د. أحمد عدنان الميالي
بدل أن يكون النفط العراقي مصدر للرخاء والتقدم أصبح مصدر للشقاء والتقهقر، بسبب سوء الاستخدام والتوظيف، ودون إجراءات بديلة تعزز الاقتصاد العراقي عندما يتضرر قطاع النفط وتكون كلفة إنتاج برميل النفط أعلى من سعره، فلا يزال العرق غارقاً بالديون الداخلية والخارجية، وبات غير قادر على تأمين النفقات التشغيلية والاستثمارية إلا بالاقتراض أو العجز، وهذا ناتج عن غياب الحرص على الثروة وعدم استخدامها بشكل يضيف لها قيمة تنموية اقتصادية، بل استخدم للإنفاق بشكل مفرط على مشاريع ليس لها جدوى اقتصادية، وعادة ما يلجأ صناع القرار إلى سياسات اقتصادية عقيمة وغير إنتاجية ورفع أجور العمل إلى مستويات غير مسبوقة مما تتوقع الحكومة بالإنفاق المسرف دون شفافية، إذ تجد الحكومة والفاعلين السياسيين أنفسهم أمام مجال واسع ومفتوح للتصرف والتحكم بالمال العام دون مراقبة أو محاسبة، كما أن السياسات الحكومية التي تعتمد على الإنتاج الريعي وإضعاف القطاع الخاص أو السيطرة عليه سياسياً يعمل على تعزيز السمات التسلطية، نتيجة تحكم صناع القرار بالثروة، مما يدفع باتجاه انقسام اجتماعي بين منتفعين تابعين لتوجهات الحكومة عبر السيطرة على الرواتب والأجور والتوسع في تعزيز المجال الأمني والعسكري وظيفياً وزيادة أعدادهم، وبين كسبة وعاطلين عن العمل متذمرين بسبب محدودية فرص العمل، مما يعدم أي بوادر للنمو ويعزز هجرة الريف إلى المدينة بحثا عن العمل وترك الإنتاج الزراعي والحيواني وتراجع خصوبة التربة، مما يعكس خسائر واختلالات تعصف بالاستقرار السياسي، ويرسخ ذلك التجاذبات وضعف الإرادة السياسية وعدم امتلاك الطبقة السياسية أي رؤية اقتصادية فعالة وواضحة.
وتلقي الدولة الريعية بظلالها الآن أمام الحكومة والقوى السياسية بعد انخفاض أسعار النفط بشكل غير مسبوق، ليضع تحديات ماثلة تتعلق بكيفية القدرة على تأمين رواتب الموظفين المقدرة شهريا بأكثر من ثلاث مليارات دولار، في حين أن العائدات الحالية لم تتجاوز مليار دولار شهريا، في ظل ذلك أمام الحكومة لمواجهة تراجع أسعار النفط حاليا والركود الحاصل نتيجة تفشي فيروس كورونا ونقص الإيرادات، الخيارات الآنية التالية:
أولا: الاقتراض من البنوك والمصارف الخارجية، ضمن حدود لا تتعدى حجم الأزمة زمنياً ومقدار الأموال اللازمة لتغطية الرواتب والنفقات الضرورية دون تغيير أنماط الإنفاق العام لرواتب القطاع العام.
ثانيا: ضغط النفقات لرواتب الدرجات العليا والخاصة والمنافع، وإلغاء الامتيازات إلى أقصاها ومتابعة الصرف للنفقات.
ثالثا: تغيير سعر صرف العملة المحلية إزاء الدولار بسرعة دون استخدام كل بدائل ضغط النفقات وزيادة الإيرادات العامة. وهذا خيار له تداعياته السلبية والمؤذية على المواطن والموظف من حيث انخفاض قيمة الأجور وارتفاع أسعار الاستيراد وانخفاض القدرة الشرائية وزيادة معدلات التضخم، مما يوسع دائرة الفقر والبطالة.
رابعا: يطرح في وسائل الإعلام إمكانية السحب من الاحتياطي الأجنبي من البنك المركزي لتمويل العجز، وهو مخصص لمواجهة العجز في الميزان التجاري، وهذا حاصل لأن حجم الإستيرادات أكبر من حجم الصادرات. وهذا الخيار لا يمكن اللجوء إليه أبدا ومخالف لقانون البنك المركزي رقم ٥٦ لسنة ٢٠٠٤ المادة ٣١ لأن الاحتياطي النقدي ليست مبالغ فائضة يتم استخدامها متى شاءت الحكومة، بل هي مجموعة أصول أجنبية بضمنها الذهب النقدي لمواجهة أعباء ميزان المدفوعات وتحقيق قوة العملة المحلية المصدرة.
لكن بالإمكان مواجهة عجز الرواتب، عبر قيام البنك المركزي بتمويل العجز بالعملة المحلية لرصيد موازي لوزارة المالية بالدولار -إذا كان متوفرا-، وبإمكان البنك أيضا خصم حوالات الخزينة -إذا كانت متوفرة- في سوق التداول الثانوية فقط، وكذلك لا يمكن طباعة العملة المحلية من قبل البنك المركزي لتغطية العجز إلا وفقا لمتطلبات التداول النقدي، فهنالك فرق بين الطبع النقدي والإصدار النقدي، فالأولى فنية روتينية لتعويض التالف، والأخرى تكون وفقا للأرصدة الموازية.
أما قضية الدين الداخلي من قبل البنك المركزي بشكل مباشر وغير مباشر، فهي مؤذية للوضع الاقتصادي والسياسة النقدية والمالية للدولة، خاصة إذا كان حجم التمويل للدين يؤثر سلبا على معدل الاحتياطي النقدي للعملة الأجنبية بشكل كافي، ولكن قد يكون هذا أيضا خيار مرجح ومطروح للحكومة حاليا، خاصة إذا لم يكن حجم التمويل أو الدين غير مؤثر على كمية احتياطي النقد الأجنبي.
خامسا: بالإمكان أن تلجأ الحكومة للاقتراض داخليا أما عن طريق الاقتراض المباشر من المصارف الحكومية والأهلية أو عن طريق إصدار سندات يتم شرائها من البنوك بفائدة محددة.
أما على مستوى الخيارات المستقبلية القريبة من الضروري معالجة مأزق الاقتصاد الريعي عبر:
1- تنويع مصادر الاقتصاد الإنتاجي، والتقليل من مركزية الاقتصاد لصالح المبادرة الفردية والقطاع الخاص.
2- توزيع جزء من عائدات النفط على المواطنين، لتعزيز ثقافة المشاركة والمساهمة بدل من ثقافة الخضوع.
3- تفعيل وتحسين واستثمار أمثل لنظام الضريبة والجباية والكمارك وضريبة العمل، وتوجيه ذاك بشكل أنفع وأفضل. فمثلا لابد من فرض الضريبة التصاعدية على أصحاب الدخل المرتفع، وكذلك مثلا اقتطاع نسبة 1% فقط للودائع فوق 100 ألف دولار بما يؤمن إيرادات تصل إلى مليارات الدولارات، أو عبر فرض ضريبة تصاعدية استثنائية من هذا النوع لمرّة واحدة بمتوسط 5% فقط يؤمن إيرادات بقيمة مليارات الدولارات أيضا.
4- تفعيل نظام الرقابة المالية والقضائية بشكل صارم لكل هدر أو فساد.
5- تفعيل وتقوية منظومة وآليات استرداد الأموال المهربة والمختلسة خارج العراق.
6- استئناف مذكرات التفاهم مع جمهورية الصين الشعبية المبنية على تطبيق آلية النفط مقابل البناء والاعمار، وتوسيعها مع بلدان أخرى، ويتضمن التعاقد مع شركات عالمية متخصصة لبناء محطات الكهرباء، وتنشيط القطاع الصناعي الوطني، وبناء المدن وصيانة الطرق، وكل ما يتعلق بالبنى التحتية دون إعطاء بدل نقدي، بل نفط خام بشكل مباشر لدول تلك الشركات خارج التسويق بالإتفاق مع أوبك، وتشمل عملية المبادلة استيراد الغاز والسلع والخدمات المهمة التي يتم استيرادها بشكل دائم، مع ضمان تشغيل الأيدي العاملة المحلية لمواجهة البطالة، وإيقاف نزيف هجرة الكفاءات الوطنية الشبابية، وعدم هدر الطاقات والإمكانيات.
7- تطبيق آلية التبادل النقدي مع دول العالم، عبر المبادلة بإيداع العملة الأجنبية مقابل العملة المحلية، وإعطاء تلك الدول مشاريع تنموية في العراق بشكل استثمارات يعمل على دعم السياسة النقدية والمالية للعراق، وقوة الدينار العراقي وتأمين احتياطي من العملة الصعبة، والعمل على توجيه المصارف الحكومية على تسهيل الائتمان بما يعزز أداء الاقتصاد المحلي.
كل هذا يحتاج إلى حاضنة سياسية ذات إرادة والتزام اقتصادي لإنقاذ السياسة الاقتصادية والمالية والنقدية في العراق، وإخراجه من الإدمان على الريع النفطي، عبر توفير بيئة سوسيو اقتصادية نظيفة ومعقلنة تخلق المناخ الملائم والسليم المُهيئ للترتيبات الإدارية واللوجستية والقانونية المتكاملة، وهذا لن يتحقق ما لم تتطابق الرؤية الإصلاحية في المجال الاقتصادي بين السلطة التشريعية والتنفيذية، والعمل وفق روح الفريق الواحد في الأداء بين أجهزة الدولة كافة يدفع نحو تشكيل لحظة ضرورية للإصلاح الاقتصادي في العراق.
رابط المصدر: