مصطفى قطبي
لقد أصبح من الواضح أن الإساءات ”الجماعية المنظمة أو الفردية” للدين الإسلامي، بدءاً من إنتاج صورة الإسلام إعلامياً إما كدين جهل وقتل وتكفير، أو كدين معتدل إلى حد ”الميوعة” العقائدية، وصولاً إلى الإساءة إلى القرآن الكريم، ترتبط بشكل مباشر مع معزوفة حرية التعبير. فقد أقدمت مشاركة في تظاهرة مناهضة للإسلام، في العاصمة النرويجية أوسلو على تمزيق صفحات من القرآن الكريم، وتأتي هذه الحادثة بعد يوم واحد من نشوب مواجهات عنيفة بين الشرطة ومتظاهرين إثر قيام حركة يمينية بحرق نسخة من القرآن في مدينة مالمو السويدية.
وفي فرنسا كررت صحيفة “شارلي إيبدو” الفرنسية، الثلاثاء 01/09/2020، فعلتها الشنيعة التي جعلتها هدفا لهجوم أوقع قتلى وجرحى من هيئتها التحريرية قبل نحو خمس سنوات. فقد نشرت الصحيفة الهزلية، رسوم الكاريكاتير المسيئة للنبي محمد (ص)، التي كانت قد أشعلت العالم عام 2015، باحتجاجات غاضبة وإدانات شاجبة. وكتب مدير الصحيفة الساخرة في العدد الجديد يقول: “لن ننبطح أبدا، ولن نتراجع أبدا”، موضحا أن هذه الرسوم ستعود إلى الصفحة الأولى من الصحيفة بمناسبة المحاكمة وهو أمر “الضروري”. وأضاف أن مؤسسته رفضت في السابق دعوات نشر رسومات كاريكاتيرية جديدة عن النبي محمد لغياب مبرر معقول. وبدوره قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الثلاثاء 01/09/2020، إنه ليس في موقع يمكنه من إصدار حكم على قرار مجلة “شارلي إيبدو” الساخرة، نشر رسم كاريكاتيري للنبي محمد. وأضاف الرئيس الفرنسي أن بلاده تتمتع بحرية التعبير وحرية العقيدة، لكنه يتعين على المواطنين الفرنسيين إظهار الكياسة واحترام بعضهم وتجنب الانسياق وراء “حوار الكراهية”.
منتهى الإسفاف، في التبرير، عندما يتعلق الأمر بالمقدسات الإسلامية، في مواجهة حماية حرية التعبير، عندما يتعلق الأمر بالغرب. والواقع أن الفارق، يكمن في الموقف العربي والإسلامي، في علاقته بالغرب، والذي يتسم بأنه موقف ضعيف، يقوم غالباً على رد الفعل الوقتي، والذي يغلب عليه الطابع الانفعالي، وهو أمر يعرفه الغرب تماماً، ويدركه. وينطبق ذلك على كل القضايا السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية والفكرية، باختصار ينطبق على مجمل علاقتنا مع الغرب.
حرية التعبير في الغرب في مجملها انتقائية بمعنى أن أي حديث عن المحرقة اليهودية هو أمر مرفوض ويعد من الخطوط الحمراء، ومازلنا نتذكر مدى الهجوم الشديد الذي تعرض له المفكر الفرنسي روجيه غارودي الذي تحدث عن المحرقة بأسلوب علمي تاريخي، كما أن مسألة معاداة السامية تعد من الثوابت التي لا تجرؤ صحافة الغرب حتى على الإشارة لها.
الإمبرياليون الذين يتعللون بـ”حرية التعبير” لتمكين المسيئين للإسلام من الإفلات من أي مساءلة، منافقون بمقياس الاستنفار الذي يسارعون إليه حين يتعلق الأمر بمجرد إثارة الشك، بأرقام أسطورة الهولوكوست. والإسلامويون الذين يغفرون للإمبرياليين إساءاتهم حتى للإسلام، إنما يتعكزون على الإسلام الجريح نفسه للبقاء في الحكم، أو لبلوغه. ومن التدقيق في شراكة النفاق هذه بين التابع الإسلاموي والمتبوع الإمبريالي، نتبين الغاية الجلل التي يطمع الإمبرياليون في تحقيقها من إرساء محددات اشتباك مستجدة في الوطن العربي على هذا النحو، الذي تتبدل معه التناقضات بالتزييف.
فأي قيمة تبقى لقبول تعدد الأديان والثقافات، وأي احترام يبقى لها إذا اعتبر تبادل انتهاك الحرمات الدينية بين أتباعها مزاولة لحق حرية التعبير؟ أخال أن هذا التخريج القانوني ـ اذا جاز التعبير ـ سيؤدي في النهاية إلى انهيار بناء هذه المنظومة من المفاهيم والقيم التي يتفاخر بها الإعلام الغربي ليل نهار، ويدعو شعوب العالم إلى تجسيدها. وأيا كان، ونظراً لانتشار التنوع الديني والمذهبي والثقافي في مختلف دول العالم، وفي ضوء الترابط والتشابك الوثيقين بين دول العالم، فإن من شأن انتهاك المقدسات الدينية لهذا الفريق أو ذاك أن يسبب إخلالا بالأمن والسلم المجتمعيين في كثير من الدول في العالم، وقد ينعكس سلباً على مصالحها وعلاقاتها. فلا بد من وضع سقوف واضحة ومحددة لممارسة حرية التعبير بحيث لا تنتهي إلى التفلت والفوضى والتعدي على مقدسات الغير وإحداث فتن وتوترات دينية وعقائدية بين شعوب العالم.
يشعر المسلمون بالألم العميق لهذا التشويه المتعمد لسمعتهم وسمعة وتعاليم دينهم وقرآنهم الكريم، ولا ينبغي أن نكتفي بالشجب أو الإدانة عندما يساء إلى ديننا وإسلامنا وقرآننا ولمقدساتنا… بل لا بد من تحرك عملي، ينتج عنه مراجعة السياسات الغربية، بدلاً من الموقف الغربي الناقص والمائع… إن الخطوة القادمة، بالتحرك إزاء حث الأمم المتحدة لإصدار قانون دولي ملزم، بمنع إزدراء الأديان، هي خطوة وإن كانت متأخرة، إلا أنها تحتاج إلى إرادة سياسية، حان الوقت الآن لتحقيقها… ولابد من إدارة دبلوماسية إسلامية، على مستوى عال من الحرفية، للوقوف في وجه هذه الإساءات، وتفعيل العديد من الاتفاقات والمعاهدات الدولية، التي تحظر ازدراء الأديان. فالدول الإسلامية تستطيع إصدار تشريع عالمي بمنع ازدراء الأديان. فالتوصية الصادرة من الأمم المتحدة عامي 2005/2008 منعت ازدراء الأديان وصدرت بموافقة 85 دولة وامتناع 42 ومعارضة 50 وبالتالي تستطيع وفقا لهذه التوصية التقدم بتشريع ملزم تتبناه الأمم المتحدة أو التوصل لاتفاقية دولية بين الدول الأعضاء.
ألا تستطيع الدول العربية والإسلامية أن تستصدر قرارا أمميا ملزما يحرم الإساءة إلى الأديان والمقدسات الدينية عموما؟ بخاصة أن هناك أكثر من 120 دولة من دول حركة عدم الانحياز وهي في مجموعها لابد أن تقف في صف صدور تشريع أو قرار كهذا ؟ أيضا علينا أن نفهم الدول الداعمة لمثل هذه الاستفزازات أنها يمكن أن تدفع ثمنا باهظا إن هي استمرت في استفزازنا والإساءة إلى ديننا وقرآننا وقيمنا؟
لقد آن الأوان من أجل أن تتجاوب الأسرة الدولية مع هذه المطالب العادلة فتسن قانوناً دولياً ملزماً يحمي الإسلام ومقدساته وسائر الديانات الأخرى في العالم من الحملات الظالمة التي تستهدف تشويه السمعة والتحريض على كراهية الشعوب بسبب انتمائها الديني ولن يكون هذا القانون بدعة تخترع بسبب إلحاح المسلمين إنما هو أمر معمول به في بريطانيا، حيث يوجد قانون يحمي المسيحية وقانون آخر يضمن حماية اليهود والسيخ ولن يضار أحد في العالم إذا استفاد العالم كله من التجربة البريطانية ووسعها لتكفل حماية الإسلام وسائر الديانات الأخرى.
هذا القانون أصبح اليوم مطلباً ضرورياً مستعجلاً ليس فقط من أجل حماية الإسلام والمسلمين من خطاب التحريض والكراهية ضدهم، لكن أيضاً من أجل حماية بقية الأديان، ومن حماية حرية التعبير والحيلولة دون استخدامها شعاراً تتستر به النزعات العنصرية وأيضاً من أجل السلام العالمي ومن أجل إتاحة الفرصة لتنمية علاقات الصداقة والتعاون بين المسلمين وأوروبا وبينهم وبين الغرب عموماً.
نريد في العالم الإسلامي أن نتحرك في هذا الاتجاه… علينا أن نضغط بكل ما أوتينا من قوة، سياسية ومادية واقتصادية وثقافية، لمنع ازدراء الإسلام، أو التعرض لكتابه الكريم، أو رموزه الشامخة… يمكننا أن نترجم ذلك، على الواقع، بدلا من العنف الذي نلجأ إليه، للتعبير عن رفضنا، لهذه المواقف الكريهة، من قلة جاهلة، لا تعرف قدر الإسلام…
رابط المصدر: