أ.د دلال محمود
لا يتوقف الحديث عن الأزمة الأوكرانية في الإعلام وفي الأروقة السياسية، والعالم يترقب الخطوة القادمة في تطورات الأزمة، وتتزايد فرص مواجهة عالمية على الأراضي الأوكرانية. لكن من يمعن النظر يجد أن أوكرانيا هي الموضوع ولكنها ليست الهدف، وتتساوى في هذا روسيا مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية. وبعبارة موجزة، فإن كافة الأطراف تحمل من الأهداف ما يتجاوز أوكرانيا وأزمتها العالمية.
العودة للبدايات
في عام 2014 حينما استحوذت روسيا على شبه جزيرة القرم في مشهد فاق كافة التقديرات الغربية في ذلك الحين، وعكس الأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة بالنسبة لروسيا التي تعتبر أوكرانيا كلها في نطاق مجالها الحيوي الذي يجب تأمينه، في ذلك الحين كانت روسيا تقدر خطورة نظام الحكم في أوكرانيا وتوجهها إلى الغرب؛ إذ إن الولايات المتحدة الأمريكية ومعها حلف شمال الأطلنطي قد طورا حضورهما العسكري تجاه أوروبا الشرقية منذ بداية الألفية الثالثة، وتبلور هذا الحضور بنشر منظومة الدرع الصاروخي التي يمتلكها حلف شمال الأطلنطي في الجمهوريات السوفيتية السابقة منذ عام 2008.
ومنذ بداية نشر وحدات برنامج الدرع الصاروخي المخطط لإنشائها كانت تتمثل في قاعدة في إحدى دول القوقاز، وعشر قواعد في بولندا، وقاعدة في جمهورية التشيك، و21 قاعدة في المحيط الهادي، ورادارات في كل من اليابان وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية (في كاليفورنيا وألاسكا، والجزء الأكبر منها في ألاسكا). ويلفت النظر هنا أن العدد الأكبر من القواعد الصاروخية الدفاعية يقع في منطقتين لهما دلالاتهما في سياق هذا الموضوع، هما المحيط الهادي (21 قاعدة بحرية)، و10 قواعد في بولندا وحدها، وقاعدة جمهورية التشيك. فالمحيط الهادي هنا يعني الولايات المتحدة والصين وروسيا الاتحادية، ودول الأمريكيتين، وبولندا والتشيك لهما موقعان استراتيجيان في المركز الجيوسياسي، وهما يفصلان أو يصلان بين الولايات المتحدة وروسيا.
ويقوم برنامج الدرع الصاروخي على تعقب وكشف أماكن منصات إطلاق الصواريخ الهجومية المعادية، من خلال قمر صناعي للإنذار المبكر، مع مواصلة تعقب الصواريخ الهجومية المعادية بواسطة الرادارات الأرضية، ثم إطلاق الصاروخ المعترض، ثم يتم تدمير الصاروخ المعادي، أو الصواريخ المعادية، الهجومية الباليستية عن طريق قمر صناعي مجهز بأشعة دون الحمراء، ليوجه الصاروخ نحو هدفه، ثم بعد ذلك تنفصل مركبة فضائية عن الصاروخ لتصطدم بالصاروخ المعترض. والدرع الصاروخي مصمم للتصدي لأي هجوم صاروخي يمكن أن تقوم به واحدة من الدول الكبرى، فالدول الكبرى تعلم أن نظام الدرع الصاروخي متطور، ويمكن أن يحقق أهدافه بدقة، وهو ما يُقلل من احتمالات لجوء الدول العظمى أو الكبرى لسياسة الهجوم الصاروخي. وبعيدًا عن التفاصيل الفنية لهذا البرنامج فإنه قادر على تقويض قدرة الردع الروسية في مجالها الحيوي.
ورغم ادّعاء الولايات المتحدة أن نظامها الصاروخي ليس موجهًا ضد روسيا وإنما تحسبًا لصواريخ معادية من دول مارقة مثل إيران أو كوريا الشمالية، فإنه قول ينافي المنطق، فالحقائق المجردة توضح أن إيران تقع على مسافة 4 آلاف كم من بولندا، بينما الصواريخ الأمريكية المراد نشرها فيها مداها ألفا كم. ولذا قدرت روسيا أن الهدف الأمريكي المحدد هنا هو قواعد الصواريخ الاستراتيجية النووية في قلب روسيا، بما يقلص تمامًا قدرتها على الردع النووي، ولهذا اعتبرت أن انضمام بولندا إلى المشروع الأمريكي يضعها ضمن أهداف الرد الصاروخي النووي الروسي في حال المواجهة. ولم يكن الموقف الروسي من تغير توجه نظام الحكم في أوكرانيا عام 2014 وميله إلى الغرب، إلا انعكاسًا لإدراك روسيا للتهديد المحتمل بوصول الغرب إلى أوكرانيا مثل ما وصل إلى بولندا ورومانيا والتشيك، وهو التهديد الذي يخترق الأمن القومي الروسي.
وأفصحت روسيا عن غضبها من فكرة التوجه الغربي لأوكرانيا واستقدامها للحلف على الحدود الروسية، وظهر هذا عام 2019 حينما صدر تصريح مهم أثناء انعقاد المؤتمر الأمني في ميونيخ، حيث صرّح مان فيلد ويبر (عضو في البرلمان الأوروبي)، بأن “الاتحاد الأوروبي يتوجب عليه بناء نظام دفاع صاروخي للتعاون مع أوكرانيا، وأن هكذا مبادرة ستساعد في التغلب على الانقسام الأوروبي بين غربية وشرقية”.
وهنا يمكن طرح عدة تساؤلات: لماذا الآن يتم إثارة موضوع انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلنطي مرة أخرى؟ هل هناك متغيرات مثلت تهديدات أمنية جديدة لأوكرانيا؟ وإلى أي مدى توقع الغرب اختلاف رد الفعل الروسي؟ ومَن الطرف الذي بدأ تصعيد الأزمة روسيا أم الدول الغربية؟ وهل هذا التصعيد يرتبط حقًا بأوكرانيا؟.
أما الآن؟
يتبنى هذا المقال وجهة نظر تفترض أن هناك أهدافًا لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا في هذه المرحلة ترتبط بالاستراتيجية العالمية لكل منهما، وأن تجديد أزمة أوكرانيا قد يوفر لكل منهما الفرصة لتحقيق هذه الأهداف، ولذا كان التصعيد من الطرفين هو الاختيار الأنسب في المراحل الأولية من الأزمة؛ لكن الخطر الأكبر في هذه اللحظة أنه ربما تتصاعد الأزمة تلقائيًا وتخرج الأمور عن السيطرة، خاصة إذا لم تتمكن إحداهما من تحقيق أهدافها الحقيقية منها. ولتوضيح هذا الرأي يمكن النظر في أهداف كل منهما فيما يلي.
الولايات المتحدة الأمريكية والسعي للبقاء
حينما أصبحت قيادة المعسكر الغربي مسئولية الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، وأصبحت هي القوة العظمى؛ كان عليها أن تكون لديها استراتيجية كبرى تتناسب مع هذه المكانة، وبالفعل أسست استراتيجيتها على ركيزة “الاحتواء والتطويق” للخطر الشيوعي الذي يمثله الاتحاد السوفيتي وكتلته الشرقية. وبعد انتهاء الحرب الباردة تمت إعادة صياغة هذه الاستراتيجية لتكون “قيادة العالم”، واختلف الرؤساء الأمريكيون منذ ذلك التاريخ على كيفية القيادة بين من يقود بمنظومة القيم الليبرالية ومن يقود بالقوة الأمريكية (سواء الصلبة أو الناعمة). وكذلك اختلفوا بين من يريد الانفراد بقيادة العالم وبين من يقبل بشركاء يتقبلون ويدعمون القيادة الأمريكية لهذا العالم.
ولم يختلف هذا التوجه إلا مع إدراك التهديد المحتمل للاستراتيجية الأمريكية “قيادة العالم”، كان هذا مع إدارة الرئيس السابق باراك أوباما والتحول شرقًا؛ ليصبح الهدف الأساسي للاستراتيجية الكبرى هو “الحفاظ على البقاء”، والاحتفاظ لأطول فترة ممكنة بالهيمنة على النظام العالمي. ورغم اختلاف الرؤساء، وتبعتها سياسات أمريكية متباينة بينهم لكن ظل هذا الهدف ثابتًا.
ومع ارتفاع مستوى التهديد الذي تمثله القوى الصاعدة، الصين وبدرجة أقل روسيا، وتجسيدهما لتحدي الهيمنة الأمريكية؛ كان على الولايات المتحدة أن تطور سياساتها وتتبع استراتيجيات تكفُل لها تحقيق هدفها. ووجدت الولايات المتحدة الإجابة في النظريات الجيوسياسية التي تفسر كيف يمكن لدولة ما فرض سيطرتها ونفوذها، وقد انقسمت هذه النظريات بين اتجاهين أساسيين؛ الاتجاه الأول يرى أن الدولة التي تمتلك السيطرة على الأقاليم الهامة استراتيجيًا، أي التي تمتاز بموقع جغرافي هام وغنية بالموارد الطبيعية هي التي يمكنها فرض نفوذها وسيطرتها على بقية دول العالم، وفي هذا الاتجاه كانت نظرية “قلب الأرض” هي النظرية الرائدة. بينما يرى الاتجاه الثاني أن الدولة التي تمتلك السيطرة على البحار المفتوحة والمحيطات هي من يمكنها توسيع نفوذها وبسط سيطرتها على العالم والأقاليم الاستراتيجية فيه، وكانت نظرية “القوة البحرية” لألفريد ماهان هي المرجع الرئيسي في هذا الاتجاه.
نظرية “قلب الأرض”: قدمها عالم الجغرافيا والسياسة البريطاني هالفورد جون ماكندر، حيث اعتبر قارات العالم القديم الثلاث قارة واحدة أطلق عليها جزيرة العالم، ويرى ماكندر أنَّ من يستطيع أنْ يسيطر على جزيرة العالم فإنَّه يستطيع أن يسود العالم كله. القارة الأوراسية تقع في مركز العالم ويقع في مركزها قلب العالم، وهو تجمع الكتل القارية للأوراسيا، وهذا الجسر الجغرافي الأكثر ملاءمة للسيادة على العالم بأسره. وعلى هذا؛ يقوم ماكندر بتدريج المدى الكوني عبر نظام الدوائر المتحدة المركز، وأطلق ماكندر على المنطقة الوسطى في الجزيرة العالمية اسم قلب الأرض، وهي المنطقة الممتدة من نهر الفولغا إلى نهر اليانغتسي، ومن جبال الهيمالايا إلى المحيط المتجمد الشمالي، ويتميز بأنه يضم ثلث قارة آسيا، وربع قارة أوروبا، كما أنه يشكل منطقة سهلية واسعة، تحيط بها حواجز طبيعية (الأنهار، الجبال، المحيط المتجمد الشمالي) تحميها من الغزو باستثناء جهة الغرب، فجهة الشمال تطل على المحيط المتجمد الشمالي، فمن المستحيل اختراقه. وقسم ماكندر أوروبا إلى شرق وغرب، واعتمد الخط الفاصل بين القسمين الخط الواصل بين البحر الأدرياتيكي إلى بحر البلطيق، وتبعًا لذلك لخّص أهمية أوروبا الشرقية في عام 1919، من خلال صياغة نظريته على النحو التالي: “من يسيطر على أوروبا الشرقية يسيطر على قلب العالم، ومن يسيطر على قلب العالم يسيطر على جزيرة العالم، ومن يسيطر على جزيرة العالم يحكم العالم”.
وقد اتفق “نيكولاس سبيكمان”، أستاذ العلاقات الدولية في الولايات المتحدة، مع نظرية ماكندر في تحليله على الدمج بين العوامل الاقتصادية والديموغرافية والعسكرية، وخلص إلى أن أمن الولايات المتحدة يعتمد على توازن قوى ملائم في أوروبا والشرق الأقصى، وأن من يحكم أوراسيا يستطيع أن يتحكم في مصائر العالم. واستطاع أن يتنبأ في بداية حقبة الأربعينيات بالمنافسة الجارية بين واشنطن وبكين حاليًا، مؤكدًا أن العوامل الجيوسياسية ستؤدي إلى أن الصين ستكون القوة المهيمنة في الشرق الأقصى، وجادل بأن الميزة الجغرافية للولايات المتحدة المتمثلة في كونها محمية بواسطة محيطين كبيرين لن تكون إيجابية إذا سيطر على أوروبا وآسيا دول عدوانية.
نظرية “القوة البحرية”: قدمها ألفريد ماهان حول القوة البحرية من دراسته بريطانيا، التي وجد فيها النقيض التاريخي لإمبراطوريات قامت على أساس القوة البرية، لكن بريطانيا كقوة عظمى في التاريخ الحديث بنت قوتها في البحر معتمدة على الأساطيل البحرية القوية، بما لم يمكن لأية قوة أوروبية أخرى منافستها في سيادة البحر، كما أن انفرادها في البحر أبعدها عن الانقسامات السياسية التي حدثت آنذاك بين القوى الأساسية. ويرى ماهان أن المستقبل لقوى البحر، وأن الدول البحرية هي المؤهلة لامتلاك القوة البحرية التي هي سبيل السيادة العالمية. وما زالت نظرية القوة البحرية التي قدمها ألفريد ماهان توحي للدول الكبرى بصياغة استراتيجيتها البحرية العالمية، فقد افترضت النظرية أن أي دولة تحتاج لشواطئ على بحار مفتوحة أو محيطات إن أرادت أن تصبح قوة عظمى، مع ضرورة أن تتوافر لديها المتطلبات اللازمة لامتلاك قوة بحرية وقدرة على الانتشار في المياه العالمية، مثل: الموقع الجغرافي للدولة، ويقصد به الموقع البحري فيما إذا كانت تقع على بحر واحد أو على بحرين أو أكثر، مع الأخذ بعين الاعتبار صلاحية هذه البحار الملاحية وسهولة اتصالها ببعضها وبأعلى المحيطات. والنشاط البحري العسكري لأي قطر بحري يرتبط بنوع البحر الذي يطل عليه، فيما إذا كان مفتوحًا أو مغلقًا. وطبيعة سواحل الدولة، بالنظر إلى طولها ونوعيتها الملائمة لإنشاء الموانئ، فكلما كانت السواحل متعرجة تكثر فيها الخلجان العميقة، أصبحت جاذبة للاتصال ببقية أنحاء العالم. فسواحل الاتحاد السوفيتي سابقًا كانت طويلة، ولكن معظمها غير صالح للنشاط البحري بسبب رمال البحر. هذا بالإضافة إلى متطلب ثالث يرتبط بمساحة الدولة وعدد سكانها، حيث يرى ماهان أن المساحة الواسعة للدولة التي تطل على أكثر من بحر واحد، مع سواحل طويلة وصالحة للملاحة زائد ثروات طبيعية وكثافة سكانية كقوة بشرية تساعد على بناء الأساطيل البحرية وصيانتها، هي محفزات رئيسية لبناء القوة البحرية.
والنظر في هاتين النظريتين يمكن أن يُفسر السياسات الراهنة للولايات المتحدة لإعادة ترتيب أولوياتها وإعادة انتشارها عالميًا من أجل تحقيق هدف استراتيجيتها الكبرى “حفظ البقاء”. ومن هذا المنطلق يمكن تفسير اتجاه الولايات المتحدة من أفغانستان ومن العراق ومن بعض المناطق في إفريقيا إلى كونها تتجه للانتشار في المياه العالمية بديلًا عن الانتشار البري، كتوسيع تواجدها في منطقة “الإندوباسيفيك” وتحالف أوكوس يشير إلى هذا، في محاولة لعزل الصين ومراقبة مسار حركة الملاحة والتجارة العالمية، من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإن اهتمام الولايات المتحدة بتوسيع التوجه الغربي عبر حلف شمال الأطلنطي في شرق أوروبا ومنطقة الأوراسيا يعكس مقولات نظرية قلب الأرض، وهذا البعد هو ما يرتبط بالأزمة الراهنة في أوكرانيا؛ إذ إن هناك عدة أهداف يمكن أن تتحقق للولايات المتحدة، أبرزها:
ضمان نفوذ الغرب في النطاق الجغرافي الذي تحدده نظرية قلب الأرض.
الاستفادة من الموارد الطبيعية في هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية المعروفة.
المزيد من اعتماد الدول الأوروبية على الولايات المتحدة، ومن ثم الحفاظ على تماسك المعسكر الغربي، خاصة بعد الضعف النسبي الذي لحق بالولايات المتحدة مؤخرًا. فرغم تباين الموقف الأوروبي عن الموقف الأمريكي في الأزمة الأوكرانية؛ تحرص أوروبا على عدم التصعيد للاعتبارات الأمنية والاقتصادية حيث تعتمد أوروبا على ثلث احتياجاتها من الغاز الروسي، وبالتالي فإن التصعيد يمكن أن يهدد أمن الطاقة الأوروبي مع صعوبة الحصول على البدائل الأخرى، والتي في مقدمتها النفط الصخري الأمريكي مرتفع التكلفة!.
المزيد من اعتماد الدول الأوروبية على منظومات الدفاع الجوي الأمريكية، تحسبًا للقوة الصاروخية الروسية المتطورة، خاصة بعد انتهاء اتفاقية INF التي تحظر صناعة واستخدام الصواريخ النووية قصيرة ومتوسطة المدى.
الحفاظ على الهيبة الأمريكية إذا ما نجحت في تحجيم التطلعات الروسية والحد من التحدي الروسي للهيمنة الأمريكية. فقد أضر الانسحاب الأمريكي المرتبك من أفغانستان وكذلك عجز الإدارة الأمريكية –حتى الآن- عن ردع إيران أو تجديد الاتفاق النووي معها، أضر نسبيًا بالهيبة الأمريكية ومكانتها كقوة عظمى مهيمنة. ويرتبط بهذا بحث إدارة بايدن عن إنجاز ظاهر لها بعد مرور عام كامل على وجودها تتراجع فيه شعبيتها وفقًا لنتائج استطلاع الرأي الأمريكية؛ حيث يجمع المراقبون على أن الرئيس جو بايدن يواجه تراجعًا كبيرًا في شعبيته داخل البلاد، على خلفية تعامل إدارته مع ملفات عديدة. فقد قامت مراكز عديدة إلى جانب الصحافة الأمريكية باستطلاعات للرأي اتفقت جميعها على أن شعبية بايدن التي كانت بين 50 بالمائة إلى 59 بالمائة في بداية توليه منصبه في يناير 2021، بدأت في الانخفاض منذ أن هيمنت الأزمة في أفغانستان على التغطية الإعلامية. ووفقًا لاستطلاع أجراه مركز “ريل كلير بوليتيكس” تتراوح شعبية بايدن بين 45 بالمائة إلى 49 بالمائة.
تحتاج الولايات المتحدة إلى الحصول على ميزة نسبية في منطقة الأوراسيا تمكنها من تحجيم النفوذ الروسي ثم الصيني، ففي إطار التنافس مع كل من الصين وروسيا تمتلك الولايات المتحدة ميزة نسبية في قوتها البحرية التي تمنحها القدرة على استغلال محيطات العالم – المشاعات العالمية التي تغطي أكثر من ثلثي سطح الكوكب، والدفاع عن المصالح الأمريكية حول العالم؛ إذ يمكن للبحرية الأمريكية أن تنشر جزءًا كبيرًا من قواتها -تقريبًا في أي لحظة 30٪ أو أكثر من البحرية- في مناطق العمليات البعيدة، ولا سيما غرب المحيط الهادئ، والمحيط الهندي/ منطقة الخليج العربي، والمياه حول أوروبا. وهذه الأماكن هي الأهم للمصالح الأمريكية مثل: دعم القوات الأمريكية والقواعد العسكرية المنتشرة، وردع الاعتداءات المحتملة، وطمأنة الحلفاء والشركاء، ودعم الأنشطة الأخرى الاستخباراتية والمراقبة والاستطلاع، بالإضافة إلى عمليات مكافحة الإرهاب والاستجابة للأزمات والاحتواء. وفي مقابل هذا التفوق البحري للولايات المتحدة تسعى للتفوق الأرضي أيضًا بما يزيد من فرص احتفاظها بالهيمنة العالمية.
روسيا واستثمار الفرص
“إن الولايات المتحدة تعيد ترتيب أولوياتها”.. هذا ما تدركه روسيا جيدًا، فلديها تجربة ثرية في قراءة نهايات الإمبراطوريات القيصرية والسوفيتية، ومن ثم فهي تقيم التحركات الأمريكية المختلفة وتسعى لاستثمارها والاستفادة القصوى منها لإعادة بناء مكانتها العالمية. وبعبارة أخرى، فإن روسيا تسعى لملء الفراغ الاستراتيجي الذي يمكن أن ينتج عن انسحاب الولايات المتحدة التدريجي من بعض الأقاليم الاستراتيجية الهامة كالشرق الأوسط أو القرن الإفريقي، وبدرجة أقل ربما الخليج. وكذلك تسعى لمنع الولايات المتحدة من مد نفوذها للمجال الحيوي الروسي حتى لا تتحول إلى تهديد جسيم للأمن الروسي، خاصة مع الفارق النسبي في القوة العسكرية التقليدية بينهما لصالح الولايات المتحدة، والذي تجتهد روسيا ومعها الصين في تقليصه نسبيًا بالاعتماد على التطورات التكنولوجية في المجال العسكري والسيبراني.
ويمكن القول إن روسيا لديها عدة أهداف دفعتها للتصعيد في الأزمة الأوكرانية، أهمها:
في تقدير روسيا أن القوة الأمريكية في حالة تراجع، وأن التزام الولايات المتحدة تجاه حلفائها أصابه ضعف كبير، وتنامت توجهات العزلة داخل الولايات المتحدة لمواجهة المشكلات والتحديات الداخلية بالأساس، ومن ثم قد تكون هذه اللحظة مناسبة لتحدي الهيمنة الأمريكية والحصول على مكاسب من هذا التحدي تُعلي من المكانة الروسية وتزيد من نفوذها العالمي.
تهدف روسيا للاستفادة من الأزمة الأوكرانية لإعادة رسم التوازن العسكري مع الغرب وبناء معادلات أمنية جديدة في أوروبا، ولذلك يمكن تفسير استعراض القدرات العسكرية لروسيا سواء بالحشود أو بالمناورات العسكرية التي أجرتها مؤخرًا كوسيلة لردع حلف شمال الأطلنطي ومنعه من توسيع توجهه شرقًا، وردع دول الأوراسيا الأخرى من التوجه للغرب على حساب تهديد الأمن الروسي. وكما يرى الكثير من الخبراء فإن نقطة البداية في تفكير بوتين هي أن الحرب الباردة لم تنتهِ بهزيمة روسيا وانتصار الولايات المتحدة، كما يدعى الغرب، ولكن الأمر ارتبط بإرادة روسية، سواء فيما يتعلق بتفكيك الاتحاد الروسي واستقلال جمهورياته، أو حل حلف «وارسو» وخروج دول أوروبا الشرقية من الفلك السوفيتي، وأن الولايات المتحدة هي التي تخلت عن تعهدها بعدم توسع حلف شمال الأطلنطي «بوصة واحدة» شرق ألمانيا بعد توحيدها، ولكن القيادات الأمريكية المتعاقبة استغلت حالة عدم الاستقرار التي كانت تمر بها روسيا، وأخلفت وعدها حتى اقترب الحلف من حدود روسيا.
بالنسبة لأوكرانيا فإن أهميتها لروسيا ليست مجهولة، ولذلك عندما حاولت كييف الاحتفاظ بتوازن بين منهاج التعاون الغربي والتعاون مع الاتحاد الروسي في 2013/2014، لم تتوانَ روسيا عن التدخل المباشر والسافر لمنع هذا. وبعد عام 2014، بدأت أوكرانيا تحديث أنظمتها الصاروخية الموجودة في ترسانتها الصاروخية، إضافة إلى تطوير أنظمة صواريخ متوسطة وقصيرة المدى ضمن إطار قيود معاهدة Intermediate – Range Nuclear Forces (INF). وفي عام 2015 أعلن أمين عام المجلس القومي للدفاع والأمن الأوكراني Olexsandr Turchynov عن نية أوكرانيا استرجاع درعها الصاروخي. وبغية تعزيز هذا الهدف، أصدر Turchynov أمرًا حكوميًا لتطوير واسترجاع قدرات صاروخية أوكرانية، وتطوير الصاروخ الجوال Neptune والنظام المدفعي الصاروخي Vilkha وHrim-2 في المجمع التكتيكي العملياتي. كما يوجد هناك مشروع آخر لمكتب تصميم Pivdenne وهو الصاروخ الجوال دون سرعة الصوت Hun-2، والذي بفضل تصميمه، بحسب بعض العسكريين الأوكرانيين، ينافس الصاروخين الجوالين Tomahawk الأمريكي وCalibr الروسي. أي إنه رغم عدم انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلنطي من 2014 حتى الآن، لكنها زادت من قدراتها الصاروخية خاصة في مجال الإنتاج الصاروخي. وهذا الأمر يمكن أن يمثل تهديدًا نسبيًا لروسيا إذا ما كان نظام الحكم غير موالٍ لها وأكثر ميلًا للغرب كما يُظهر النظام الحالي.
تدرك روسيا أن الدول الغربية يمكنها أن تدعم أوكرانيا عسكريًا ولوجستيًا، لكنها لن تخاطر بدخول أي منها كطرف في المواجهة العسكرية مع روسيا إذا ما ساقت التطورات لهذا السيناريو، وبالتالي فإنه ربما يكون الرهان الروسي قائمًا على مدى قدرة أوكرانيا على الصمود في قتال مباشر مع كل من إقليمي دونيتسك ولوغانسك –اللذين اعترفت روسيا باستقلالهما– وقتال غير مباشر حتى الآن مع روسيا، وهو ما يمكن أن يتحول لمواجهة مباشرة إذا ما طالب كل منهما بالانضمام لروسيا على غرار شبه جزيرة القرم. ويزيد من قناعة روسيا بهذا اختلاف الرؤى نسبيًا بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية حول مواجهة روسيا، فالدول الأوروبية يمكن أن تكون هي الخاسر الأكبر أمنيًا واقتصاديًا من هذه المواجهة إذا ما تمت على أراضي أوكرانيا.
الخطر الأكبر
إن وجود أهداف واضحة لدى كل من الولايات المتحدة وروسيا في هذه الأزمة لا يحول دون التخوف من أن تنساق كل منهما وراء تحقيق أهدافها وتفتقد الرشادة بما يجعل الأزمة تتطور تلقائيًا دون سيطرة، وهذا يعني ألا يتوقف الأمر عند فرض العقوبات على روسيا كما يقدر الموقف الغربي، بل ربما يندفع الغرب بإيعاز أمريكي لتصعيد المواجهة حفاظًا على الأهداف السابق ذكرها، ومنعًا لتنامي تحدي هيمنتها العالمية. وربما يتم التصعيد داخل أوكرانيا في صراع داخلي بين الانفصاليين والنظام الأوكراني بما يعني إطالة أمد هذا الصراع والإبقاء على أوكرانيا منقسمة، لتتحول إلى بؤرة توتر مدولة في شرق أوروبا، تعاني منها أوكرانيا وتستفيد منها الدول الكبرى صاحبة المصلحة في هذه الأزمة.
مجمل القول، إن الأزمة الأوكرانية هي نموذج لما يمكن أن يشهده العالم في السنوات المقبلة طالت أم قصرت، فهي مرحلة محدودة في عمر الدول ستشهد تنافسًا متعدد الأبعاد بين القوة العظمى الراهنة (الولايات المتحدة الأمريكية) والقوى المتطلعة لتكون عظمى (الصين وروسيا). وخلال هذه المرحلة سيشهد العالم العديد من الأزمات الاستراتيجية العالمية، أوكرانيا ولاحقًا تايوان، وربما أخرى في الشرق الأوسط أو في إفريقيا، وهذا التنافس تمتد تبعاته لبقية للعالم كله بدوله وأقاليمه المختلفة بدرجات ومستويات مختلفة تتناسب مع أهمية كل دولة أو كل إقليم. وهذه المرحلة هي الإرهاصات لنظام دولي مختلف عن مثيله الراهن، ربما يأتي تلقائيًا وربما بعد حروب وصراعات تقليدية وغير تقليدية.
.
رابط المصدر: