الأزمة الاوكرانية: قراءة أولية ومداخل تأسيسية

تمهيد

قام المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية بتنظيم ورشة عمل مغلقة، الثلاثاء 1 مارس 2022، بمشاركة مجموعة من المفكرين والخبراء والأكاديميين المتخصصين في العلوم السياسية والعلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية، والدراسات الحضارية، وأجريت المناقشات وفق ضوابط نظام (تشاتام هاوس) (Chatham House)، تعزيزاً لتطوير الأفكار المشتركة وسعياً نحو بناء رؤى أكثر عمقاً وموضوعية تجاه الأزمة وتطوراتها وتداعياتها الراهنة والمستقبلية.

وقد جاءت فكرة هذه الندوة أمام طبيعة التطورات المتسارعة، والتحولات الكبيرة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وبل ومجتمعياً كذلك ليس فقط على طرفي الصراع، ولكن على معظم دول العالم التي كان للأزمة العديد من التداعيات عليها، سواء من من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية والعسكرية.

وخاصة مع اتساع نطاق المواجهات والعقوبات والضغوط التي مارستها الدول الداعمة لأوكرانيا من ناحية، وكذلك تصعيد الطرف الروسي لممارساته وتهديداته، وتحول العالم إلى معسكرين كبيرين، كل طرف يحاول فيه أن يحشد أكبر عدد من الداعمين، سواء كان ذلك الحشد إرغاماً أو تحفيزاً.

ولم تكن المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط بعيدة عن هذه الأحداث، بل إنها كانت من أقرب دوائر التأثر (سلباً أو إيجاباً بها) أمام طبيعة الأدوار التي تقوم بها الولايات المتحدة ومن خلفها الاتحاد الأوربي من ناحية أو روسيا الاتحادية ومن يدور في فلكها من ناحية ثانية، في المنطقة، وتعدد القضايا المتأثرة بالأزمة وتداعياتها مثل النفط والغاز، والوضع في سوريا، ومصر وليبيا، والملف النووي الإيراني، والوضع في مصر التي تأثرت على عدة مستويات سياسية (تحديد الموقع من الصراع) واقتصادية (أسعار الطاقة، القمح، السياحة).

وفي نفس السياق، طرحت الأزمة العديد من التساؤلات، حول موقع القوى السياسية المطالبة بالتغيير السياسي في العالم العربي من هذه الأزمة؟ إلى أي مدى يمكن أن تتأثر بها سلباً أو إيجاباً؟ وكيف يمكن أن تتعاطى هذه القوى مع تلك الأزمة وتداعياتها؟

وأمام هذه الاعتبارات وغيرها، جاءت هذه الندوة، والتي تمحورت نقاشاتها حول العديد من الاتجاهات، وذلك على النحو التالي:

أولاً: الأزمة بين الأهداف والمسارات

ذهب فريق من الخبراء المشاركين إلى فكرة الاستهداف الأميركي لروسيا وجرها للحرب، وأن روسيا تم دفعها للحرب دفعاً لهذه الازمة، وخاصة أن أوكرانيا بدأت في الحديث عن الانضمام لحلف الناتو، والحديث عن استعادة قدراتها النووية، وارتباط ذلك بتوسع الناتو شرقاً، وضم العديد من دول أوربا الشرقية سواء إلى الاتحاد الأوربي أو إلى حلف الناتو بما يراه بوتين تهديدا للأمن القومي الروسي.

ومع التحرك الروسي، تعددت الأهداف التي يسعى إليها بوتين، ومن ذلك السيطرة على الأقاليم الشرقية لأوكرانيا، وفرض السيطرة على بحر ازوف و على الساحل الأوكراني على البحر الأسود، وكذلك العمل على القضاء على البنية العسكرية الأوكرانية و تحييدها و من ثم اسقاط النظام الأوكراني في مرحلة تالية لوضع نظام حكم موال لموسكو.

وجاء هذا التحرك، مرتبطاً بتحولات الدور الروسي في السنوات الأخيرة، سواء بعد أزمة جورجيا 2008، ثم الاستيلاء عى القرم 2014، والتدخل العسكري في سوريا، ومما يشجع على هذا عدم وجود أو رغبة أطراف قادرة على ردعه، في هذه التحركات، خصوصا بعد خروج أمريكا مهزومة من أفغانستان.

ومن بين الأسباب التي تدفع الولايات المتحدة لاستدراج روسيا في هذه المواجهة، هو إغراقها في المستنقع الأوكراني ووضع روسيا تحت مطرقة العقوبات الدولية لسحقها و إشغالها عن أي نشاط أخر على الساحة الدولية، وكذلك رغبة الولايات المتحدة في تنشيط مجمعها العسكري، الذي ينتعش دوره مع الأزمات والحروب.

ومع بداية الأزمة، كانت التوقعات تسير في اتجاه نجاح روسي كاسح في السيطرة على أوكرانيا، لكن حدث العكس، وخاصة مع ثبات الرئيس الأوكراني من ناحية، ونجاح الرئيس الأميركي جو بايدن في التجييش الغربي في مواجهة روسيا بطريقة دبلوماسية، بل وتجييش دولي وإعلامي ورياضي وشعبي (مظاهرات شعبية في ألمانيا والولايات المتحدة وحتى داخل روسيا).

هذا في مقابل فشل بوتين في معركته الإعلامية، حتى على مستوى الداخل الروسي.

وقد اتضح أيضاً تأثير العقوبات الاقتصادية التي تم فرضها على روسيا، وبدا حتى الآن أن أوكرانيا ستتحول إلى مستنقع لروسيا، وخاصة مع الحديث عن الفيلق الدولي الداعم لأوكرانيا، واستقبال المقاتلين الأجانب على غرار ما حدث في أفغانستان في الثمانينيات من القرن العشرين.

كذلك شهدت الأزمة تحولات استراتيجية في الموقف الألماني تجاه روسيا، حيث كانت أول دولة تفرض عقوبات على روسيا بالإعلان عن توقف خط الغاز نوردستريم 2، كما شهدت الإعلان عن رصد 100 مليار دولار لتجهيز القوة العسكرية الألمانية على طريق البدء في تخصيص 2% من الناتج المحلي الإجمالي سنويا للإنفاق العسكري.

وبريطانياً ظهرت تصريحات عن رئيس الوزراء البريطاني، فيما يتعلق بإسقاط النظام في روسيا (وصرح وزير الخارجية الأمريكي بتصريحات مشابهه بعد ذلك)، رغم أن هذا الموضوع لم يكن مطروحا إلا أن هذا فيما يبدو تمهيدا للرأي العام الغربي لتقبله ثم استهداف الوجود الروسي في الأمم المتحدة.

وفي إطار هذه الاعتبارات تبرز عدة سيناريوهات:

الأول: نجاح بوتين في تحقيق أهدافه

الثاني: امتداد الصراع وطول المدة

الثالث: هزيمة بوتين ومشروعه ومستقبله السياسي

الرابع: أن يتحول الموضوع لأزمة كبرى خارج السيطرة

ولكن مع مراعاة أن بوتين ليس صدام حسين، وخاصة بعد تهديده باستخدام السلام النووي، وهنا يكون السؤال: إذا تم تضييق الخناق على بوتين، هل سيقوم بحرق الأرض أمام الجميع؟ وماذا عن دور الصين والإمارات في هذه الأزمة؟ وكذلك الدور التركي وموقفها من تطبيق اتفاقية مونرو؟

في نفس السياق ذهب أحد الخبراء إلى أن الأزمة الحالية هي أكبر مقامرة عسكرية بعد الحرب العالمية الثانية، وأن أوكرانيا فقط مسرح العمليات (أرض المعركة)، وما يحدث الآن يمكن توصيفه بالفعل حرباً عالمية، أمام تعدد الأطراف، وتعدد السياسات وتعدد الأدوات التي تم استخدامها، لدينا حرب بمعناها التقليدي فالعديد من الدول أرسلت أسلحة وعتاد إلى أوكرانيا، بجانب حرب اقتصادية، وحرب هجينة.

نحن أمام حرب عالمية مصغرة من المنظور العسكري التقليدي، وحرب عالمية كبرى من المنظور الاقتصادي والاعلامي والسياسي والهجين، بل والرياضي والثقافي .

بوتين كان يراهن على حرب سريعة يخلق بها منطقة عازلة في دونباس، ولكن لم يتم الحسم، وكلما تأخر الحسم سندخل في مرحلة جديدة، بوتين الآن محشور في الزاوية، ولم يكن يتوقع هذا الرد من الغرب، وظهور مقاومة وصمود من الجيش الأوكراني والشعب الأوكراني، هذا الصمود الذي أجبر الغرب على تغيير سياساته.

الأشخاص مثل بوتين ونماذجه من الحكام المستبدين، لا تنفع معهم العقوبات الاقتصادية أو الحرب السيبرانية، ولكن الحل الوحيد معهم هو التخلص منهم، لأنه أصبح يمثل هتلر القرن الحادي والعشرين، وهو ما بدأت تردده الكثير من الشخصيات والوسائل الإعلامية الغربية.

والغرب الآن يعمل على استنزاف بوتين، وفك الارتباط بينه وبين رجال الأعمال الداعمين له.

الأهداف التي سعى إليها بوتين تغيرت، فالحرب الحالية جاءت ضد أهداف بوتين، وخاصة مع تعاظم شعور دول أوربا الشرقية بخطر بوتين، وسعي دول البلطيق لنشر أسلحة دفاعية للناتو، وبالتالي نحن أمام تحول استراتيجي نشهده حالياً، وبوتين لم يعد يملك القدرة على التراجع بحكم شخصيته، إذا لم يحصل على ما يبرر به هذه الأزمة.

وأن أبرز السيناريوهات المرجحة من هذه الأزمة تتجه نحو مزيد من التورط الروسي، وقد تكون نهاية بوتين. أو يعمل الغرب على ردع بوتين بكل الوسائل الممكنة، وعبر كل المستويات.

بوتين كلما تورط أكبر كلما زادت التحديات والتداعيات السلبية عليه شخصيا وعلى نظامه، وقد تكون الأسلحة غير التقليدية هي الحاسمة لو أراد حسم ملف كييف، وإذا لم يستخدم هذه الأسلحة في ذلك فسيواجه صعوبات كبيرة في إدارة الأزمة وتداعياتها، وإذا لجأ إليها فردود الفعل الدولية غير مأمونة العواقب على روسيا ونموذجها.

بعض النظم السياسية تمتلك القدرة على مواجهة العقوبات الاقتصادية، ولدينا بعض النماذج التاريخية مثل إيران، العراق، ليبيا، لكن الوضع في الحالة الروسية مختلف، سواء من حيث طبيعة وحجم العقوبات ونوعيتها، ومستوياتها، أو من حيث حجم ارتباط الاقتصاد الروسي بالاقتصاد العالمي، فهي دولة ريعية بالأساس، تعتمد على النفط والغاز والمادة الخامة، وبالتالي على المدى الطويل يمكن الاستغناء عن النفط والغاز الروسي، وهو ما يمكن أن يترتب عليه عواقب وخيمة على روسيا، وأن هذه الحرب قد تؤدي إلى نهاية البوتينية في هذه المرحلة.

ثانياً: الأزمة وأبعاد السياسات الغربية:

ذهب أحد الخبراء المشاركين إلى أن الحديث عن الحرب بدأ مبكرا، والغرب يدفع روسيا وكأن تتجه نحو الحرب، وفي المقابل مثلا منطقتنا العربية مشتعلة، وأنهكونا في الدبلوماسية، بينما في حالة أوكرانيا، دفعوا مباشرة باتجاه الحرب، وأصبحنا أمام مرحلة جديدة من النظام الدولي، وقد يكون كسابقه في الحرب الباردة، أو نموذجاً مختلفاً.

ما سمعناه من خطاب غربي حول الروس، حول اللاجئين، أظهر قضية الموقف الغربي من أهل البشرات الداكنة وأهل الأديان المخالفة للمسيحية، فرغم أن روسيا مسيحية، إلا أن الخطاب الذي خرج من شخصيات يتم اعتبارها معتدلين مؤمنين بقيم الديمقراطية، يعتبر كاشفاً عن هذه العنصرية الكامنة في سياسات وتوجهات الغرب.

اليوم اكتشفنا هذه العنصرية بهذه القماءة، وشعوب العالم تراقب وتسمع كل ما يتم وكل ما يحدث من مواقف هذه الشريحة من الكرة الأرضية، وهذه اللغة العنصرية سترسم كل تصريح قادم، وكل توجه قادم، وستكون معياراً للحكم والتقييم على سياسات الغرب و على مستقبل علاقة الشعوب المستضعفة بالقوى الغربية، و كذلك مستقبل الكثير من الصراعات في منطقتنا.

إن التحولات الاستراتيجية ستكون كبيرة، سواء حصلت روسيا على ما تريد من هذا الغزو، أو لم تحقق شيء وتم القضاء على طموحاتها.

هناك طفرات في أسعار القمح والغاز ووسائل الطاقة، وزيادات كبيرة متوقعة في الفواتير، بما سيكون له تداعياته السلبية الكبيرة على شعوب العالم.

التحول الآخر المهم، هو الدعوة لتشكيل فيلق دولي، هؤلاء شخصيات يمكن وصفها بأنها دواعش مسيحية، غير قابلة للسيطرة، في بيئة شديدة السيولة، وهناك نموذج مشابه للبريطانيين من اصل كردي الذين ذهبوا للحرب في العراق، وبعد عودتهم تم سحب الجنسية من بعضهم، فكيف سيتم التعامل مع العائدين من أوكرانيا؟

من ناحية أخرى بالنسبة للأزمة وملفات المنطقة، لدينا ملفات سوريا، العراق، ليبيا، وتركيا. وتركيا بالأخص يوجد شيء كبير متدخلة فيها، وهناك محاولة جرها جراً للصراع، وأنها يمكن أن تكون أكبر الخاسرين في حال تدخلها في هذه الأزمة، وإعلان انحيازها لأي طرف من أطراف الأزمة.

ثالثاً: الأزمة وتحولات النظام الدولي:

كشفت الندوة عن وجود اتجاهين كبيرين، الأول يرى أن هذه الأزمة من شأنها أن تؤدى إلى تعاظم صعود الشرق (روسيا، والصين ومن يدور في فلكهما)، وبالتالي تراجع المنظومة الغربية، بينما ذهب الاتجاه الثاني إلى العكس من ذلك وأن هذه الأزمة من شأنها ترسيخ هيمنة المنظومة الغربية على بنية العلاقات الدولية:

الاتجاه الأول: شروق الشرق وغروب الغرب:

ذهب أنصار هذا الاتجاه إلى أنه يمكن تناول الأزمة الأوكرانية الحالية على مستويات ثلاث: مستوى الصخب الإعلامي والحرب النفسية الذي يغطي على جوهر الصراع بقدر ما يقدم من فيض المعلومات المبتورة والتحليلات السطحية، ومستوى العمل السياسي والدبلوماسي وهو مجال مهم وإن كان دائب الحركة بحسب تغير موازين القوى على الأرض، ومستوى التحليل الإستراتيجي الذي يركز على ثوابت الجغرافيا والتاريخ وتدافعات القوى الكبرى وتحولات المنظومة الدولية.

ويرى أن أزمة أوكرانيا بداية لشروق الشرق وغروب الغرب، أي تحول مركز الثقل الدولي من أميركا وأوروبا إلى آسيا وأوراسيا. وسيتجلى ذلك في أمور ثلاثة:

  1. أن الصين ستكون الرابح الإستراتيجي بعد انجلاء غبار هذه الأزمة، وتليها روسيا -رغم الثمن المؤلم الذي ستدفعه- ثم تركيا وإيران وباكستان، ثم أوروبا الجديدة بقيادة ألمانيا.
  2. أن الخاسر الأكبر من الأزمة هو الولايات المتحدة، وأوروبا القديمة التي تمثلها فرنسا وبريطانيا. وأسباب هذه الخسارة عديدة، يمكن تفصيلها لاحقا.
  3. أن هذه الأزمة ستقود إلى مزيد من التجاذب بين القوى الكبرى في الوطن العربي، إلا إذا اتجه إلى بناء مناعة ذاتية، بالتحرر من الأنانية السياسية، والالتحام بالسياق الإسلامي الأوسع.

وفيما يتعلق بتوضيح الخلفية التاريخية والإستراتيجية لهذا الصراع تطرق الخبير المشارك إلى زوايا ثلاث: أولاها العلاقة التاريخية بين الروس والأوكران، وهي علاقة معقدة وضاربة الجذور في التاريخ، ولا بد من أخذها في الاعتبار في تحليل الموقف الحالي، سواء في وجهه الروسي، أو الأوكراني، أو الغربي. والثانية مواريث الحرب الباردة في شرق أوروبا، وما تركته من ملفات مفتوحة تطل برأسها من وقت لآخر، ومنها ملف أوكرانيا والسعي إلى انضمامها -أو ضمها- إلى حلف شمال الأطلسي “ناتو” (NATO) والاتحاد الأوروبي، ضمن سياسة توسع غربي في الفراغ الإستراتيجي الذي خلفه انهيار الإمبراطورية السوفياتية. والثالثة ظاهرة الصعود الصيني المطرد الذي يكاد يسحب البساط -بهدوء واطراد- من تحت أقدام القوى الغربية، ويختم حقبة من التسيد الغربي في العالم دامت قرونا مديدة.

يلاحظ المتابعون للعلاقات المعقدة بين روسيا وأوكرانيا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين -وهو رجل الاستخبارات ذو القلب الجليدي- متعلق بأوكرانيا تعلقا وجدانيا، يتجاوز العلاقة السياسية بين دولتين جارتين مستقلتين. وهو حين يتحدث عن أوكرانيا يتسم حديثه بنبرة عاطفية غير معهودة منه، فتأتي لغة خطابه مشحونة برموز التاريخ والقومية والدين. ويرجع ذلك من جهة إلى الوشائج التاريخية بين الشعبين، ومن جهة أخرى إلى توجهات بوتين القومية السلافية، التي تطمح إلى جمع كافة الشعوب السلافية الأرثوذوكسية -الروسيين والبيلاروسيين والأوكرانيين والصرب وغيرهم- في فضاء حضاري وإستراتيجي، يكون بديلا عن الإمبراطورية السوفياتية البائدة.

والمعروف تاريخيا أن الروس دخلوا التاريخ السياسي العالمي ابتداء من “إمارة كييف” الروسية، التي تأسست في القرن العاشر الميلادي، ومن بذرة تلك الإمارة الصغيرة، وبتأثيرها الديني والثقافي ولدت الإمبراطورية القيصرية الروسية فيما بعد. ووقعت أوكرانيا لقرون في تقاطع النيران بين الدولتين المحيطتين بها: ليتوانيا، وبولندا، إلى أن رجعت لجذورها الروسية الأرثوذوكسية، وابتلعتها روسيا القيصرية منتصف القرن السابع عشر، ثم ورثها عنها الاتحاد السوفياتي مطلع القرن العشرين. ولا يزال الروس يصفون أوكرانيا بأنها “روسيا الصغرى”.

وحينما تفكك الاتحاد السوفياتي بدأت حقبة جديدة في تاريخ أوكرانيا، اتسمت بالتجاذب بين هويتها السلافية الأرثوذوكسية، ورغبة جزء من شعبها في تحولها إلى دولة أوروبية غربية. وهنا وقعت أوكرانيا في تقاطع النيران من جديد، حيث مطامح المعسكر الغربي -الاتحاد الأوروبي والناتو- في التوسع في الفراغ الإستراتيجي السوفياتي، ومطامح روسيا “البوتينية” إلى استرجاع جزء -على الأقل- من تلك المساحة الضائعة، خصوصا فيما يتعلق بالشعوب السلافية الأرثوذوكسية.

لقد توسع الناتو على مدى 70 عاما؛ من 12 دولة عند تأسيسه عام 1949 إلى 30 دولة بانضمام مقدونيا إليه عام 2020. وكان هذا التوسع مصدر شكوى وقلق روسي دائم، بحكم أن الحلف لم يتأسس أصلا إلا لمواجهة روسيا. وبحكم التفاهم الضمني بين قادة الناتو وروسيا في ختام الحقبة السوفياتية على عدم توسيع حدود الناتو في ما وراء ألمانيا، مقابل سماح روسيا باستقلال الدول التي كانت جزءا من الإمبراطورية السوفياتية. لذلك فإن الوطنيين الروس -الذين يمثلهم بوتين اليوم- يشعرون بمرارة شديدة تجاه توسع الناتو في مجالهم الحيوي، ويعتبرون ذلك غدرا بروسيا، واستغلالا للحظة ضعفها بعد تفكك الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينيات.

لم تكن روسيا في عهد يلتسين آنذاك في وارد الاعتراض على توسع الناتو، إذ كانت مرهقة الكاهل بمواريث التفكك السوفياتي. وربما حسب قادتها أن روسيا ستصبح دولة أوروبية في يوم من الأيام، فلا بأس أن تسبقها في ذلك شقيقاتها السوفياتية. لكن الغرب لم يكن راغبا في انضمام روسيا إليه -كما كان يحلم غورباتشوف ويلتسين- ولا هو مستعد للسماح لها بلعب دور القوة العظمى من جديد، حتى ولو كان ذلك في السياق السلافي الضيق. لكن أقدار روسيا الإستراتيجية بدأت تتبدل في عهد فلاديمير بوتين، الذي جمع بين النزعة القومية السلافية والحاسة الإستراتيجية الطموحة.

وقد عبّر بوتين أكثر من مرة عن أسفه العميق على تفكك الإمبراطورية السوفياتية، واعتبر ذلك التفكك -في أحد تصريحاته عام 2014- “أسوأ كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”، بل ذهب بوتين مؤخرا إلى إعادة قراءة التاريخ الروسي، فعاتب قائد الثورة البلشفية ومؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين (1870-1924) على أنه بنى الاتحاد السوفياتي ابتداء على مبدأ القبول باستقلال الجمهوريات السوفياتية، وهو ما أدى في النهاية إلى تفكك الدولة السوفياتية العملاقة.

وتتألف إستراتيجية بوتين في استرجاع أمجاد روسيا من شقين: أحدهما بناء نواة صلبة من الشعوب السلافية الأرثوذوكسية، تكون جزءا من روسيا فعلا أو حكما. والثاني بناء مجال حيوي، في شكل غلاف من الدول التابعة، يحمي هذه النواة من العدو: غربا في أوروبا الشرقية، وجنوبا في آسيا الوسطى. وقد نجح بوتين في تأمين الجبهة الآسيوية من خلال إبقاء الجمهوريات السوفياتية الآسيوية السابقة دائرة في الفلك الروسي، وتوثيق التحالف مع العملاق الصيني المجاور، لكنه واجه تحديا جديا في تأمين الجبهة الغربية بسبب سياسات التوسع الغربية في شرق أوروبا. وليست الأزمة الأوكرانية سوى تجسيد لعناد بوتين وإصراره على تصحيح المسار التاريخي الذي بدأ بتفكك الاتحاد السوفياتي.

ولأن أوكرانيا تنتمي إلى النواة السلافية التي تقع في القلب من الرؤية الإستراتيجية “البوتينية”، وهي دولة مهمة إستراتيجيا وجغرافيا واقتصاديا، فإن انضمامها للناتو، وتحولها إلى ساحة للنفوذ الغربي المعادي لروسيا، أمر لا يمكن التسامح معه بحال في تصور بوتين، سواء بالمنطق القومي، أو بالمنطق الإستراتيجي. وهنا نفهم الشراسة التي تعامل بها بوتين مع القضية الأوكرانية، واستعداده لمواجهة عدد وافر من الدول، وكم كبير من المصاعب والمتاعب في سبيل روسيا الكبرى التي يسعى إلى بنائها.

ويحسن أن نضيف إلى هذه الخلفية المعقدة من العلاقات الروسية الأوكرانية، والصراعات الروسية الغربية، بعدا ثالثا، وهو الصعود الصيني المذهل خلال العقود الماضية. ولا يختلف الباحثون الإستراتيجيون الجادون في أن صعود الصين هو أكبر حقيقة دولية في النظام العالمي الحالي، وإن كانوا يختلفون في آثار ذلك، فمنهم من يرى إمكانية الصعود الصيني من دون صدام مع القوى الغربية السائدة، ومن هؤلاء المفكر السياسي السنغافوري، كيشوري محبوباني، وهو مؤلف عدة كتب عن صعود الصين، منها كتاب: “هل خسر الغرب؟”، وكتاب: “هل فازت الصين؟”

ومنهم من يرى أن الصين لن تصل إلى قمة العالم بطريقة سلمية، وأنها ستجرف القوى الأميركية في طريقها إلى الصعود، إلا إذا تصدت لها أميركا بقوة وحزم. وإلى هذا الرأي يميل منظر العلاقات الدولية الأميركي الشهير، جون ميرشايمر، في الفصل الأخير من كتابه “مأساة سياسة القوى العظمى”، وقد جعل عنوان ذلك الفصل: “هل تستطيع الصين الصعود بطريقة سلمية؟” ومن الواضح أن صائغي القرار الإستراتيجي الأميركي يميلون إلى الإيمان بمسار الصراع الذي تنبأ به ميرشايمر، ولذلك بدأوا السنة الماضية في تكوين الحلف الأنجلوسكسوني، المعروف باسم “أوكوس” (Aukus) اختصارا، لحصار الصين في المحيط الهادي وبحر جنوب الصين، قبل أن يدهمهم بوتين بإشعال هذه الحرب الأوكرانية الجديدة في شرق أوروبا.

وبناء على هذه الخلفية التاريخية والإستراتيجية، فإننا نميل إلى أن سوء التقدير الإستراتيجي الأكبر الذي قاد إلى هذه الأزمة الدولية الخطيرة على الأرض الأوكرانية جاء من المعسكر الغربي، وهو إصرار الدول الغربية على توسيع حلف الناتو إلى حدود روسيا، ونتفق في هذا مع عدد من المفكرين الإستراتيجيين الأميركيين، ومن هؤلاء مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق زبغنيو بريجنسكي، واثنان من أبرز علماء السياسة والعلاقات الدولية هما جون ميرشايمر (من جامعة شيكاغو)، وستيفن وولت (من جامعة هارفارد).

فقبيل وفاته عام 2017، نبه بريجنسكي -في أكثر من مقابلة- إلى أن توسع حلف الناتو في اتجاه روسيا خطأ إستراتيجي، خصوصا في عالم يوشك فيه العملاق الصيني أن يجتاح المعمورة، ويزيح العالم الغربي كله من الصدارة الدولية. واعتبر بريجنسكي أن العديد من دول شرق أوروبا التي انضمت للناتو بعد تفكك الاتحاد السوفياتي لم يكن انضمامها ضرورة إستراتيجية بعد نهاية الحرب الباردة، وهي لا تضيف شيئا مذكورا لقوة الغرب، بل تشكل عبئا عليه، وسببا لتجدد الصراع القديم مع روسيا من دون حاجة لذلك. وفي حالة أوكرانيا تحديدا، توصل بريجنسكي إلى أن الغرب أمام أحد خيارين لا ثالث لهما، وعليه أن يقبل بأحدهما: إما أن تتحول أوكرانيا روسية، أو تتحول روسيا أوروبية.

وبدلا من استعداء روسيا بعملية التوسع شرقا، دعا بريجنسكي القادة الغربيين إلى ضم روسيا وتركيا إلى الاتحاد الأوروبي، بحكم أن روسيا دولة مسيحية تنتمي إلى الفضاء الحضاري الغربي ذاته، وبحكم أن تركيا بموقعها وقوتها الصاعدة لا يمكن تأمين الخاصرة الجنوبية الشرقية لأوروبا من دونها. كما أشار بريجنسي ضمنا إلى ضرورة السماح لألمانيا بإعادة بناء قوتها العسكرية، لتكون الضلع الثالث في هذا المثلث الروسي-التركي-الألماني، القادر على أن يكون جدار صد أمام زحف العملاق الصيني الذي يجتاح العالم. ويبدو لي أن المانع من الأخذ بطرح بريجنسكي هو أن هذا الثلاثي سيكون بديلا عن المظلة الإستراتيجية الأميركية، وهو ما لا تريده النخبة السياسية في واشنطن، رغم أن أميركا المرهقة لم تعد تملك القدرة ولا الإرادة لتحمل أعباء القيادة في الغرب، أو حماية أوروبا.

أما الأستاذ جون ميرشايمر، فقد حذر منذ سنين من توسع الناتو شرقا، وتنبأ بأن هذا التوسع سينتهي باستفزاز روسيا بطريقة تنتهي بخسارة أوكرانيا مزيدا من أرضها بعد القرم، إن لم تخسر وجودها كدولة. وذهب ميرشايمر إلى أن ردة فعل الروس على توسع الناتو في أوكرانيا منطقي جدا من المنظور الإستراتيجي، وهو لا يختلف عن ردة فعل أميركا على الصواريخ الكوبية نهاية الستينيات، ونصح الأوكرانيين بالاعتراف بحقيقة كونهم دولة صغيرة تعيش جنب “غوريلا”، وأن عليهم التعامل مع روسيا الصاعدة بذكاء وواقعية، والانفصال عن الإستراتيجية الأميركية، التي ستدفعهم إلى مواجهة غير متكافئة ثم ستخذلهم في نهاية المطاف.

وأما الأستاذ ستيفن والت، فقد نبه إلى أن أهمية أوكرانيا متفاوتة بالنسبة للطرفين، فهي بالنسبة لروسيا عمق إستراتيجي، وهي بالنسبة للغرب مجال نفوذ ثانوي. كما نبه إلى استعداد روسيا للقتال في هذه المواجهة، بخلاف المعسكر الغربي الذي لن يتجاوز الصخب الإعلامي والعقوبات الاقتصادية. وهذا الاختلاف في الدافع يجعل مواجهة الغرب لروسيا في أوكرانيا خاسرة منذ البداية.

ونحن نضيف إلى ذلك أن روسيا لا تستطيع خسارة أوكرانيا، بينما الغرب لن يخسر الكثير بخسارته لأوكرانيا. كما يبدو لنا أن الوحدة الغربية الحالية وحدة عاطفية عابرة، لا تتأسس على معطيات صلبة، ولعلنا سنشهد شرخا بين أوروبا -بقيادة ألمانيا- وأميركا، بعد هذه الورطة غير المحسوبة النتائج في أوكرانيا، خصوصا مع تحكم روسيا في مصادر الطاقة الأوروبية.

ومن الواضح أن حرب أوكرانيا شغلت أميركا عن مواجهة الصين، وأنها زعزعت المعادلة الإستراتيجية السائدة في شرق أوربا، وفرضت على أميركا الاهتمام بهذه المنطقة، في وقت كان الأميركيون يتحفزون للمنازلة مع الصين، والتنازل عن مسؤولياتهم الأوروبية القديمة. ويبدو لنا أن الأميركيين والأوروبيين لم يتعلموا الكثير من مواجهاتهم السابقة مع بوتين في أوسيتيا الجنوبية في جورجيا عام 2008، وفي القرم الأوكرانية عام 2014. وربما يرجع ذلك إلى تشبث الغربيين بعقلية الحرب الباردة في علاقاتهم بروسيا، بعد نهاية الحرب الباردة بعقود، وسوء تقديرهم للقوة والمطامح الروسية.

إن تصوير الإعلام الغربي الصراع في أوكرانيا على أنه صراع بين الديمقراطية والاستبداد نظرة جزئية وحَولٌ إستراتيجي في أفضل الأحوال، ودعاية فجة في أسوئها. والأدق أننا نعيش اليوم صراعا بين نزعتين توسعيتين: النزعة التوسعية في الجوار لدى بوتين، والنزعة التقليدية الغربية إلى حصار روسيا. وقد لا يكون لدى الأميركيين مانع من استخدام الأوكرانيين وقودا لحرب غايتها استنزاف روسيا، وليس نصرة أوكرانيا بالضرورة، فهي دماء سلافية تنزف على الجبهتين، ولا بأس في ذلك في المنظور الأميركي والأوروبي، تماما كما استنزف الغرب الاتحاد السوفياتي من قبل في أفغانستان، بدماء أفغانية مسلمة، من دون أن تكون لدماء الأفغان قيمة في نظره.

وقد تردد على لسان معلقين أميركيين في الأيام الأخيرة ما يدل على هذا المنحى من التفكير، ومن ذلك قول الصحفي توماس فريدمان بانتهازية صارخة: “سنقاتل روسيا لغاية فناء آخر أوكراني”. ومن هذا المنظور، يمكن القول فعلا إن الغربيين ورطوا بوتين في ما يشبه الحرب الأهلية، التي تنتهي عادة بخسارة الطرفين، بغض النظر عن الفائز فيها، لأنها سفكٌ لدماء أشقاء. وقد عبر الكاتب الروسي ألكسندر نازاروف عن ذلك بمرارة، في مقال له منذ أيام قال فيه: “إن الكارثة الحقيقية بالنسبة لروسيا هي حرب الشعبين الشقيقين، الأوكراني والروسي، اللذين يمثلان، بشكل عام، شعبا واحدا في كلا الطرفين المتنازعين. فوزير خارجية أوكرانيا السابق، كليمكين، من أصل روسي، وثلث الحكومة الروسية من أصول أوكرانية”.

الاتجاه الثاني: الأزمة الأوكرانية والهيمنة الغربية

في مقابل وجهة النظر السابقة، ذهب اتجاه آخر، إلى أن التعاطي مع الأزمة من منظور تأثيراتها المستقبلية على الأركان الأساسية التي يقوم عليها النسق الدولي (الوحدات الدولية، البنيان الدولي، المؤسسية الدولية، ثم العمليات الدولية)، وانتهى إلى عدد من الخلاصات الأساسية:

1: فيما يتعلق بالوحدات الدولية، كشفت الأزمة الأوكرانية عن حدود وطبيعة الدور الذي يمكن أن تقوم به الأطراف الأساسية في النسق الحالي مثل روسيا الاتحادية التي حركت الأحداث وكانت المبادر بالفعل في الكثير من تحولاتها، سواء في مرحلة ما قبل الحرب أو أثناء الحرب، وفي المقابل برز دور كل من الولايات المتحدة الأميركية وما يدور في فلكها من أطراف أوربية، وجدت في الحرب تهديداً كبيراً للكثير من قيمها ومبادئها ونموذجها الحضاري، بل وفي مرحلة من مراحل الحرب، وجدت فيها تهديداً حقيقياً لوجود العديد من الدول والأطراف التي تدور في الفلك الأمريكي، وفي مقدمتها دول أوربا الشرقية سواء التي انضمت إلى الاتحاد الأوربي أو إلى حلف الناتو بعد تفكك وانهيار الاتحاد السوفيتي 1991.

وفي إطار الوحدات الدولية في مرحلة ما بعد الأزمة الأوكرانية، يمكن القول إن هناك احتمالات قوية بظهور دول جديدة، وقد تختفي دول بحدودها التي كانت قائمة قبل الأزمة، وقد نشهد اتجاهاً نحو بناء تحالفات جديدة قد تصل في بعضها إلى درجة الاندماج، وخاصة بين بعض دول شرق أوربا (بولندا، استونيا، لاتفيا، ليتوانيا) التي قامت بتفعيل المادة الرابعة من ميثاق حلف الناتو فيما بينها، أمام ما وجدته من تهديدات وجودية لأمنها واستقرارها.

2: فيما يتعلق بالبنيان الدولي، قد تدفع تداعيات الأزمة إلى تغير جذري في بنية النظام الدولي الراهن، ولكن من وجهة نظري نحو نظام غربي أكثر هيمنة وأحادية، في ظل الأضرار الكبيرة التي ستطال روسيا وحلفائها في المواجهة الحالية إذا طال أمد الحرب في أوكرانيا، فالعقوبات الاقتصادية التي تم فرضها على روسيا يمكن أن تعود بها لما كانت عليها عام 1999، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ولن يساعدها الارتفاع الكبير في أسعار النفط والغاز، أهم مصادر دخلها القومي، في ظل العقوبات المفروضة عليها، من الدول والشركات العملاقة والمؤسسات المالية والاقتصادية الضخمة، ولا أعتقد أن الصين يمكن أن تتورط في تقديم دعم عسكري مباشر لروسيا حال تمددت الحرب خارج المسرح الأوربي، لأنها أكثر حرصاً في الحفاظ على مقدراتها وتأمين نموذجها على الأقل مرحلياً، حتى تحتوى التداعيات المباشرة للأزمة الأوكرانية.

3: فيما يتعلق بالمؤسسية، سواء التنظيمية أو القانونية والمعيارية، واتساقاً مع الملاحظة السالفة، يمكن القول إن العالم بعد الأزمة الأوكرانية، سيتجه نحو مزيد من هيمنة المؤسسات الغربية، وهذا ما وضح جلياً في الأزمة، حيث تحركت معظم المؤسسات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية بل والصحية والرياضية والشركات الفنية والإعلامية بتناغم كامل في توجهاتها وممارساتها وإجراءاتها ضد روسيا وسياساتها وحلفائه، وتم حشد الأغلبية العظمى من الهيئات والمؤسسات والشركات التابعة للمنظومة الغربية، في مواجهة السياسات الروسية، وكان في مقدمة هذه المؤسسات منظومة الأمم المتحدة، والناتو والاتحاد الأوربي ومحكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، والمؤسسات المالية الدولية، بل وتوجيه رسائل نصية وخطابات رسمية لمعظم النظم السياسية في العالم، بتحديد مواقفها من الغزو الروسي لأوكرانيا.

4: فيما يتعلق بالعمليات الدولية في مرحلة الأزمة الأوكرانية وما بعدها، فإنها تقوم على الجمع بين أقصى أشكال التعاون داخل المنظومة الغربية (وحدات ومؤسسات) وأقصى أشكال الصراع بين المنظومة الغربية ومن يدور في فلكها من ناحية، وروسيا الاتحادية ومن يدور في فلكها من ناحية ثانية، وستستمر هذه الثنائية (التعاون + الصراع) عدة سنوات حتى تعود بنية النسق الدولي إلى حالة من الاستقرار المؤقت قبل أن تبدأ موجة صراعية جديدة مع بقايا روسيا الاتحادية أو مع الصين التي تنتظر الفرصة للقفز على قمة النظام الدولي.

5: التأكيد على أن التحولات والتطورات التي تحدث في بنية النسق الدولي تنعكس بالتبعية، سلباً وإيجاباً، على كل الأنساق الإقليمية الفرعية التي يقوم عليها هذا النسق، وهذا يرتبط بطبيعة الحال بدرجة السيولة والتداخل الكبيرين بين الدولي والإقليمي، بل والدولي والمحلي في العديد من الأزمات الإقليمية، كما يرتبط بأنماط التفاعلات التي تربط بين الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، وطبيعة هذه التحالفات ومتانتها، والأطر والضوابط الحاكمة لها، وهو ما يعني إمكانية تعرض بعض الأطراف الإقليمية لضغوط وعقوبات سياسية واقتصادية وأمنية إذا حاولت أو فكرت في الخروج عن الصف، وتجاوز الأدوار الوظيفية المرسومة لها سلفاً، والمستقرة من عقود واقعاً.

رابعاً: الأزمة الأوكرانية: المداخل الحضارية

المداخل الاستراتيجية وما تقوم عليه من أطراف ومسارات وسياقات مهمة جدا، ولكن من المفيد جدا أيضاً مراعاة مداخل التحليل الحضاري لأنها أوسع من التحليل الاستراتيجي، فالحروب هي من أكثر الخبرات كثافة، وأكثرها كشفاً للبشرية، وكشفاً للأضرار والأخطار التي تترتب عليها.

وتوجد نماذج مهمة في التحليل الحضاري، منها الحالة الحضارية العامة للنظام العالمي القائم واحتمالات تحوله. نحن نعيش في رحاب حالة استعمارية، وأقطاب استعمارية تتصارع فيما بينها، وهنا يكون السؤال ماذا عن المستعمَّرون (نحن) – أمام حرب المستعمرِين (هم)؟ وهل هذا الصراع الاستراتيجي من شأنه أن يؤدى إلى تعريف ملامح الهيكلة الاستعمارية، لصالح هذه الأمة أو لغير صالحها في هذه المرحلة؟

إن البشرية مأزومة فعلياً بدليل خروج شخص مثل بوتين يهدد بحرق الكوكب، وأن البشرية تواجه العديد من التحديات، وهنا يكون السؤال هل هذه الأزمة يمكن أن تزداد إحكاماً؟

وفيا يتعلق بالنماذج الحضارية التي تواجه تحديات حقيقية عبر العديد من المستويات، من بينها الأفكار والقيم الحاكمة، فالنماذج الحضارية تعبر عن إنسان معين، حتى من يحاربون عن قضايا عادلة، فهناك إنسان مادي / قومي / أناني، هذه هي مواصفات الانسان الذي يقوم بتصنيفه النموذج الحضاري القائم، هذا الإنسان.

فالقضية ليست قضية حرب وصراع فقط على الثروات والحدود والموارد، ولكن صراع على الإنسان في ذاته، وما يمكن أن يصل إليه. وهنا يأتي السؤال عن أداء الدولة القومية في ظل هذه الازمة؟ وأين موضع الدول في ظل رحابة الأمة وضيق الدولة القومية؟

إن هذا النموذج الحضاري الذي يري من الإنسان أن يعيش داخل حدود دولة قومية واضحة ومحددة، مسالة تحتاج مراجعتها ومناقشتها لما نراه الأن، ولطالما رأيناه من قبل، من أثار مدمرة للبشريةز

إن أرخص عنصر في هذه الأزمة هو الانسان الذي يمكن أن يموت بمئات الآلاف، الإنسان كإنسان عموماً، بغض النظرعن جنسه ودينه ودمه، وخلال الحربين العالميتين مات عشرات الملايين من البيض بأيد الحكام البيض أنفسهم، فالإنسان هنا رخيص ليس له قيمة ولا دم ولا حرمة ولا مال.

يمكن رؤية هذه الحرب على أنها صراع بين قوتين جيوبولتيكيتين، ولكن يمكن رؤيتها أيضاً على أنها حلقة من سلسلة من سلاسل التغيير الضخم في العالم/ مرحلة من مراحل التغيير، وهذا التغيير يمكن أن تكون معه فرص. وهنا يأتي السؤال هل ما يحدث في أوكرانيا يمكن أن يوفر فرصة للخروج من هذه الحالة البائسة التي تعاني منها البشرية عامة والأمة الإسلامية خاصة؟ وإلى أي مدى يمكن أن يكون لنا دور كأقطاب فكرية داخل هذه الأمة في هذا التغيير؟ هل توجد لدى الأمة الان الاستعداد، و الإمكانية لتقديم النموذج الحضاري المنشود من خلال مشروع عملي متكامل؟

خامساً: الأزمة الأوكرانية ـ صراع المشروعات

العالم بعد 24 فبراير 2022، لن يكون كما كان قبله، فهناك تغيير جذري حدث، وخاصة بين أوربا وأميركا. هل يمكن أن تكون أوروبا نفسها قد تم دفعها لهذه المواجهة من جانب الولايات المتحدة لخوض هذه العركة؟ في وقت نجد أوروبا مفككة ليس لها قيادة موحدة أو زعامة محددة، ووجود حالة ارتباك شديد داخل المعسكر الأوربي وداخل الاتحاد الأوربي، مع وجود تنافس بريطاني ألماني فرنسي على الزعامة والقيادة مع ضعف القدرة على الحسم والاختيار وتحديد البدائل الاستراتيجية. ماذا عن صمود أوروبا وقدرتها على التماسك؟ هل سيظل موقفها موحدا من هذه التحديات الجديدة كما بدا في الأيام الأولى من الأزمة؟

فيما يتعلق ببوتين نحن نتحدث عن رجل جيش، رجل مخابرات، رجل دولة، يتوسع منذ سنوات في سوريا وليبيا وجورجيا و أوكرانيا، ويرى أن الوقت قد حان لشن هذه الحرب في هذا التوقيت.

فنحن أمام حرب عالمية مصغرة، حيث تحارب أوربا وأميركا روسيا على الأرض الأوكرانية، ووجود قوات أوربية تحت أي مظلة على الأراضي الأوكرانية هو دليل على المشاركة المباشرة في الحرب والصراع، بينما من يقود الدبلوماسية ويستقبل المفاوضات هي بيلاروسيا التي تحارب بجانب روسيا، فماذا عن الدبلوماسية الأوربية، ومن يقودها؟

الخوف القادم هو دخول الصين على الخط، ويمكن أن تفتح خطا أخر إذا قررت غزو تايوان، ويمكن أن نكون أمام مشهد جديد، مع وجود أزمة اقتصادية عالمية خانقة بدأت فعلاً مع تداعيات أزمة كورونا، ثم تداعيات الأزمة الأوكرانية، وبالتالي نحن سنكون أمام مشهد شديد الصعوبة وشديد التعقيد.

فماذا عن تأثيرات ذلك عن دولة مثل مصر؟

يمكن القول إن النظام الحاكم في مصر في مراحل سابقة كان يجد فرصاً للمناورة السياسية بين عدة أطراف إقليمية ودولية، لكن مع تداعيات الأزمة الأوكرانية، سيكون من الصعب عليه الاستمرار في هذه المناورة.

كذلك فإن السيولة الاقتصادية لن تكون كما كانت عليه، سيزداد العجز التجاري و عجز ميزان المدفوعات و عجز الموازنة، وبالتالي لو تعاون السيسي مع بوتين، ستكون الردود الأوربية سلبية تجاه هذا النظام و لن تقدم الدعم الدولي الذي اعتاد عليه النظام طيلة السنوات الماضية.

ما يمكن أن يترتب على هذه الأزمة ستترتب عليه فجوات، لا يوجد أحد من القوى الإقليمية قادر على ملئها أو سد الفراغ فيها، وخاصة مع تعدد الحديث من جانب رئيسي أميركا وروسيا عن حرب عالمية ثالثة والتهديد باستخدام القوة النووية، وبالتالي نحن نتحرك نحو مرحلة شديدة الخطورة والصعوبة.

هناك حالة فراغ للمشروعات في المنطقة، سواء من جانب الغرب أو الطرف العنيف المتمسك بروسيا في المنطقة، فالنموذجان ليس لديهما التعاطف الشديد في المنطقة نحو أي من هذين النموذجين.

سادساً: الأزمة الاقتصادية: المداخل الاقتصادية

الملاحظة الأولى التي يمكن الإشارة إليها في المدخل الاقتصادي، أنه بعد الأزمات الكبرى يتم الحديث عن احتمالية قيام حروب، وأن البعض ذهب للقول أنه بعد كورونا سيدخل العالم في حرب لانعاش الاقتصاد.

لكن هذا لم يحدث لأننا نشهد حالة إنعاش خلال العام الماضي، لكنه إنعاش ترتب عليه تضخم غير طبيعي، مع توفير سيولة مالية ضخمة و مع زيادة الإقبال على سلع الرفاهية بصورة غير مسبوقة.

وبالتالي العامل الاقتصادي في إشعال الحرب الراهنة ليس مؤثرا بدرجة كبيرة، ولكن بروز العامل الاقتصادي في هذه الحالة كأداة من أدوات الصراع قد يكون نوع من أنواع توازن القوى، في ظل الحديث عما يمتلكه كل طرف من طرفي الصراع، عما تمتلكه روسيا من نفط وغاز ومصادر طاقة، في مواجهة ما تستورده أوروبا من هذه السلع وهذه الموارد، وتأثيرات ذلك على اقتصاديات الطرفين.

لقد برز منذ فترة أن المؤسسات الاقتصادية العالمية المهيمنة على النظم الاقتصادية هي جزء من منظومة الهيمنة السياسية أيضاً، ويتم استخدامها لترسيخ هذه الهيمنة. في هذه الأزمة تستخدم هذه الأدوات بقوة غير مسبوقة.

نموذج سويفت SWIFT للتحويلات المالية مثلا أداة كبرى مؤثرة في الاقتصاد الدولي لا يمكن لكثير من الدول والشركات والمؤسسات أن تعمل بعيداً عنه. و يصعب على الدول أن تؤسس نظما بديلة، وبقي النظام الرئيس أداة من أدوات الهيمنة العالمية، وهو ورقة بيد القوى الغربية، واستمرار هذه الورقة، والعمل بها، حتى فى روسيا والصين اللتان حاولتا إنشاء نظم بديلة على سبيل المثال لنظام سويفت منذ سنوات، ولكنها لم تحقق الأهداف المرجوة، ولم تصل إلى الحجم أو الدرجة التي يمكن الاعتماد عليها.

الملف شديد الأهمية في سياق الأزمة هو ورقة العقوبات الاقتصادية المتصاعدة التي تنهمر  على روسيا دونما توقف، هادفة إلى توجيه مجموعة متنوعة من الضربات القاصمة للاقتصاد الروسي والعمل على الزج به خارج أطر العمل الدولي وحشره في الزاوية حتى الاستسلام، انطلاقا من أدوات الهيمنة الاقتصادية والمالية العالمية التي بنيت خلال الخمسين عاما الماضية والتي تشكل أدوات تحكم عن بعد، تمسك بمفاتيحها الدول الكبرى، والتي تكبد المارقين عن الأطر المرسومة بدقة خسائر فادحة، ربما تستطيع الدول تحملها لبعض الوقت، ولكن المؤكد أنها لن تستطيع الاستمرار في التحمل بدون تكاليف باهظة وفي مقدمتها فقدان المناصرين والداعمين حتى من الداخل.

ولا شك أن استخدام تلك العقوبات يعد أسلحة اقتصادية مدمرة، لن تدفع الاقتصاد الروسي فقط نحو الركود العميق، ولكنها في الأساس تهدد الاستقرار المالي والاجتماعي، وربما مستقبل تماسك الدولة الروسية بأكملها، ولا يعد ذلك من قبيل المبالغة، فالدول التي تفرض العقوبات تمثل نصف اقتصاد العالم، وتستخدم كل المتاح لديها من أدوات القوة الاقتصادية، ضد دولة تمثل فقط 2% من الاقتصاد العالمي.

تعددت العقوبات التي فرضت على الاقتصاد الروسي جراء الغزو لأوكرانيا، وكان أهمها العقوبات التي فرضت على البنك المركزي والصناديق السيادية الروسية، بالإضافة إلى إزالة بعض البنوك الروسية من نظام “سويفت” للتحويلات المالية العالمية، وتجميد أصول الرئيس بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، وإدراج سيرغي شويغو وزير الدفاع، وألكسندر بورتنيكوف رئيس جهاز الأمن الروسي، في قائمة حظر السفر وتجميد الأصول في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

كما استهدفت العقوبات كذلك تجميد أصول الشركات الكبرى المملوكة للدولة الروسية بما فيها الشركات المملوكة لوزارة الدفاع، والعمل على تأسيس قوة تعمل عبر المحيط الأطلسي للبحث عن الأصول الروسية والعمل على تجميدها، سواء كانت مملوكة لأشخاص أو لشركات روسية، علاوة على منع بيع قطع غيار الطائرات للشركات الروسية، ومنع بيع السلع ذات التقنية العالية لروسيا.

كذلك أقر الاتحاد الأوروبي الحد من بيع الجنسية أو المواطنة باستخدام قانون “جواز السفر الذهبي” الذي يسمح للأثرياء الروس بالحصول على جنسية دول أوروبية، كما فرضت عقوبات على المنصات الإخبارية الروسية، ومنها وكالة أنباء سبوتنيك وقنوات روسيا اليوم.

كانت أخطر هذه العقوبات إعلان المفوضية الأوروبية والولايات المتحدة وكندا، فرض عقوبات إضافية على روسيا، تضمنت عقوبات على البنك المركزي، ومنع ولوج 70 بالمائة من المصارف لنظام سويفت للتحويلات المالية عبر الحدود، كل ذلك بالإضافة إلى العقوبات التي اتخذتها بعض الدول مثل بريطانيا وفرنسا والتي قيدت دخول السفن الروسية لموانئها، وحظر تصدير بعض السلع التي يمكن أن تستخدم لأغراض مدنية أو عسكرية، ومنع المواطنين والشركات من أي تحويلات مالية نحو روسيا.

من المنطقي بعد توجيه الغرب لترسانة أسلحته الاقتصادية نحو الاقتصاد الروسي أن تبحث روسيا عن حلفاء محتملين يساعدونها على تخطي بعض من تداعيات تلك العقوبات، ويبرز التنين الصيني الصاعد كأهم حليف يمكن الاستناد إليه في المرحلة الراهنة، خاصة أنه يعد هو الآخر مارقا من وجهة النظر الأميركية، مما استوجب فرض مجموعة متنوعة من العقوبات ضده، بالإضافة إلى التاريخ والتعاون الاقتصادي المشترك بين الدولتين لا سيما على صعيد تصدير الغاز.

فمن ناحية أصبحت الصين المستورد الأكبر للغاز الروسي وذلك بعد استكمال عدة خطوط لنقل الغاز الروسي عبر سيبيريا، وهو ما أفلت احتياجات الصين من الغاز من القبضة الأميركية التي تتحكم في الطرق البحرية التي كانت تمر منها سابقا 80% من الواردات الصينية عبر مضيق ملقا، كما ساعد الروس ولو نسبيا على تنويع أسواق التصدير كبديل لشبه الاحتكار الأوروبي لصادراتهم من الغاز.

كما أن مؤشرات العلاقة الاقتصادية بين الجانبين تسير في اتجاه إيجابي، سواء على المستوى الثنائي أو في الأطر الإقليمية التي ينتميان إليها، ويبرز ذلك بتوقيع اتفاقيات الشراكة الإستراتيجية، والتعاون الرقمي، وإطلاق مشاريع البنية التحتية الداخلية والمشتركة، وتعزيز قطاع المشاريع المالية المشتركة، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من العمال الصينين الذين يعملون في مشاريع البنية التحتية الروسية.

وهو الأمر الذي أثمر عن زيادة كبيرة في التبادل التجاري بين البلدين، حيث أظهرت بيانات هيئة الجمارك العامة الصينية نموا للتبادل التجاري بين روسيا والصين خلال عام 2021 بنسبة 35.8 في المائة لتبلغ 146.88 مليار دولار، حيث ارتفعت الصادرات الصينية إلى روسيا بنسبة 33.8 في المائة على أساس سنوي وبلغت 67.565 مليار دولار، وزادت الواردات من روسيا إلى الصين بنسبة 37.5 في المائة لتبلغ 37.5 مليار دولار.

بالإضافة إلي توفير روسيا ما يقارب 40% من احتياجات الغاز الصينية، والتوافقات البينية والمشتركة بين البلدين في الكثير من القضايا والملفات، بالإضافة إلى أن الصين كانت المحطة الأخيرة للرئيس فلاديمير بوتين في مطلع فبراير/شباط الماضي قبل غزو أوكرانيا بقليل، وتوقيعه لاتفاقيات متنوعة تصل قيمتها لحوالي 117 مليار دولار، كل ما سبق دفع العديد من الباحثين للقول بأن الصين ربما تشكل الملاذ الأخير المحتمل لروسيا لتخفيف وطأة الحرب الاقتصادية الأوروأميركية.

من الواضح أن بكين لن تدعم أي عقوبات ضد موسكو وستظل شريكة لها، ولكن السؤال إلى أي مدى؟ وهل ستواصل الصين تطوير التعاون الاقتصادي مع روسيا بما يضمن تخفيض فواتير العقوبات، ووفقا للمحللين الروس فإن موسكو تأمل أن يتفهم الصينيون أن دورهم قادم، وأن مساعدتهم روسيا جزء من دفاعهم عن أنفسهم، وأن الصورة التي يصدرها الغرب أن العالم كله يواجه روسيا ليست إلا مبالغة إعلامية غربية، حيث الواقع أن روسيا تواجه فقط أوروبا والولايات المتحدة، فهناك أيضا دول في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.

كما أنه من الواضح، طبقا للمحللين الروس، أن الصين وبقية دول منظمة شنغهاي للتعاون، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، قادرة بتعاونها معا، على التخلي عن نظام بريتون وودز والدولار، وتأسيس نظام خاص بها، وبعد ذلك ستكون هناك منافسة بين النظامين، وسيحدد الزمن أيهما أكثر استقرارا.

تعبر الأمنيات الروسية السابقة عن مكنون الفكر الروسي حول الخروج من الأزمة، ولكن السؤال الأهم يدور حول واقعية الطرح الروسي واستعداد التنين الصيني لاستمرار الدعم الاقتصادي، بما يعرض الشركات الصينية نفسها للعقوبات؟ هل الصين مستعدة للمواجهة في الوقت الراهن لا سيما أن هذا الاستعداد لم يتجل في تصريحات رسمية بعد، كما أن الرئيس الصيني شي جين بينغ في آخر محادثة هاتفية مع الرئيس الروسي منذ أيام، صرح بعدة عبارات مطاطة قائلا: “إنه يجب في الأزمة الأوكرانية، التخلي عن عقلية الحرب الباردة واحترام المصالح الأمنية المشروعة لجميع الدول”، كما أكد أن الجانب الصيني يؤيد التسوية بين روسيا وأوكرانيا من خلال المفاوضات، بما يعني أن الصين لم تقرر التوغل في المستنقع الحالي على الأقل في الفترة القصيرة القادمة.

اتفق معظم الخبراء أن يوم بداية الحرب على أوكرانيا كان إيذانا ببداية تشكل نظام عالمي جديد، وأيا كان الترجيح حول جر روسيا إلى الحرب لاستنزافها أو قدرات الدب الروسي على الصمود، سيبقى الحليف الصيني المحتمل قوة رافعة لروسيا في مواجهة استنزاف العقوبات الاقتصادية المنهمرة، بالإضافة إلى إمكانات اتحادهما في تشكيل ذلك النظام العالمي الجديد، إلا أن السؤال المهم هو متى يمكن أن يحدث هذا؟

وسيبقى العجيب في الأمر استسلام الدول العربية لوقائع الأحداث وعدم استثمار الفرص التي تخلفها ساحات الحروب في شغل أحد مقاعد الفواعل الدولية، أو على الأقل تعظيم مكاسبها من خلال الانحياز لأحد الطرفين، وعموما فقد تأكد من جديد أن مصالح الشعوب العربية تختلف تماما عن مصالح أنظمتها، وهو الأمر الذي جعل هذه الشعوب تابعة للنظام العالمي القديم وعلى الأرجح الجديد.

وفي سياق الأبعاد الاقتصادية للأزمة من المهم الوقوف على تداعيات الأزمة على تركيا على سبيل المثال، باعتبارها شرك استراتيجي لطرفي الصراع (روسيا وأوكرانيا). و تُعتبر تركيا إحدى الدول شديدة الأهمية في أوروبا، للعديد من الأسباب الجيوسياسية والعسكرية والاقتصادية. وعلى الرغم من أن عضويتها في حلف الناتو تضعها تلقائياً على الجبهة الأوروأميركية، إلا أنه من الواضح، وبعد مرور أكثر من أسبوعين على الحرب على أوكرانيا، أن الموقف التركي تطوّر من الأزمة حتى أصبح أكثر وضوحا مع مرور الوقت، الأمر الذي دفع البعض إلى وصف ذلك الموقف من الحرب في البداية تارة بالارتباك، وأخرى بالتباطؤ المتعمد، وثالثة بالعقلانية الرشيدة، وفق تشابك المصالح المعقد مع جميع الأطراف.

سريعاً، اعترفت تركيا بأن ما يجري على الأراضي الأوكرانية هو عمليات حربية تستدعي تطبيق أحكام اتفاقية مونترو، التي تقضي بإغلاق المضائق أمام السفن الحربية للأطراف المتحاربة، وهو ما يعني كذلك منع مرور السفن من الدول غير الإقليمية إلى البحر الأسود. وفي نفس الوقت، لم تصبح تركيا طرفًا في العقوبات الاقتصادية القاسية التي فرضت على روسيا، ولم يُغلق المجال الجوي التركي أمام الطائرات الروسية، وهو ما فسّره مراقبون بمحاولة أنقرة الحفاظ على علاقاتها الاقتصادية مع الجانب الروسي.

تشابك اقتصادي معقد بين تركيا وأطراف الحرب

تعاني تركيا منذ فترة ليست بالقليلة من أزمة الانخفاضات المستمرة لسعر صرف الليرة، وهو الأمر الذي أجج معدلات التضخم المحلية لتتجاوز 50% خلال الأشهر الماضية، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في منتصف العام القادم، ومع تزايد الأزمات العالمية، وفي مقدمتها التضخم، يبدو أن تعامل الأتراك مع الأزمة الأوكرانية مدفوع بأسباب اقتصادية إلى حد كبير. وأشارت مؤخرا إحدى نتائج استطلاعات الرأي المحلية إلى احتلال العامل الاقتصادي المركز الأول لدى أكثر من 70% من الجمهور المستطلع.

وتشير المؤشرات الاقتصادية إلى تشابكات معقدة بين الاقتصاد التركي من جانب، وأطراف الحرب على أوكرانيا من جانب آخر، سواء المنخرطين في المواجهة المباشرة وهما روسيا وأوكرانيا، أو غير المباشرة مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

فمن المعروف أن دول الاتحاد الأوروبي هي الشريك التجاري الأول للدولة التركية، ورغم نجاح تركيا في تنويع أسواق صادراتها خلال الأعوام العشرة الأخيرة، إلا أن أسواق الدول الأوروبية لا تزال تستوعب أكثر من 50% من تلك الصادرات، بالإضافة إلى كونها المصدر الأول للاستثمارات الأجنبية المباشرة المتدفقة نحو تركيا، باستحواذها على 60% من جملة تلك الاستثمارات في العام الماضي، علاوة على ملايين السياح الأوروبيين الذين يعدّون أحد أهم مصادر الدخل الرئيسية التي تعتمد عليها الدولة التركية.

كما أن العلاقات الاقتصادية مع الجانب الروسي تبدو متشابكة هي الأخرى، حيث أظهرت بيانات هيئة الجمارك الفيدرالية الروسية بلوغ قيمة التبادل التجاري بين البلدين خلال عام 2021 ما يزيد عن 33 مليار دولار، مسجلا ارتفاعاً بنسبة 57%، مقارنة بعام 2020، وبلغت قيمة الصادرات من روسيا إلى تركيا 26.5 مليار دولار (بزيادة 66.4%)، في حين بلغت الواردات من تركيا 6.5 مليارات دولار، بزيادة 27.4%.

وجاءت الخضروات والفواكه الطازجة والحمضيات والعنب والطماطم، على رأس الصادرات التركية إلى روسيا، وهي سلع سريعة التلف سيتضرر منتجوها الأتراك بشدة عند توقف تصديرها، كما ستحدث نقصاً هاماً في السوق الروسية حال غيابها، بخلاف اعتماد تركيا على استيراد القمح من روسيا. كما أنه من اللافت كذلك ما أعلنه رئيس اتحاد مقاولي البناء في تركيا عن وجود مشروعات تنفذها الشركات التركية في الداخل الروسي، تقدّر بنحو 20 مليار دولار.

كما استقبلت تركيا نحو 5 ملايين سائح روسي في العام المنصرم، مقارنة بنحو 4.5 ملايين في عام 2020، وهو ما يمثل 20% تقريبا من إجمالي السياح القادمين إلى تركيا. وتجدر الإشارة إلى وجود موجة من إلغاء الحجوزات والصفقات السياحية من الجانب الروسي، رغم مرور بضعة أيام فقط على الحرب، وهو ما يشير إلى احتمالية تأثير سلبي كبير على الإيرادات السياحية التركية، خاصة حال اتساع أمد الحرب.

كل ذلك، بالإضافة إلى مرور “خط السيل التركي”، وهو المشروع الاقتصادي العملاق المشترك بين البلدين، والذي يقوم على نقل الغاز الروسي إلى كل من تركيا ودول جنوب وشرق أوروبا عبر أنابيب ناقلة تمر من البحر الأسود وعبر الأراضي التركية، وهو ما يعني أن تركيا التي تغطي احتياجاتها بالكامل من الطاقة تقريباً عبر الاستيراد، والمتطلعة لشغل مركز ما بين الاقتصادات العشرة الأكبر في العالم تعتمد بنسبة كبيرة على الغاز الروسي، الذي استوردت منه 33.6 مليار متر مكعب عام 2020، من أصل إجمالي استهلاك في نفس العام وصل إلى أكثر من 48.1 مليار متر مكعب.

وهو الأمر الذي يظهر بجلاء مدى التشابك الاقتصادي المعقد بين البلدين. ويجب ألا ننسى في ذات الإطار إمداد روسيا لتركيا بصفقة صواريخ إس 400 بعد التعنت والمماطلة الأميركية.

أما عن العلاقات الاقتصادية التركية الأوكرانية فتوجد تطورات ملفتة في هذا الملف، حيث نجح التعاون الاستراتيجي بينهما في تعزيز الشراكة الاقتصادية، حيث تحتل تركيا المرتبة الخامسة في قائمة كبار الشركاء التجاريين لأوكرانيا، وبلغ التبادل التجاري بين البلدين نحو 7.42 مليارات دولار عام 2021، وبلغت الصادرات التركية إلى أوكرانيا 2.1 مليار دولار عام 2020 وارتفعت إلى 2.9 مليار دولار عام 2021، بزيادة 43%، بينما ارتفعت الواردات بنسبة 87%، من 2.59 مليار دولار عام 2020 إلى 4.52 مليارات دولار عام 2021.

كما بلغ عدد الشركات التركية العاملة في أوكرانيا نحو 600 شركة، تدر 2.5 مليار دولار سنويًا على الاقتصاد الأوكراني، كما بلغ عدد السائحين الأوكرانيين في تركيا 2.1 مليون سائح في العام الماضي، وبذلك يشكل مجموع السياح الأوكرانيين نحو 7% من مجمل أعداد السياح الوافدين لتركيا.

كما أن تركيا تعتمد على أوكرانيا في استيراد نسبة لا يستهان بها من احتياجاتها من الذرة والقمح وزيت الطعام وبذور عباد الشمس وبعض المعادن ومواد ومنتجات أخرى تستعمل في الصناعات الغذائية، بينما تصدر لها الحمضيات والعنب والطماطم وغيرها من الخضروات الطازجة والفاكهة. ويجب ألا ننسي في هذا الإطار دور المسيرات التركية الكبير في الحرب الدائرة، وهو الدور الذي عبّر عنه الأتراك بكونه صفقات تجارية ليس أكثر.

الموازنة بين الأطراف إلى متى؟

تشير العلاقات الاقتصادية المتشابكة والمعقدة بين أطراف الحرب على أوكرانيا بوضوح إلى تضرر كبير للاقتصاد التركي، حال اتخاذ موقف حاد ومباشر يعادي أحد الأطراف، ويفسر ذلك بعضاً من التوازن في القرارات التركية حتى الآن، وتصميم أنقرة على القيام بدور الوسيط الساعي إلى إيقاف الحرب، خاصة مع عدم الضغط الكبير من الجانبين الأوروبي والأميركي حتى الآن.

لكنه من المتوقع، في حال طال أمد الحرب، أن تضغط الأطراف المختلفة بغية المزيد من الوضوح، خاصة إذا استخدم الروس أساليب عسكرية أشد فتكا أو انتهاكا لحقوق المدنيين الأوكرانيين، وهو الأمر الذي سيجبر الإدارة التركية على مراجعة سياسة التوازن الحالية ومحاولة البحث عن قرار يحقق أقل الأضرار الممكنة.

لا شك أن الحرب على أوكرانيا لم تكن في صالح الاقتصاد التركي، كما أنها في وقت شديد الحساسية مع اقتراب نسبي لموعد الانتخابات الرئاسية، وبدأت إرهاصات تأثر السوق المحلية التركية من خلال نقص أو ارتفاع لأسعار بعض السلع، وكلما مر الوقت ستزيد الآثار السلبية على الاقتصاد التركي الذي من المؤكد سيتراجع معدل نموه مقارنة بالعام الماضي، وهو الأمر الذي سيضع الإدارة الحالية في موقف شديد الصعوبة يحتم سرعة رسم السيناريوهات المختلفة للخروج بأقل الأضرار، ومن المؤكد أن خبراتها المتراكمة لمواقف سابقة أكثر حدة ستساعدها كثيرا في هذا الإطار.

 

.

رابط المصدر:

https://eipss-eg.org/%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b2%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%88%d9%83%d8%b1%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%a1%d8%a9-%d8%a3%d9%88%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d9%88%d9%85%d8%af%d8%a7%d8%ae%d9%84-%d8%aa%d8%a3%d8%b3%d9%8a%d8%b3%d9%8a%d8%a9/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M