ الانفتاح بدأ باعتباره سياسة ذكية، وبالغة الصرامة، تلك التي ساعدت في الفوز بالحرب الباردة، وغيّرت علاقة الصين مع العالم بأسره.”[12]
“وترتبط التحديات الأمنية الإقليمية بصلات واضحة مع المشهد الجيوسياسي الأوسع الذي شكلته المنافسة بين الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا والصين. لا يزال التحليل الجيوسياسي بتفكيره القديم، والعالق في عقلية مضى عليها عقد من الزمان، يعتقد أن التمحور حول مناطق أخرى من العالم أو إعادة التوازن لمواجهة التحديات التي يمثّلها بلد معين أمر ممكن. هذا خطأ في قراءة الخريطة الجيوسياسية اليوم تماماً مثلما أخطأ أولئك الذين يتبنون ببساطة مبدأ الانسحاب والعودة إلى الوطن للسماح للبلدان الأخرى بإعادة تشكيل الخريطة. إذ لا توجد بالفعل رغبة قوية في الانسحاب من العالم في واشنطن في الوقت الحالي، على الرغم من الضجة التي تشير إلى عكس ذلك. في الشرق الأوسط، عمدت كل من روسيا والصين بشكل مطّرد إلى تعميق علاقاتهما ومشاركتهما مع الدول الرئيسة. أصبحت المنطقة ساحة مهمة للمنافسة الجيوسياسية على جبهات عديدة، بما في ذلك العمليات العسكرية التقليدية، كما رأينا في الجولة الأخيرة من التدريبات البحرية بين إيران وروسيا والصين“[13].
التحالف الصيني الروسي:
يقول المؤلف وأستاذ الاقتصاد الأميركي، مايكل هدسون، إنّ “الإمبراطورية الأميركية تدمّر نفسها ذاتياً، لكنّ أحداً لم يخطر على باله أنّ ذلك سيتم بهذه السرعة”، مسترشداً بدروس “تراجيديا الإغريق لنهاية الإمبراطوريات”، التي تحتّم على الدول التصرف بمفردها، وفق ما تقتضيه مصالحها. وأنّ سياسة “العقوبات الاقتصادية الأميركية والمواجهة العسكرية ضد روسيا واستعداء الصين دفعت بهما إلى نسج علاقات أوثق، وأدّت بالدول الأخرى إلى التقارب من “المدار الأوراسي المتبلور”[14]
لم تبدُ الإمبراطوريّة الأميركيّة في حالة ارتباك، كما تبدو هذه الأيّام. وهي لم تتحضّر لهذه اللحظة. أحسن ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر التحضير للحظة التوتر في العلاقة بين الجبّارين عبر تحسين العلاقة مع الصين. أمّن ذلك إمكانيّة محاصرة الاتحاد السوفياتي بجبّاريْن، لا يتشاركان في الأيديولوجيا.
في هذا السياق يقول والتر راسل ميد في مقال في وول ستريت جورنال إنّ الديمقراطيات الغربية أصبحت اتحاداً كونفدرالياً غير محكم الترابط وصارت “مجرد كلام، من دون فعل”، وأنّ “الواقع القاسي هو أن أميركا وحلفاءها يخسرون الأرض أمام خصومهم، وميزان القوى يتحرك بحدة ضدنا، وإنّ الغرب قد نسي ما يعنيه الفوز، بينما أصبح يجيد الخسارة. ويستشهد بسلسلة من الهزائم بدءاً من نورد ستريم ” الغاز الروسي لأوروبا”، إلى حملات الصين على التبت وهونغ كونغ وشينغيانغ، إلى غزو روسيا لجورجيا وأوكرانيا – كل ذلك حدث من دون أي رد جاد من الحلفاء.”[15]
ويتحدث ويليام مولوني في “ذا هيل” عن وجود ثلاث قوى عظمى في العالم اليوم، هي الولايات المتحدة، وروسيا، والصين. وقال إن الأخيرتين تتماشيان بشكل وثيق مع هدف مشترك يتمثل في الإطاحة بالهيمنة العالمية لأمريكا. وللأسف، أدى سوء إدارة أمريكا لعلاقاتها مع روسيا إلى جعل هذه النتيجة أكثر احتمالاً.
منذ نهاية الحرب الباردة، سعى رؤساء أمريكا إلى الحفاظ على علاقة مقبولة، وإن لم تكن ودية، مع روسيا. في هذا القرن، سعى كل من جورج بوش (الابن) الذي قال “نظرت في عيني بوتين ورأيت روحه” وباراك أوباما الذي قال: “بعد انتخابي لدي المزيد من المرونة” إلى الحفاظ على علاقات محترمة مع الرئيس الروسي مع تجنب الاستفزازات التي لا داعي لها، والتي قد تدفع فلاديمير بوتين إلى استنتاج أن المصالح الاستراتيجية والاقتصادية لبلاده تُخدم بشكل أفضل في الشرق منها في الغرب.
ومع ذلك، فقد انتهت هذه المقاربة مرة واحدة عندما أصبحت روسيا فجأة محوراً للسياسة الحزبية الفظّة في أمريكا خلال الانتخابات الرئاسية للعام 2016، واستمرت طوال فترة دونالد ترامب في البيت الأبيض. ونتيجة لذلك، تمّ إعادة تعيين روسيا في دور “العدو الرئيسي” للحرية الأميركية، واضطر السياسيون الأميركيون إلى إثبات أنهم سيكونون “أكثر صرامة مع روسيا” من خصومهم السياسيين. [16]
وفي السياق عينه، يؤكّد هالفورد جون ماكيندر، مؤسّس التحليل الجيوسياسي في كتابه “المثل الديمقراطية والواقع” (1919) على أهمية الأرض المقدّسة لبريطانيا العظمى كي تتحكم بقناة السويس. وفي المنظور الجيوسياسي الأوسع يحذّر ماكيندر من أنّ إنشاء خط سكة حديد عبر سيبيريا سيعطي القوى البرية القدرة على مواجهة القوى البحرية للدول العظمى من المنطقة الأورو- آسيوية. وأكد أن الحربين العالميتين، والحرب الباردة شنّت من أجل الحفاظ على ما أسماه ماكيندر دول “المركز” ومنعها من السيطرة على الدول القومية الساحلية في المنطقة الأورو- آسيوية.
ولكن يبدو أنّ كابوس ماكيندر الرهيب اليوم اقترب من الحقيقة، فالأنظمة المستبدة في روسيا وإيران والصين التي تنسق مع كوريا الشمالية والبقية، تقع في قلب المركز الذي تحدث عنه ماكيندر، ولها تأثير قوي على الليبراليات الديمقراطية في أوروبا والهند والشرق الأقصى. وتقوم الصين عبر “مبادرة الحزام والطريق” بربط المنطقة الأورو- آسيوية بها، اقتصاديا وعسكريا وثقافيا.”[17]
البيان الروسي ـ الصيني المشترك، هل هو إعلان عصر جديد في العلاقات الدولية؟
بدأت زيارة بوتين للصين بتوقيع اتفاقيات واسعة النطاق بشأن الإمدادات الإضافية من الغاز الطبيعي الروسي إلى الصين، علاوة على ذلك، سيتم نقل عشرة مليارات متر مكعب أخرى من الوقود الأزرق على طول طريق الشرق الأقصى إلى الصين، من حقل يخضع لعقوبات أميركية، ويعبّر خبراء روس عن قناعتهم بأنّ السوق الصينية ليست فقط قادرة على استبدال السوق الأوروبية بالنسبة إلى روسيا، بل ستحرر يد موسكو.
ويقول الباحث في الشؤون الاقتصادية ألكسندر دودتشاك إن هذا الاتفاق بين بكين وموسكو لا يجلب بالنسبة إلى روسيا تغييرات اقتصادية فحسب، بل تغييرات جيوسياسية أيضاً، إذ ستضطر أوروبا في المستقبل إلى التنافس بجدية مع الصين على الغاز الروسي،(قبل الحرب الروسية الأوكرانية. بعد الحرب سيكون معظم الإنتاج الروسي من نصيب الصين، بعد فرض العقوبات على روسيا، والبدء بالاستغناء عن الغاز الروسي في أوروبا على المديين المتوسط والطويل) كما سينمو حجم السوق بشكل أسرع، لأن الصين أعلنت عن خطط لتحييد الكربون (أي الاستغناء عنه) بحلول العام 2060.”[18] كما سينمو حجم السوق بشكل أسرع، لأنّ الصين أعلنت عن خطط لتحييد الكربون (أي الاستغناء عنه) بحلول العام 2060.
لماذا لا يستطيع خصوم واشنطن إقامة تحالف يحميهم من الولايات المتحدة والغرب.؟
عملت الولايات المتحدة تاريخياً على استفراد خصومها، عقوبات على إيران، عقوبات على روسيا، عقوبات على الصين (شركة هاواوي) وعلى كوبا تاريخياً، ومحاصرة فنزويلا، وعقوبات قاسية على سوريا. فإذا كانت الولايات المتحدة استطاعت بعد الحرب العالمية الثانية بناء المعسكر الرأسمالي وقيادته، وما زالت هي المؤثّر الأبرز فيه، فلماذا لا تؤلّف هذه الدول تحالفاً أو تفاهماً أو إطاراً يخدم مصالحها؟ أم أنها تفتقد إلى الرؤية المشتركة، أو أنّها غير معتادة على قيادة نفسها، أو انها فقط تعمل على توصيف الواقع، وعرض مظلوميتها أمام الهيمنة الأميركية. وهذه الدول نفسها تشغل مع بعض أصدقائها حيّزاً وازناً من الاقتصاد العالمي، ومن سوق الطاقة، نفطاً وغازاً، وعلى المستوى البشري هي متقدمة جداً على المعسكر الغربي، إضافة إلى الموقع الجيوسياسي، والممرات المائية الأكثر أهمية.
الخاسرون والرابحون في الازمة الأوكرانية
تحت زخم القنابل والمعارك، والحملة الإعلامية الهائلة التي يقودها الغرب، وهي من أدوات الحرب، يزداد الأوروبيون يقيناً كل يوم بأنّ المخاطر والارتدادات غير المحسوبة، ستؤدي الى نوع من الخراب العام الذي قد يفشلون في مواجهته، في وقت بدأت شعوب هذه الدول تشعر بخطورة الأوضاع، خاصة أمام ارتفاع أسعار المحروقات والغاز والمواد الأساسية والقمح، وظهور أزمة لاجئين ونازحين بالملايين هذه المرة، هرباً من المعارك وغيرها من الأزمات والمشاكل. وأشارت صحيفة فورين أفيرز إلى أنّ إدارة الاقتصاد الأوروبي لعدة سنوات من دون الغاز الروسي صعب ومكلف للغاية.. ومستحيل من الناحية المادية”[19]
أنّ مجرّد انتقال الحرب الطاحنة من الشرق الأوسط إلى داخل البيت الأوروبي هو خسارة فادحة لأوروبا، وإنّ تحويلها إلى بؤرة صراع مشتعلة على المستوى الأمني يُعَدّ كارثة حقيقية للأوروبيين، إضافة إلى إمكانية جعل أوروبا ملاذاً للإرهابيين والمتطرفين والنازيين الجدد، والجماعات التكفيرية والشركات الأمنية من فاغنر والبلاك ووتر وغيرهما.
روسيا الخاسر الأول
فالخاسر الأول مبدئياً هو روسيا، حتى ولو فازت في الحرب التي استدرجت إليها مع جارتها أوكرانيا بسبب العلاقات التاريخية بين البلدين، ولأنّ الحرب قد تطول، فسيكون هناك شرخ كبير بين الشعبين الأوكراني والروسي، إضافةً إلى استثمار واشنطن في هذه الحرب، وضرب حصار اقتصادي غير مسبوق وخانق على روسيا وشعبها، وهذا ما عبّر عنه الكاتب توماس فريدمان في وصفه للعقوبات الاقتصادية أنها قنبلة اقتصادية نووية، وأنّ الرئيس بوتين لم يرَ سوى “نصف العبء بعد” معتبراً أنّ الحرب تثبت أنّ “محو روسيا الأم يجري على قدم وساق”. وأكّدت على ذلك مساعدة وزير الخارجية الأميركي فيكتوريا نولاند، التي تعتبر مهندسة السياسة الأميركية حيال روسيا في السنوات الأخيرة، إنّ العقوبات الشاملة التي فرضها الغرب وحلفاؤه، فضلاً عن دعم الجيش الأوكراني بالسلاح بغية إطالة أمد الحرب قدر المستطاع، يجب أن ينتهيا إلى “هزيمة استراتيجية لروسيا”. ولهذا صرّح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن روسيا تخوض معركة حياة أو موت في أوكرانيا.
أوكرانيا أكبر الخاسرين
أما أوكرانيا فهي الخاسر الثاني والأكبر، لأنّ حرباً طاحنة تجري على أرضها بين قوتين عظميين عسكرياً، روسيا وحلف شمال الأطلسي، حتى لو كان ذلك مواربةً وعبر الجيش والشعب الأوكرانيين، ويتحمّل أهلها أهوال الحرب ومآسيها، وتدمير بناها التحتية واقتصادها، وهجرة كثير من مواطنيها إلى الخارج، مع مترتبات النزوح والتهجير نفسياً واجتماعياً على الشعب الأوكراني. وأنّ احتمال تقسيمها أمر قائم، إضافة إلى ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، واعترافها بانفصال إقليمي دونيتسك ولوغانسك.
أوروبا مسلوبة القرار
أما أوروبا، فهي الخاسر الثالث، لأن انتقال الحروب من الشرق الأوسط إليها ليس تفصيلاً، وما يعنيه من دمار وموت وتهجير، وإعادة توجيه الدول نحو المجهود الحربي، واستعادة أجواء الحرب الباردة، التي تحولت إلى حرب ساخنة إلى أرض أوروبية. ولا سيما انّ أهوال الحرب العالمية الثانية ما زالت حاضرة في أذهان الأوروبيين وسهراتهم، وحكايات الموت والجوع والبَرْد على ألسنة الأجداد الذين ما زالوا أحياء. واحتمال انفلاش الحرب إلى دول أوروبية أخرى مثل بولندا ورومانيا وبيلاروسيا وغيرها قائم ومحتمل. إضافة إلى التضخم الكبير والكساد، من جراء ارتفاع أسعار الطاقة والغاز، لا سيما، وأنّ أوروبا والعالم لم يخرجا بعد من كارثة فيروس كورونا.
والعامل الأكثر أهمية وضرراً هو توقف أو إلغاء العمل في مشروع نورد ستريم ٢،وعدم استفادة ألمانيا من تحويلها إلى دولة موزّعة للغاز في أوروبا، وتخفيض الكلفة الى ربع ما كانت عليه قبل الحرب، واستفادتها من عبور الأنابيب من أراضيها.
على المستوى الأمني
تحويل أوروبا إلى بؤرة للجماعات الإرهابية، وإمكانية أن تنتقم روسيا من دولها التي أصبحت مصدّراً لمجموعات تقاوم الغزو الروسي، ونقطة انطلاق للجماعات المتطرفة لمقاتلة روسيا، وبالتالي ستتجرع أوروبا من نفس الكأس الأمنية المرّة التي تذوّقتها دول الشرق الأوسط، عبر توترات وانفجارات واغتيالات، لتتحوّل إلى ساحة صراع بين أجهزة الاستخبارات العالمية.
وأنّ فتح الحرب الأمنية على روسيا انطلاقاً من أوروبا، سيحوّل القارة العجوز إلى محرقة، ولا سيما بعد حصار روسيا وعزلها وفرض العقوبات القاسية عليها. ولأنّها ستعتبر أنها لن تخسر شيئاً بعد هذا المستوى من العقوبات والتحريض والشيطنة لها.
على المستوى الثقافي والحضاري والقيمي
الكشف عن وجود جوّ عنصري في أوروبا، والحالة المستجدة أنّ الموضوع أصبح بين الأوروبيين، شرقيين وغربيين، وليس بين أوروبيين وآسيويين وأفارقة. أو بين مجتمعات يهودية ومسيحية متحضّرة، وبين مجتمعات إسلامية متخلّفة، كما أراد صموئيل هنتنغتون قوله في كتابه صدام الحضارات. وشيطنة روسيا دولة وشعباً وثقافة مواطنين ومبدعين. (حذف تدريس الأديب العالمي دوستويفسكي من إحدى الجامعات الأوروبية، إضافة إلى طرد المليونير الروسي رئيس نادي تشيلسي البريطاني رومان إبراموفيتش من بريطانيا بطريقة مهينة، وعدد كثير من الحالات المماثلة، عبر السطو على طائرات خاصة، ويخوت فخمة لأثرياء روس، ما حوّل سلوك بعض الدول الأوروبية إلى سلوك مافيوي …)
هذا المزاج العام سيعطي اليمين المتطرف والعنصريين في أوروبا زخماً وأرضاً خصبة لممارسة عنصريتهم، وما يمكن أن يؤدّي ذلك إلى معاداة المواطنين الأوروبيين من أصول لاتينية وعربية وآسيوية وإفريقية.
الولايات المتحدة الأميركية
لا شكّ أنّ الولايات المتحدة الأميركية كانت هي المحرّض الأول على الحرب بين أوكرانيا وروسيا، وهي من المستفيدين الرئيسيين لعدد كبير من الأسباب، وهي التي منعت الأوروبيين والأوكران من تقديم ضمانات وتطمينات لروسيا.
أولاً يغلب على السلوك الأميركي – بحسب هوى الإدارة الحاكمة- التخبط في ترتيب الأولويات بين مخاصمة روسيا، والنزاع مع الصين، فبحسب الأوراق الاستراتيجية الثلاث للأمن القومي الأميركي، فإنّ الهمّ الأكبر لدى صنّاع القرار الأميركي هو الصين ابتداءً، وليس روسيا، ولكن السؤال المطروح هو لماذا تقدّم الملف الروسي على الملف الصيني؟
على الرغم من العداء الشديد الذي أبداه فريق جو بايدن تجاه روسيا، منذ وصوله إلى مواقع القرار، فإنّه حدّد الصين أيضاً على أنها “التهديد النظامي الرئيسي للنظام الدولي القائم، نتيجة لقدرتها على استخدام قوتها العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية والمالية لتغيير طبيعته”، كما ورد في التوجيهات المؤقّتة لاستراتيجية الأمن القومي، الصادرة عنه في آذار 2021. سيؤدي ذلك إلى الانشغال عن التفرّغ الكامل لمواجهة الصعود الصيني، وذلك في نقل الجهد والموارد (أمنية، تسليحية، استخباراتية، إعلامية، تعبوية) إلى الجبهة الأوكرانية الروسية. وهذه الفترة غير معلوم نهايتها وتداعياتها).
ثانياً: وبسبب الضغط على روسيا وتطويقها، أصبحت الحاجة إلى تقديم التنازلات أمام الخصوم ملحّة، ولا سيّما الدول المصدّرة للنفط والغاز لتخفيض أسعار الطاقة التي وصلت إلى أرقام قياسية، وعدم إمكانية إيجاد البديل في المدى القريب. وإيران وفنزويلا في مقدمة هذه الدول. وفي السياق نفسه زارت مساعدة وزير الخارجية الأميركي ويندي شيرمان الجزائر كي تقنع الرئيس عبد المجيد تبون بفك تحالفه مع موسكو، وزيادة ضخ الغاز الجزائري إلى القارة الأوروبية عبر خط الأنابيب الذي يمر عبر المغرب.
ثالثاً: الدفع بروسيا نحو الحضن الصيني بشكل كلّي، وتجاوز تجربة كيسنجر/ نيكسون، ونصيحته الشهيرة، في دق الإسفين بين الصين والاتحاد السوفياتي سابقاً، الصين وروسيا حالياً. وعدم مخاصمة عدوّين كالصين وروسيا في وقت واحد.
رابعاً: الدفع بالصين وروسيا وإيران وفنزويلا وكوبا وكل المتضررين من العقوبات الأميركية المتمادية إلى التفتيش عن بدائل للتعامل بالدولار، أو بإيجاد بديل عن نظام سويفت، وتفعيل التبادل التجاري البيني بين هذه الدول. وما فعلته روسيا بإلزام الخصوم بشراء غازها ونفطها بالروبل الروسي يأتي في هذا السياق.
خامساً: استفادة الصين من تجربة الحرب الروسية الأوكرانية، على المستوى العسكري، وعلى مستوى تجربة العقوبات الاقتصادية، وعلى مستوى النتائج (إيجابية أو سلبية) نجاح روسيا أو إخفاقها في تحقيق الأهداف، للبناء عليها في موضوع تايوان، وانفصالها كدولة مستقلة وكخنجر في خاصرة الصين أيضاً.
على المستوى الأخلاقي والقيمي
انخرطت شركات التواصل الاجتماعي في المعركة ضد روسيا، فعدا عن مقاطعتها لكل محتوى روسي، سمحت شركة ميتا المالكة لفايسبوك وإنستغرام بنشر محتوى تحريضي ضد الجنود والقادة الروس، وهذه سابقة من نوعها، ولكن في حسابات الربح والخسارة، فإنّ الولايات المتحدة هي الرابح الأكبر في هذه الحرب، لعدد من الأسباب منها:
أولاً: بثّت الولايات المتحدة الروح في حلف شمال الأطلسي الذي كان يعاني موتاً سريرياً بحسب تعبير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ولأنها خلقت عدواً جديداً للأوروبيين، تستطيع من خلاله إرهابهم وتخويفهم، وبالتالي السيطرة النفسية على القارة العجوز، إضافةً إلى لمّ شمل الحلفاء بعدما كاد يفرّق دونالد ترامب شملهم.
ثانياً: إشاحة النظر عن المشاكل الداخلية التي تعانيها الولايات المتحدة، ولا سيّما بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وبالتالي رفعت الحرب من شعبية الرئيس جو بايدن، الذي كان يفتش عن إنجاز تحققه إدارته على المستوى الخارجي، وفشل في ذلك (إيران، الصين، كوريا الشمالية، حرب اليمن، الانسحاب الآمن من أفغانستان..) وبعدما أخفق في إنعاش الاقتصاد الأميركي على المستوى الداخلي.
ثالثاً: تحييد موسكو وشيطنتها، وتقليص دورها على الصعيد الدولي، عبر محاصرتها اقتصادياً وإعلامياً وسياسياً ورياضياً وثقافياً ونفسياً. ووضع الرئيس دونالد ترامب في موقع دفاعي، بسبب علاقته مع الرئيس بوتين. إضافة إلى الكشف عن مدى التحالف بين الصين وروسيا وجدّيته ومداه وحدوده، بعد القمة الأخيرة بين الزعيمين الصيني والروسي في شباط 2022.
رابعاً: تخويف الصين أو أي دولة تريد الخروج عن الرغبة الأميركية ومخالفتها، عبر النظر إلى ما حصل مع روسيا، من خلال الحصار والعقوبات، والمعني الأوّل بذلك الدرس هو الصين قبل غيرها.
خامساً: إعادة تأكيد المؤكّد من أنّ الولايات المتحدة الأميركية ما زالت تمسك بمفاصل العالم السياسية والمالية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، برغم الهزائم والندوب والجراح التي تلقّتها في العراق وأفغانستان، وهي عملت على إعادة تلميع صورتها كقطب وحيد يحكم العالم.
سادساً: تأكيد نجاعة الاستراتيجية الأميركية الجديدة – بعد حربي العراق وأفغانستان- القاضية بمحاربة الخصوم بأدوات الآخرين ومواردهم وجنودهم، وهو ما يحقّق نتائج كبيرة، بخسائر محدودة جداً، وبأكلاف اقتصادية وبشرية ضئيلة ومقبولة.
سابعاً: كشفت الحرب الروسية الأوكرانية، أنّه ليس لدى روسيا حلفاء حقيقيين، وأنّ ما حاولت صياغته سياسياً عبر التحالف على القطعة أو الملف، إذا صحّ التعبير، في سوريا، وفي الملف النووي الإيراني، وفي فنزويلا، والعلاقة مع إسرائيل، ومع تركيا؛ أثبت عند الامتحان الحقيقي أنه ارتدّ عليها وقت الحسم.
ثامناً: وهو الإنجاز الأكثر أهمية، أنّ واشنطن تكاد تنجح في تأخير ولادة النظام الدولي الجديد الذي كانت تستعجله روسيا، وتحذَر من الوصول إليه الصين، فكرّست واشنطن نفسها أنها ما زالت في المقدّمة، وكل الطموحات لروسيا والصين في مشاركتها قيادة العالم، قد تم تأجيله إلى أجل غير معلوم.
خاتمة
حاولت روسيا الهروب من الزاوية التي أراد الغرب وضعها فيها، فاستبقت الإطباق عليها، وبالتالي تحويلها إلى دولة إقليمية من الدرجة الثانية عالمياً، وليس قوة كبرى طامحة إلى المشاركة في قيادة العالم. وبعد أكثر من شهر على انطلاق العملية العسكرية ضد أوكرانيا، يمكن التحليل بأنّ العملية حققت بعض النتائج، ولكنها بالمقابل دفعت ثمناً كبيراً باهظاً لقاء تحقيقه.
1- استطاعت روسيا منذ اللحظة الأولى لإعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انطلاق العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، والتي أتبعها بإعلان الاستنفار في القوة النووية الاستراتيجية الروسية بفرض منطق روسيا في شن تلك الحرب تحت العتبة النووية، وبذلك يكون قد تجاوز الناتو، وقفز مباشرة إلى تحدي الدولتين النوويتين الأكبر في العالم الولايات المتحدة وبريطانيا اللتين اتخذتا كل التدابير اللازمة التي تحدّ من الأخطاء التي قد تدفع العالم كله إلى حافة الحرب النووية.
2- استطاعت روسيا الدخول في حرب طاحنة مع “أوكرانيا”، وهي منطقة الحرب الرمادية الأميركية البريطانية النموذجية ضدها، والتلويح بسحق أي دولة أخرى وتدميرها إذا تجرأت على تقديم أراضيها لأعداء روسيا الاستراتيجيين كساحة ثانية للحرب الرمادية من دول أوروبا الشرقية أو حتى الغربية (كفنلندا والسويد).
3- حوّلت روسيا تجمع دول أوروبا الشرقية والوسطى إلى مشروع ميدان، وجبهة حرب مستقبلية لها، ما يعني أن تلك الدول ستدفع ما دفعته روسيا من أثمان جيوبوليتيكية في أوروبا، وبدل من تحوّلها إلى حاجز بين روسيا وأوروبا، ستصبح تلك الدول بلا قيمة استراتيجية، بل حتى أن وقوفها خلف الناتو لحمايتها من روسيا سيصبح محل نقاش كبير.
4- أضعفت الحرب الروسية الأوكرانية سمعة الناتو، وشكّكت بدوره الوظيفي، بعد أن بدأت بعض الدول الكبرى الأوروبية تجديد الحديث عن صيغة استراتيجية للحماية تتّخذ من مجلس التعاون الأوروبي إطاراً عسكرياً بديلاً للناتو، كما أنها ساهمت عبر تلويحها بالخيار العسكري ضد دول أوروبا الشرقية بتحويل تلك الدول إلى عبء على الناتو، وليس ظهيراً مسانداً للمنظمة لاستهداف روسيا.
5- أظهرت الحرب تمايزاً لبعض حلفاء الولايات المتحدة، ولم تتخذ هذه الدول موقفاً منحازاً ضد روسيا، كما أرادته واشنطن. كلٌّ له أسبابه وخصوصياته. نتحدث عن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، الهند. حتى إن “إسرائيل” اتخذت موقفاً ضبابياً من الحرب، ولم تحدّد موقفها بشكل حاسم.
6- أدّت الحرب إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز بشكل كبير، ما أثّر على المحفظة النقدية للمواطنين الأوروبيين، ما جعلهم يطرحون أسئلة كثيرة، وبصوت عالٍ عن مصلحة أوروبا في الدخول في حرب مع روسيا، بناءً على رغبة أميركية بريطانية في استعداء روسيا. يأتي ذلك بموازاة صعوبة التخلص من الغاز الروسي واستبداله بمصادر أخرى في السنوات القادمة.
في المقابل تجرعت موسكو أثماناً باهظة بسبب العملية العسكرية، وتمثلت بالتالي:
- التأثير الجدي لحجم العقوبات الهائل على الاقتصاد الروسي، وعلى مستقبل التنمية في روسيا، وعلى رفاهية شعبها، وهذا ما قد يستغله الغرب لخلق موجات متتالية من الاضطرابات الشعبية المنظمة، التي يتقنها الغرب.
2-إنّ إخفاق روسيا حتى الآن بالإطاحة بحكم فولوديمير زيلينسكي سيخلق لها جاراً تتحكم به العقلية الثأرية، وهذا ما قد لا تضمنه موسكو في المستقبل من أن يتحول إلى تزعم عمليات تحريك شعبية أو انتقامية في روسيا مع الإبقاء على هدف تحرير ما احتلته روسيا من أراضيه حتى ولو بعد عقود طويلة. وخلق بيئة معادية في أوكرانيا، جرّاء الحرب والتدمير والموت والتهجير.
3- فقدت روسيا التواصل الحر والمباشر مع أوروبا، وبالتالي فقدت موطئ قدمها الأوروبي، وتحوّلت مجموعة دول أوروبا الشرقية حكماً إلى دول غير صديقة، ما يحرم روسيا لفترة طويلة من الاستثمار والتوجه غرباً، وهذه الخسارة بميزات جيوبوليتيكية مهمة على صعيد صراع الزعامة العالمي. فضلاً عن فقدانها لأسواق واعدة لن تعوّض لفترة طويلة.
4- لم تستطع روسيا أن تفرض بعد التعددية القطبية، على الرغم من عمليتها الكبيرة في أوكرانيا التي وضعتها بمواجهة معظم دول العالم، ولا زالت الولايات المتحدة متصدّرة ومتفوقةً.
5- تعرّض سمعة الجيش الروسي إلى المساءلة والنقاش، بعد الإخفاق في تحقيق الأهداف بعد شهر من العملية العسكرية.
6- تذبذب الدول الحليفة لروسيا من اتخاذ موقف واضح إلى جانبها، ابتداءً من الصين مروراً بإيران والهند. لجملة من الأسباب، لكل دولة اعتباراتها الخاصة. ولا سيّما أنّ العملية العسكرية ما زالت بطيئة في تحقيق الأهداف.
7- محافظة الولايات المتحدة الأميركية على زعامتها للعالم، وتأجيل ولادة النظام الدولي الجديد الذي كانت تطمح إليه روسيا والصين إلى أجل غير مسمّى.
الهامش
[1] -(صحيفة “دير شبيغل” الألمانية، 27 شباط/فبراير 2022).
[2] – “آسيا تايمز”: ماذا عن حماقات بايدن وجونسون في الأزمة الأوكرانية؟ جوزيف ناثان، موقع “آسيا تايمز” هو المؤسس والمستشار الرئيسي في شركة “آسيا للاستشارات الاستراتيجية”. عمل مستشاراً رئيسياً لدى العديد من الوكالات الاستشارية في آسيا لأكثر من ثلاثة عقود. ترجمة منى فرح، موقع 180 بوست 13/2/2022
[3] – Henry A. Kissinger How the Ukraine Crisis Ends The Washington Post March 6/2014 https://www.henryakissinger.com/articles/how-the-ukraine-crisis-ends/
[4] – فريد زكريا، حرب أوكرانيا بداية عالم ما بعد أميركا https://www.washingtonpost.com/opinions/2022/03/10/why-the-west-cant-let-putin-win-in-ukraine/11/3/2022
[5] Record of conversation between Mikhail Gorbachev and James Baker in Moscow. (Excerpts), National Security Archive, 9/5/1990.أرشيف مؤسسة غورباتشوف.
[6] -Candas Owens “NATO (under direction from the United States) is violating previous agreements and expanding eastward.”
stated on February 22, 2022, in a tweet: https://www.politifact.com/factchecks/2022/feb/28/candace-owens/fact-checking-claims-nato-us-broke-agreement-again/
[7] – البروفيسور جوشوا ر. إتزكوفيتش شيفرينسون أستاذ مشارك في كلية فريدريك إس باردي للدراسات العالمية بجامعة بوسطن، حيث تركز اهتماماته التعليمية والبحثية على تقاطع الأمن الدولي والتاريخ الدبلوماسي، ولا سيما صعود وسقوط القوى العظمى وأصول الاستراتيجية الكبرى. ظهر عمله مع الأمن الدولي، ومجلة الدراسات الاستراتيجية، والشؤون الخارجية، وأماكن أخرى..
[8] – Candas Owens “NATO (under direction from the United States) is violating previous agreements and expanding eastward.”
stated on February 22, 2022, in a tweet: https://www.politifact.com/factchecks/2022/feb/28/candace-owens/fact-checking-claims-nato-us-broke-agreement-again/
[9] -(مقابلة نشرتها دورية “فورين أفيرز”، 2 أيار/مايو 1998).
[10] -جميل مطر، العالم يتغيّر.. والأقطاب لا يتقاتلون مباشرة. 10/3/2022
[11] – https://www.strategic-culture.org/news/2022/02/23/germany-can-no-longer-be-put-down/ February 23, 2022, Melkulangara Bhadrakumara
[12] – هال براندز، “بلومبيرغ” رحلة كيسنجر السرية إلى الصين ومسار الحرب الباردة،صحيفة الشرق الأوسط الأربعاء – 12 ذو الحجة 1442 هـ – 21 يوليو 2021 مـ رقم العدد [15576]
[13] – سنة على إدارة بايدن، والنظرة إلى الشرق الأوسط، مركز كارنيغي 30/1/2022
[14] – Michael Hudson, The American Empire self-destructs6/3/2022.
[15] – https://www.wsj.com/articles/putin-is-running-rings-around-the-west-ukraine-kazakhstan-troops-border-invasion-russia-11642008206?mod=opinion_featst_pos2 12/1/2022
[16] – BY WILLIAM MOLONEY, OPINION CONTRIBUTOR https://thehill.com/opinion/international/559975-russia-china-alignment-strengthens-dangerously-while-us Russia-China alignment strengthens dangerously while US alliances atrophy -alliances
[17] – https://thehill.com/opinion/national-security/556666-could-the-us-fight-a-four-fro 6/6/2021 BY LEONARD HOCHBERG AND MICHAEL HOCHBERG, nt-war-not-today
[18] – فهيم الصوراني، أعلنا بدء حقبة جديدة في العلاقات الدولية.. بماذا انتهت مباحثات بوتين والرئيس شي؟ الجزيرة .نت 5/2/2022
[19] – فورين أفيرز: لا اقتصاد أوروبياً بدون غاز روسيا 04/03/2022 النص كاملاً بالإنكليزية على موقع “الفورين أفيرز“، أعده كلٌ من: نيكولاس بوتيرز، سيمون تاغليابيترا، غونترام وولف، وجورج زاكمان. https://www.foreignaffairs.com/articles/russian-federation/2022-02-27/kremlins-gas-wars
.