الإستراتيجيات الطاقوية في العلاقات الروسية ـ الأوروبية

نورا عبه جي

 

اتصفت البيئة الدولية في ظل التطور الكبير بسرعة التغير والتحول من حالة إلى أخرى أكثر تعقيداً، حتى اتسمت النشاطات الدولية بالتغير المستمر، فالأزمات والاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولدت حالة من عدم الاستقرار الدولي، التي نتج عنها تدخلاً دولياً ساهم في تحقيق مصالح إستراتيجية للقوى الكبرى، ففي حين شكلت الطاقة ومنذ اكتشافها صراعاً دولياً بين القوى الكبرى، أفرزت حالة من عدم الاستقرار في طبيعة العلاقات الدولية، حيث يعد النفط والغاز الطبيعي متغيراً إستراتيجياً تتحكم فيها الدول لتحقيق مكاسب ذات أبعاد متعددة سياسية كانت أم اقتصادية أم عسكرية، ولهذا فلكل دولة إستراتيجية تهتم بشؤون الطاقة سواء كانت منتجة أم مستهلكة تتوافق مع المتغيرات الدولية المتسارعة التي أضحت سمة أساس في طبيعة التفاعلات الدولية.

المطلب الأول: الإستراتيجية الروسية للطاقة

أسهمت إستراتيجية الطاقة الروسية التي اعتمدت بعد عام 2004، في تغير اتجاه تنمية موارد الطاقة الروسية (النفط والغاز) باستنادها أولاً معيار الحقائق الاقتصادية بالدرجة الأولى، حيث أقرت الحكومة الروسية أن صناعة النفط والغاز هما الحافز الرئيس للنمو الاقتصادي، وثانياً اعتراف هذه الإستراتيجية بفوائد تصدير الهيدروكربونات مما يزيل الحواجز أمام عملية تعزيز إمكانيات التصدير في صناعة النفط والغاز، وبذلك تربط هذه الإستراتيجية بين إمكانيات تطوير صناعة الوقود والطلب المحتمل على النفط الروسي في السوقين المحلية والخارجية، بالانطلاق من أهمية تحليل السوق بوصفه أساساً لصادرات الهيدروكاربونات الروسية.[1]

اتخذت روسيا سياسة اقتصادية لقطاع الطاقة مكنتها من الاستفادة القصوى من مقوماتها ومواردها وإمكانياتها المادية، باعتبارها من أغنى دول العالم من حيث مصادر الطاقة، فهي تمتلك سابع أكبر احتياطي نفط ومصدر الغاز الأكبر في العالم، فقد بلغ متوسط الإنتاج اليومي مـن الـنفط الروسي 9.8 مليـون برميـل نفط وحوالي 30 مليار قدم مكعب من الغاز عـام 2007، حيث زاد إنتاج واستخراج النفط والغاز الطبيعي بعد ذلك وازداد معه احتياطي روسيا من العملة الصعبة والذهب بنسبة 70% عما كان عليه عام 2004، حيث تم تحويل الإيرادات الناتجة من بيع النفط (بسعر يفوق 20 دولاراً للبرميل الواحد) إلى صـندوق الاستقرار مما أدى إلى تحقيق الصندوق وفورات تقدر بحوالي 19 مليـار دولاراً فـي 2005 نتيجة ارتفاع أسعار النفط. وبالتالي نتج عن ذلك حتمياً ارتفاع الاحتياطي النقدي في الأعوام التالية مما ساعد في عودة الوهج الروسي وتنامى الاقتصاد بأكمله وتطورت البنية التحتية، حيث توقفت موسكو عن تلقي الإعانات والمساعدات الخارجية خصوصاً بعدما باتت عضواً في مجموعة الدول السبع الصناعية التي أصبحت مجموعة الثمانية بعد التحاق روسيا بها بسبب رئيسي من تأثيرها الكبير في السوق العالمي للطاقة وإحكام سياستها على ذلك القطاع،[2] في ظل ارتفاع العائد النقدي بشكل كبير مع زيادة أسعار النفط والغاز مما شجع على تبني إستراتيجية واضحة شكلت الطاقة وصناعة الأسلحة بؤرتها الأساس بمعنى أن روسيا استطاعت أن تبني اقتصادها معتمدة على ارتفاع اسعار النفط، إذ أن الاقتصاد الروسي بدأ بالتحسن والنمو منذ عام 2000 اذ بلغ المتوسط السنوي بمعدل النمو الاقتصادي المتحقق للأعوام (2000-2007) 6.8%، بفضل مصادر الطاقة والنمو المتزايد للطلب العالمي على الطاقة والاكتشافات المتزايدة من جهة أخرى،[3] كما ارتفع معدل النمو الاقتصادي حتى عام 2012 بحوالي 3.5%، لتحتل روسيا الاتحادية في ضوء ذلك المركز السادس عالمياً من حيث الناتج القومي الاجمالي، وإن لديها أقل مستوی للدين الخارجي يبلغ 3% من حجم الناتج المحلي، إذ يعد ذلك مؤشراً على تطور الاقتصاد الروسي الذي وصلت حجم الاستثمارات الأجنبية فيه عام 2013 إلى أكثر من 370 مليار دولاراً، لتكون روسيا الاتحادية الدولة الخامسة من بين الدول الأوروبية الأكثر جاذبية للاستثمار الأوروبي.[4]

وتتمثل الجوانب الرئيسة لإستراتيجية أمن الطاقة في ضمان الإمدادات المستقرة لموارد الطاقة ذات الجودة القياسية، والاستخدام الفاعل للموارد من خلال القدرة التنافسية للمنتجين المحليين، ومواجهة العجز المحتمل في موارد الطاقة وإيجاد مخزون إستراتيجي من الوقود والقدرات الاحتياطية والتجهيزات القياسية، وضمان الأداء المستقر لمنظومة الطاقة وتوافر الوقود، في وقت تتبع فيه روسيا إستراتيجية ذات أبعاد ثلاثة لدعم القدرة التنافسية لها في سوق الطاقة الأوروبية وأحكام قبضتها على شبكات نقل الطاقة وتوزيعها وهي كالآتي:[5]

1-المشروعات الروسية المشتركة مع كل من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية في مجال النفط والغاز الطبيعي وأبرزها: على سبيل المثال مشروع أنبوب النفط بروغاز – الكسندر بولیس وتكون حصة روسيا 51% بينما تكون حصة كل من اليونان وبلغاريا 24.5، وإنشاء مستودع ضخم للغاز في بلجيكيا وتبلغ حصة روسيا في المشروع حوالي 75% وتسيطر بلجيكيا على نسبة 25%، وإنشاء مشروع أنبوب الشمال الأوروبي الروسي – الألماني (أو ما يسمى مشروع السيل الشمالي)، فضلاً عن تشييد مشروع أنابيب الطاقة الإيطالي الذي يمتد من روسيا إلى جنوبي أوروبا عبر البحر الأسود (أو ما يسمى بمشروع السيل الجنوبي)، فضلاً عن إنشاء مؤسسة مشتركة مع شركة Conceo Philips الأمريكية وتستأثر شركة غاز بروم على حوالي 70% من أسهم الشركة مقابل 30% للشركة الأمريكية، وكذلك بناء مشروع نقل الغاز الروسي عبر الأراضي التركية الذي يزود تركيا بنسبة 30% من وارداتها من الغاز الطبيعي وغيرها من المشروعات الطاقوية التي تشكل الشركات الروسية طرفاً رئيسياً فيها.

2_ التغلغل في قطاع النفط لعدد من الدول الأوروبية وتوسيع نشاط الشركات الروسية فيها من خلال عدة صفقات أهمها على سبيل المثال تلك التي عقدتها شركة غاز بروم لشراء شركة سنتریكا البريطانية التي توفر الغاز لأكثر من 12 مليون مستهلك ومليون مؤسسة صناعية في بريطانيا، وكذلك شراؤها 7% من راس مال شركة غالب أذربيجا البرتغالية التي حصلت على حق توريد 8 مليارات متر مكعب من الغاز الجزائري إلى أوروبا عبر خط أنابيب مينغاز الذي ينقل الغاز الجزائري إلى البرتغال وفرنسا.

3_ السعي للسيطرة على شبكات نقل الطاقة في آسيا الوسطى التي تمثل بدائل محتملة للطاقة الروسية لأوروبا، فقد تم عقد عدد من الاتفاقيات مع دول آسيا الوسطى، شملت كل من كازخستان وتركمانستان من أجل التعاون في مجال استخراج وتصدير النفط والغاز. وعلى هذا الأساس أحكمت روسيا الاتحادية السيطرة على إمدادات النفط والغاز الطبيعي التي تشكل حصتها أكثر مما تملكه الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي مجتمعة، فإذا كانت القوة النووية مصدراً لجبروت السوفيت سابقاً فإن شبكات خطوط الأنابيب للنفط والغاز في عموم روسيا هي مصدر للعظمة الاقتصادية الروسية.[6]

ويمكن القول إن روسيا الاتحادية تقدم مساهمة كبيرة في مجال الاستقرار الاقتصادي العالمي من خلال ثبات نمو اقتصادها الذي يعتمد إلى حد كبير على الطلب المتزايد على الطاقة، وبناء على ذلك، تقترح روسيا المساهمة من خلال انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية ومنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي تشكيل بنية عادلة وديمقراطية للعلاقات التجارية والاقتصادية والنقدية لتصبح عضويتها فاعلة ومساهمة بصورة رئيسة فيها. [7]

إن الهدف الرئيس لإستراتيجية روسيا الاتحادية في مجال العلاقات الدولية والاقتصادية الواسعة هو المساهمة في تنمية اقتصادها الوطني في ظل بيئة دولية سريعة التحرك والتطور، ولتحقيق هذا الهدف فإن إستراتيجية روسيا الاتحادية[8] الطاقوية التي تم الإعلان عنها عام 2004 تقوم على مجموعة مبادئ أبرزها:

1_ البحث عن الحد الأقصى من المنافع وتقليل المخاطر إلى الحد الأدنى في اندماج الاقتصاد الروسي مع الاقتصاد العالمي مع الأخذ بنظر الاعتبار الحاجة إلى الأمن الاقتصادي والطاقوي للبلد.

2_ العمل على خلق ظروف اقتصادية مواتية لتنويع الحضور الروسي في الاسواق العالمية من خلال توسيع نطاق الصادرات وجغرافية العلاقات الاقتصادية والاستثمارات الأجنبية لروسيا الاتحادية.

3_ اتخاذ الاجراءات السياسية والاقتصادية والتجارية لحماية مصالح روسيا الاتحادية طبقا للقواعد الدولية، ومواجهة التدابير السياسية والاقتصادية التي تمس الاقتصاد الوطني التي تهدف إلى التجاوز على حقوق روسيا الاتحادية وشركاتها العملاقة

4_ العمل على توفير الدعم الحكومي للمشاريع والشركات الروسية من أجل الحصول على اسواق جديدة وتطوير الأسواق التقليدية.

5_ الاستمرار في بناء وتحديث قدرة وصناعة الوقود والطاقة لدعم سمعتها كشريك مسؤول في أسواق الطاقة مع ضمان التنمية المستدامة لاقتصادها والمساهمة في الحفاظ على توازن اسواق الطاقة العالمية.

6_ العمل على تعزيز الشراكة الإستراتيجية مع المنتجين الرواد لمصادر الطاقة، وتطوير حوار فاعل مع الدول المستهلكة وبلدان المرور (الترانزیت) على أساس مبادئ امن الطاقة.

وبناء عليه، فإن الإستراتيجية الروسية في مجال الطاقة تتسم بالواقعية فموسكو تتعامل ببراغماتية مع قواعد التعاون ومعاييره التي تحاول فرضها دول الاتحاد الأوروبي. ويظهر ذلك من خلال عدم التزامها في كثير من الأحيان الرؤى والقيم والمعايير الأوروبية للتعاون في مجال الطاقة. ذلك أن موسكو تؤكد دائما أن التعاون في هذا المجال يقلل من تحقيق مصالحها القومية، وأن منظومة الاتحاد الأوروبي تستخدم تلك المعايير والقواعد استخداما براغماتياً يهدف إلى تعزيز مواقعها ومصالحها في سوق الطاقة الروسية من جهة، وتعزيز وجودها في مناطق نفوذ روسيا من جهة أخرى، كما تقرأ موسكو توسع الاتحاد الأوروبي شرقا بأنه خطر على نفوذها ومحاولة أوروبية للحد من دور روسيا في شرق القارة الأوروبية. وطالما أن روسيا هي قطب مرشح في النظام الدولي تقوم بالتفاعل مع وحداته المختلفة على أساس تعظيم مصالحها، فقد بات من الضروري أن تحدث توازناً مع الأقطاب الأخرى.

إن التعامل البراغماتي الروسي مع مقاربات الاتحاد الأوروبي في مجال الطاقة ينطلق من إدراك موسكو للأبعاد الجيوسياسية في سياسات الطاقة التي تحول دون قبولها وتعاملها بحذر مع تلك المقاربات، وتعمل موسكو على استخدام الطاقة أداة للسياسة الخارجية الروسية من خلال تمكين الدولة من السيطرة المطلقة على قطاع الغاز الطبيعي.

المطلب الثاني: الإستراتيجية الأوروبية للطاقة

رغم نجاح تجربة الاتحاد الأوروبي في التكامل والتعاون في ما بينها حتى أصبح نموذجاً يحتذى به وترغب كثير من المنظمات الدولية في التعاون معه، إلا أنه فشل في الوصول إلى تعريف موحد لأمن الطاقة حيث تتبنى كل دولة من دوله الأعضاء، تعريفاً خاصاً بها حسب احتياجاتها وأولوياتها ولم يصل إلى إستراتيجية محكمة لحل مشكلته الطاقوية، ويمكن تفسير تلك المشكلة التي مفادها عدم تحديد إستراتيجية واحدة لكافة الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بسبب ارتباط الطلب على الطاقة بمختلف أنواعها بمستوى التقدم والنشاط الاقتصادي ومعدلات النمو في كل بلد من بلدان الاتحاد،  فكلما ارتفع النمو وكلما زاد التقدم في القطاع الاقتصادي زاد الطلب على مصادر الطاقة، وذلك ما يحدث في أوروبا حيث أنها اقتصاد قوي ولكنه لا يمتلك مصادر طاقة لذلك تزداد المشكلة حدة.

وفي هذا الشأن، أدلت لويولا دي بالاثيو نائبة رئيس المفوضية الأوروبية لشؤون الطاقة والنقل، بيانات متعددة حول الحاجة إلى استقرار اسعار النفط وزيادة مستويات المخزون الإستراتيجي من أجل معالجة مشاعر القلق المتنامية التي تساور أسواق الطاقة خوفاً من تزايد وتيرة تعثر خطوط الإمدادات وسهولة عرقلتها ، ولعلنا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا أن أي إستراتيجية تتعلق بالطاقة يضعها الاتحاد الأوروبي لنفسه تبقى عرضة للتأثر إلى حد كبير بقيود مؤسسية خاصة بالاتحاد ذاته، فضلاً عن التأثير الخارجي المتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية، فما زالت الطاقة ميدانا لم تتخل الدول الأعضاء عن سيادتها فيه لمصلحة المؤسسات الاتحادية المعنية، وأن الاتفاقيات والمعاهدات التي أسس الاتحاد بمقتضاها لم تتعامل مع الطاقة من حيث هي مجال يمكن أن يصبح فيه الاتحاد مؤهلا لصوغ إستراتيجية خاصة به نيابة عن أعضائه , بل ان مقترح إدراج الطاقة ضمن سلطات الاتحاد واختصاصاته، الذي أثير مرات عدة في أثناء الجولات التي عقدت للتفاوض بشأن هذه الاتفاقيات، كان مآله الإخفاق دائما جراء الحرص الشديد الذي تبديه الدول الأعضاء على الاحتفاظ بحقوقها وسلطاتها الوطنية الذاتية فيما يتعلق بقضايا الطاقة.[9]

فضلاً عما تقدم، فإن أسباب سياسية دولية كان لها هي الأخرى دور في هذا الشأن فأغلب الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي قد سارت وفق نهج الولايات المتحدة الأمريكية وانضمت إلى الوكالة الدولية للطاقة منذ تأسيسها ( بقيت فرنسا خارجها في بادئ الأمر)، وعلى الرغم من أن الوكالة الدولية للطاقة هي منظمة دولية محض، فإن مجرد تأسيسها قد شغل الحيز الذي كان يفترض أن تشغله المفوضية الأوروبية، ومنذ تلك الفترة أصبحت المصاعب تعترض طريق هاتين المؤسستين اللتين تختلفان اختلافاً كبيراً، ومن هنا، فإن المفوضية تفتقر إلى التفويض الذي يؤهلها لمعالجة قضايا الطاقة ومع أن هيئة موظفي المفوضية الأوروبية تضم ومنذ وقت طويل مفوضة مكلفة بالتعامل مع مشكلات الطاقة، فضلاً عن مدير عام لشؤونها وهو المنصب الذي تم دمجه ضمن المديرية العامة لشؤون النقل والطاقة، فإن هذا المنصب لم يحظ بقاعدة مؤسسية قوية .[10]

ونتيجة لذلك فإن المبادرات التي اتخذتها المفوضية الأوروبية لشؤون الطاقة صارت تبنى على أساس، اقامة سوق اوربية موحدة، وحماية البيئة، وحماية المستهلك، حتى حين أطلقت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مبادرة دبلوماسية رئيسة لإقامة نظام خاص بالطاقة سمي (الميثاق الأوروبي للطاقة) ثم (ميثاق الطاقة) بعد ان أبدت دول أخرى منها الولايات المتحدة الامريكية وكندا واليابان واستراليا وغيرها رغبتها في الانضمام إليه، فلم يسفر عن ذلك إلا إنشاء سكرتارية لهذا الميثاق مستقلة استقلالاً كلياً عن سائر مؤسسات الاتحاد.

أولت الإستراتيجية المتعلقة بالطاقة التي انتهجها الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه جل اهتمامها في فترة التسعينات من القرن العشرين لتحرير هذا القطاع وإقامة سوق أوربية موحدة للطاقة، فقد تبنى الاتحاد الأوروبي عدد من القرارات ذات صلة بقطاعي النفط والغاز للقضاء على الاحتكارات الحكومية الالزامية وإزالة العوائق التي تعترض حركة ونشاط السوق، لتمهيد الطريق أمام أحداث تكامل أكثر فاعلية بين الدول الأعضاء في الاتحاد، نظراً لأن انشاء سوق موحدة كان يتوقع له أن يسهم أيضاً في تعزيز أمن إمدادات الطاقة،[11] حيث أولى الاتحاد الأوروبي اهتمامه لإقامة اواصر متينة للشراكة مع روسيا في ميدان الطاقة، فضلا عن سعيه الحثيث لتطوير علاقاته مع دول مجلس التعاون الخليجي العربي. وفي أواخر عام 2000 نشرت المفوضية الأوروبية تقريراً عن أمن إمدادات الطاقة ووصفته كوثيقة رئيسية من بين عدد من الوثائق للدلالة على تعاظم الاهتمام بالجوانب الجيوسياسية لإمدادات النفط والغاز، وبالمخاوف التي تقترن بضمان أمنها، ومن بين الوثائق الأخرى ذات الصلة بذلك تلك التي حملت عنوان السياسة الأمريكية الوطنية للطاقة وغيرها من الاسهامات والتقارير المتخصصة بالشأن الطاقوي،[12] أبرزها ما طرحه الاتحاد الأوروبي في تلك الفترة كمشروع نظام المراقبة لإمدادات النفط والغاز Observation System of Oil and Gas، وذلك بهدف تصميم هيكل تشريعي متماسك ضمن الجماعة الأوروبية لمراقبة فعالية توريد الطاقة وكفاءته يأخذ بالاعتبار أهمية ربط روسيا بهذا النظام وتعزيز الشفافية والأمن في إمداد الطاقة،* حيث قادت الحوارات مع موسكو إلى انفراج في العديد من الملفات منها انضمامها إلى منظمة التجارة الدولية، والتصديق على اتفاقية طوكيو عام 2004 التي دخلت حيز التنفيذ عام 2005.

تعود هذه العلاقة الوطيدة في مجال الطاقة إلى سبعينيات القرن الماضي، فقد تم الاتفاق بين مجموعة من الدول الأوروبية (النمسا، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا) والاتحاد السوفياتي السابق على ما عرف باتفاق التعويضات Compensation Agreements، بموجبه تقوم دول أوروبا الغربية بالتمويل وإرسال التكنولوجيا المتطورة للاتحاد السوفياتي، مقابل تزويد الاتحاد السوفياتي تلك الدول بالطاقة، وقد كانت النمسا قد وقعت أول اتفاق مع الاتحاد السوفياتي في هذا المجال عام 1968، ومن ثم قامت كل من إيطاليا وفرنسا وألمانيا الغربية بتوقيع اتفاقيات مماثلة يتم بموجبها تزويد أوروبا الغربية ب 11.5 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي عام 1976، وارتفع ليصل إلى 34 مليون متر مكعب عام 1985. [13]

لقد سعى الاتحاد الأوروبي من خلال المفوضية الأوروبية المتخصصة بمجال الطاقة إلى تطوير البنى التحتية لقطاع نقل النفط والغاز، وهو الميدان الذي يشغل بال المفوضية على نحو تقليدي حيث تمتلك في الوقت عينه الأدوات والوسائل الهامة التي تمكنها من متابعة أهدافها المعلنة ووضعها موضع التنفيذ.

يعتمد تحقيق أهداف سياسة الطاقة المعتمدة من قبل الاتحاد الأوروبي على مجموعة من المحددات تتمثل بشكل رئيسي في وجود قناعة شاملة لدى الأعضاء بأن نسبة الاعتماد على المواد الخام المستوردة من الطاقة مرتفعة جداً، وأن ذلك يمكن أن يتسبب في أزمة مع وجود عدم توازن بين قطاعي الإنتاج والاستهلاك، ناهيك عن الارتفاع المطرد لأسعار الطاقة والتأثيرات المختلفة على المناخ العالمي، فضلاً عن قضية حماية البيئة، وسعي بعض الدول الأوروبية تأمين مصادر طاقة نظيفة بعيداً عن الطاقة النووية، والبعض الأخر يفضل الطاقة النووية، وكذلك النظرة الإستراتيجية للطاقة قبل الاقتصادية، وبناء على ذلك يمكن تحديد أهم السياسات المذكورة في أجندة الاتحاد الأوروبي في مجال الطاقة وتتمثل في:

1_ تطوير حوار الطاقة مع الدول المجاورة لتوليد ونقل الطاقة ووضع مصالح تلك الدول في الاعتبار، وإجراء إصلاحات في سوق الطاقة وتحقيق الطاقة المستدامة.

2_ تعزيز الحوار مع البلدان الشريكة في أمن الطاقة والتي تريد تأمين إنتاجها وذلك من خلال التنسيق فيما بينهما كما تفعل روسيا، فهي تسلك سياسة التنسيق والاتفاق مع الدول الكبرى المصدرة للطاقة من أجل الحفاظ على سوق النفط بأسعار معينة وتأمين تلك الصادرات.

ولعل أولى الخطوات المفترضة بهذا الاتجاه التعاوني هو تصديق روسيا على معاهدة ميثاق الطاقة، إلا أن الروس لم يولوا أي اهتمام فيما يتعلق بمعاهدة ميثاق الطاقة، ومن هنا فإن الأمل ضئيل جداً في أن تتحرك روسيا باتجاه اقامة سوق تنافسية وشفافة للطاقة يمكن أن تجتذب استثمارات كبريات الشركات النفطية العالمية، أو أن تمهد الطريق وصولاً إلى مصادر الطاقة في آسيا الوسطى وبحر قزوین.[14]

ومن هنا ركزت إستراتيجية الطاقة في الاتحاد الأوروبي بصورة مباشرة على إقامة علاقات إستراتيجية وثيقة مع روسيا الاتحادية ودول مجلس التعاون الخليجي والجزائر، الثلاثي الذي لا يستطيع الاتحاد الأوروبي الاستغناء عنه في إمدادات الطاقة (النفط والغاز الطبيعي)، وتمتاز روسيا بميزتين رئيسيتين جعلها تتربع على قمة الهرم الطاقوي لإستراتيجية الطاقة في الاتحاد الأوروبي:[15]

1- القرب الجغرافي من دول الاتحاد الأوروبي، فمن المعلوم أن نقل الطاقة مكلف للغاية فكلما كانت المسافة قريبة فيما بين المنتج والمستهلك، انخفضت تكاليف النقل.

2- وجود البنى التحتية اللازمة لنقل الطاقة (النفط والغاز الطبيعي)، فالأنابيب هي الوسيلة الأهم والأكثر استخداماً ما بين روسيا والاتحاد الأوروبي، فهي الأرخص في نقل الطاقة ومشاريع مدّ الأنابيب في تطور مستمر بين روسيا والاتحاد الأوروبي، وهناك شبكة كبيرة من أنابيب نقل النفط والغاز الطبيعي بين روسيا والاتحاد.

إن اعتماد الاتحاد الأوروبي على الطاقة الروسية في زيادة مستمرة على الرغم من الجهد الكبير الذي تبديه دول الاتحاد على تنويع مصادر إمداداتها من آسيا الوسطى والقوقاز وشمال أفريقيا والشرق الأوسط، وإن أهم ما أكدت عليه إستراتيجية الطاقة في الاتحاد الأوروبي يتمثل في ما نصت عليه من:[16]

1_ ضرورة التكامل الروسي-الأوروبي في مجال الطاقة، ولابد من أن يكون هذا التكامل على مستويين أولهما خلق إطار عملي أوروبي روسي مشترك للطاقة لاسيما في قطاع الغاز الطبيعي، وثانيهما ربط قطاع الطاقة الروسي بشكل أكثر التصاقا بأوروبا، وهذا يتطلب من الاتحاد الأوروبي أن يعالج بعض المشاكل البنيوية التي تسمح للاعتماد على روسيا.

2_ دعم سوق متكاملة للغاز في دول الاتحاد الأوروبي في ما بينها، وهذا يتطلب الآتي: [17]

_ اتباع إطار عملي تنظيمي مشترك لوقاية الدول التي تعتمد بصورة كبيرة على روسيا من صدمات الإمدادات، وسوف يسمح الإطار العملي التنظيمي المشترك بالتنسيق على مستوى الاتحاد الأوروبي، ويخلق سوقاً ذات مرونة كبرى لتمكين إمدادات الغاز من الانتقال والتبادل بين الدول الأعضاء.

_ تشييد شبكة من خطوط أنابيب الغاز بدءاً بجنوب شرق أوروبا، وأن تحصين دول الاتحاد الأوروبي التي تعتمد كثيراً على ممر روسيا أوكرانيا – بلاروسيا، القائم ضد حالات الانقطاع يتطلب القدرة على نقل الغاز بسرعة وفاعلية وسط دول الاتحاد وهذا يتطلب خطوط أنابيب إضافية تنقل الغاز بعيدا عن أوكرانيا و بلاروسيا وهذا ما عملت عليه روسيا الاتحادية من خلال العمل على إقامة مشاريع خطوط نقل الغاز بعيداً عن أوكرانيا وبلاروسيا من خلال (نورد ستريم) (وساوث ستریم).

_السعي وراء الإمكانية التامة لفصل الأسعار، إذا كانت المرحلة الأولى من إستراتيجية الطاقة في الاتحاد الأوروبي هي التكامل مع روسيا من أجل الطاقة فإن التركيز على الدور الروسي في أسواق الطاقة الأوروبية ضرورة أساس من ضرورات أمن الطاقة الأوروبي، وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية يدعمان تنوعاً أكبر بعيداً عن روسيا، لكن الواقع أنه في المستقبل المنظور سوف تكون روسيا لا غنى عنها إلى الاقتصاد الأوروبي.

_ تبني قواعد ثابتة للشفافية والتمسك بها، إذ يسعى الاتحاد الأوروبي من تأمين الشفافية بين أعضائه من جهة وروسيا من جهة أخرى، بل يعده جهداً جماعياً من أجل تأمين إمدادات الطاقة، من المعلوم أن إستراتيجيات الطاقة تحتاج إلى المزيد من الشفافية والثبات وذلك للحيلولة دون حصول أزمات قد تعرقل إمدادات الطاقة، وهذا ما ينعكس سلباً على الاقتصاد الأوروبي بصورة أكبر.[18]

_ السعي وراء الدخول في عقود طويلة الأجل خاصة بالغاز، فالاهتمام الروسي بشراء البنية التحتية الخاصة بالطاقة في دول الاتحاد الأوروبي من خلال شركة غاز بروم المتنفذة، وهذا عنصر إضافي لمطلب الأمن الروسي، يسعى الاتحاد إلى الدخول مع روسيا في هكذا ترتيبات من خلال إستراتيجية الخاصة بالطاقة وعلى الرغم من الضغوطات التي يتعرض لها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. فإن مثل هذه العقود تؤمن للمزودين سعراً مضموناً كذلك حافزاً للاستثمار في خطوط الأنابيب وعناصر أخرى في البنية التحتية الخاصة بالطاقة، وتضمن توافر الإمدادات بصورة مستمرة للمستوردين.[19]

  1. إستراتيجية التنويع وبغض النظر عن الأهداف الجيوسياسية الروسية، فإن الاتحاد الأوروبي يستمد هذا القدر الكبير مما يحتاج اليه من الطاقة من مصدر واحد ينطوي على إشكالية وحتى لو كان السبب هو مخاوف الاتحاد الحقيقية من قدرة روسيا على الوفاء بالتزاماتها التعاقدية، فالاتحاد يحتاج إلى تنويع إمداداته من الطاقة جغرافيا ونوعياً، وفي الوقت نفسه يحتاج إلى تخفيض طلبه الكلي على الطاقة لكي يحتوي أثار التغير المناخي، وتقليل المشكلات المحتملة للاعتماد المفرط على مصدر واحد إلى الحد الأدنى. ولهذا السبب لابد من أن تكون إستراتيجية التنويع طويلة الأجل وتتضمن كثير من العناصر أبرزها: [20]

– تنشيط الانتاج الروسي حيث يشجع الاتحاد الأوروبي بشكل كبير لتنشيط الانتاج الروسي المتزايد من النفط والغاز، بوصفهم مستهلكين رئيسين.

– بناء خطوط أنابيب جديدة، وهذا ما يتعلق بدور الاتحاد الكبير في إنشاء منظومة كبيرة من أنابيب الطاقة من آسيا الوسطى والقوقاز وروسيا وشمال أفريقيا.

– زيادة الإمدادات من الدول الإسكندنافية لاسيما النرويج، وشمال أفريقيا والشرق الأوسط.

-العمل على تطوير أنواع جديدة من الطاقة.

-تحسين جهود المحافظة على الطاقة والتقنين في استخدامها.

المطلب الثالث: الإستراتيجية الروسية الأوروبية المشتركة

ترتكز رؤية روسيا للأسواق الطاقوية الأوروبية، إلى وجهات الغاز الطبيعي الروسي، لتحديد أكثر على أهم الزبائن الأوروبيين لروسيا في مجال الغاز الطبيعي، وتحليل سلوك الدول الأوروبية تجاه القضايا التي تهم الطرفين، حيث نشرت وكالة المعلومات الطاقوية سنة 2012 إحصائيات تتعلق بتوزيع الأسواق العالمية للغاز الطبيعي، توضح أهم الدول الأوروبية المستهلكة للغاز الروسي، وكذلك التباين بين نسب استهلاك الغاز الطبيعي الآتي من روسيا الذي قد يحدد طبيعة علاقة كل دولة أوروبية بشكل منفرد مع هذه الدولة، وهذا ما يوضحه الشكل البياني والجدول رقم  التاليين:

شكل أهم الأسواق الأوروبية للغاز الطبيعي الروسي للعام 2011

أهم الأسواق الأوروبية للغاز الطبيعي الروسي للعام 2011

المصدر: وكالة المعلومات الطاقوية (eia.gov)، عام 2012

جدول : صادرات الغاز الروسية إلى أوروبا لعام 2010 (مليار قدم مكعب)

أوروبا الشرقية أوروبا الغربية
الدولة صادرات النسبة المئوية لاستهلاك الغاز الطبيعي الدولة صادرات

 

النسبة المئوية لاستهلاك الغاز الطبيعي
بولندا 272 47% ألمانيا 1.33 36%
هنغاريا 272 54% ايطاليا 756 25%
التشيك 261 79% فرنسا 353 20%
سلوفاكيا 240 100% النمسا 233 74%
رومانيا 180 28% فنلندا 173 100%
بلغاريا 113 96% اليونان 95 82%
صربيا 74 87% سوسيرا 14 12%
الجبل الأسود 74 87%      
كرواتيا 35 37%      
سلوفينيا 25 64%      
مقدونيا 4 100%      

المصدر: وكالة المعلومات الطاقوية (eia.gov)

يتضح من معطيات الشكل البياني والجدول السابقين بأن ألمانيا هي الدولة الأوروبية الأولى المستهلكة للغاز الطبيعي الروسي بنسبة 24 % من مجموع ما تصدره روسيا من الغاز الطبيعي لأوروبا، و هي نسبة تعادل تلك التي تحصل عليها دول شرق أوروبا مجتمعة، (حتى تركيا – و هي دولة لا تنتمي للاتحاد الأوروبي لكن متصلة كثيراً جغرافياً بالقارة- لها نسبة استهلاك تعادل 19 %)، بما يعنيه ذلك أن هناك دولا أوروبية وعلى رأسها ألمانيا ودولاً من غرب أوروبا لا يمكنها الاستغناء عن الغاز الطبيعي الروسي لعوامل متعلقة بالمناخ أو بالقرب الجغرافي،[21] وبالتالي فإن ألمانيا كدولة قوية اقتصادياً لها تبعية للغاز الروسي، وفي المستوى ذاته نجد دولاً من شرق أوروبا لها معدلات مرتفعة من الاستهلاك، مع العلم أن هذه الأخيرة تعتبر أيضاً معابر للغاز الروسي نحو أوروبا وهذا للقرب الجغرافي من جهة وللعلاقة التاريخية التي تجمعها منذ الاتحاد السوفيتي سابقاً، أي أن هناك نسبة معتبرة من صادرات الغاز الطبيعي نحو غرب أوروبا من خلال دول في شرق أوروبا.

كما أن تأزم العلاقات بين روسيا ودول من شرق أوروبا التي تعتبر نقاط عبور للغاز الروسي نحو غرب أوروبا، هذا ما سيكون له الأثر على جميع الأطراف، فالأولى (دول شرق أوروبا) ستكون أول المتضررين من ذلك خاصة من حيث قطع الإمداد لها، في حين الثانية ستدخل في مفاوضات ومساومات.

وعليه فقوة روسيا في مجال إنتاج ونقل الغاز الطبيعي، إضافة إلى تموقعها بجانب قارة مستهلكة بشكل كبير لهذه المادة، يجعلها توظف هذه المادة على عدة مستويات اقتصاديا، بحيث تعمل على الرفع من النمو الاقتصادي وتحسين الإنتاج الداخلي الخام، أي إنعاش اقتصادها خاصة في فترة الأزمات الاقتصادية.

ففي ظل التخوف الأوروبي من النفوذ الطاقوي لروسيا الذي أصبح اداة نفوذ لروسيا الاتحادية التي صاغت مرتكزاته منذ عام 2000، يأتي دور الولايات المتحدة كشريك للاتحاد الأوروبي يخشى من التقارب الروسي – الأوروبي لكونه يهدد منظومة الأمن العالمي الذي وضعت الولايات المتحدة الأمريكية مرتكزاته بعد انهيار المنظومة الاشتراكية.

لهذا يمكننا القول بان روسيا من خلال علاقة التبعية التي تعمل على تعميقها مع دول أوروبا بشكل عام فإنها بذلك تسير نحو السيطرة بشكل أشمل على منطقة أوراسيا، التي يبدو بأنها المجال الحيوي لها، فوفق منطق “راتزل” تعمل الدول على الربط بين الأرض والتجمعات البشرية أو الأمم، وهذا من أجل زيادة قوتها و العمل على التوسع أكثر[22]، و هذا ما تقوم به روسيا من خلال العمل على إحكام سيطرتها على الأقاليم التي كانت تابعة لها في العهد السوفيتي، فنهاية العهد السوفيتي لا يعني إقصاء هذه الأقاليم من السياسة الروسية في أوراسيا، والمؤشر على ذلك هو كل المعطيات المذكورة سابقا التي تثبت بأن روسيا وضعت دول شرق أوروبا كأولوية في أجندتها الإقليمية من أجل تحقيق مكاسب جيوبوليتيكية، لهذا نلاحظ بأن روسيا تعمل على توظيف الغاز الطبيعي كأداة جيوستراتيجية قبل من أن تكون وسيلة اقتصادية فقط، لأن هذه الآلية تجمع بين عدة جبهات، فبتعميق التبعية الطاقوية لدول شرق وغرب أوروبا تكون بذلك قد حققت عدة مكاسب، بزيادة عائداتها من السوق الطاقوية بأوروبا، وكذا تضييق الخناق على مراكز صنع القرار في الاتحاد الأوروبي، زد على ذلك تضمن سيطرتها و بسط نفوذها على دول شرق أوروبا خصوصاً.

وعليه تواجه دول أوروبا إستراتيجية روسية واضحة المعالم، والمنطقة الأوراسية هي الهدف الأول من هذه الإستراتيجية، لذلك على الاتحاد الأوروبي وضع سياسة من أجل أن يكون هناك تكافؤ في القوة، لكن لو رأينا من جهة معاكسة، لأمكننا استنتاج بأنه أحيانا تكون روسيا تحت ضغط السوق الأوروبية للطاقة، بحيث أن أوروبا تعتبر السوق الأكبر لصادرات روسيا خاصة في مجال الغاز الطبيعي، وعليه فإن الضغط على روسيا في هذه السوق قد يهدد اقتصادها أولاً، وفي مستوى آخر قد يجعل سياستها على الصعيد الأوروبي أكثر انكماشاً وحذراً.

يبرز الرسم البياني الآتي أهمية سوق الطاقة الأوروبية بالنسبة لروسيا مقارنة بالأسواق الأخرى، وخاصة أنه لا يقدم الأسواق بشكل دول منفصلة بل حسب الأقاليم، ما عدا تركيا التي تم وضعها كدولة منفردة.[23]

شكل: صادرات شركة غازبروم للغاز الطبيعي حسب الأقاليم سنة 2009

صادرات شركة غازبروم للغاز الطبيعي حسب الأقاليم سنة 2009

المصدر: مركز الأبحاث لدراسات أوروبا الشرقية

يبرز هذا الشكل أن لروسيا من خلال شركتها العملاقة غازبروم- حصة معتبرة من السوق الطاقة الأوروبية، بحيث صدرت ما يقارب 60% من الغاز الطبيعي  2009 ما يبرز بوضوح أن هذه الشركة التي تعتبر عصب الاقتصاد الروسي في مجال الغاز الطبيعي مرتبطة بشكل قوي بالسوق الأوروبية، عكس الأسواق الأخرى، كدول الكومنولث المستقلة * (29%)، غرب البلقان (02%) و تركيا .(%09)

بالتالي قوة هذه الشركة قد تكون نسبية لو قاطعت مثلاً دول الاتحاد الأوروبي الغاز الذي تستورده منها، لأي أزمة أو مشكلة سياسية فإن تصعيد ردة الفعل سيكون قراراً غير عقلاني من الجانب الروسي، وهذا ما نجده في الملف الأوكراني مثلاً، هناك بعض من التنازلات في معالجة أزمة 2009 مثلاً، رغم قطع روسيا لإمدادات الغاز المارة عبر الأراضي الأوكرانية، إلا أن حل النزاع تم في أيام فقط، وهذا لرؤية روسيا بأن الانعكاسات ستكون خطيرة على اقتصادها.

ورغم استنتاجنا بأن هناك علاقة تبعية متبادلة لكلا الجانبين، إلا أن هناك فرضية أخرى يمكن إثباتها من عدة مؤشرات، بحيث أن روسيا و الدول الأوروبية – مجتمعة أو منفردة – مدركة بأن الانتقال إلى علاقة تخدم مصلحتهما المشتركة هو بديل ممكن من أجل تفادي كل العراقيل التي قد تواجه العلاقة الطاقوية بينهما، وعلى سبيل المثال تعتبر روسيا المورد الأول للغاز الطبيعي لدول الاتحاد الأوروبي، خاصة بالنسبة لألمانيا، فرنسا وإيطاليا وبعض دول شرق أوروبا کهنغاريا[24]، بالتالي فهذه الدول تعتمد على روسيا في التزود بهذه المادة، ما يعني أن المصالح المشتركة تقتضي وضع اتفاقيات لتنظيم عملية بيع وشراء الغاز الطبيعي، في المقابل تستفيد روسيا من العائدات التي تجنيها من تواجدها في سوق الطاقة لهذه الدول الأوروبية، لإنعاش اقتصادها بسبب النمو الذي قد تحققه خاصة في فترات ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي في السوق العالمية.

فالجانب الروسي يحقق مصالحه في ظل علاقات التعاون مع هذه الدول أكثر من علاقات التوتر أو النزاع، وحتى الطرف الغربي أي الدول الأوروبية هي بحاجة إلى الغاز الروسي لأنه مادة حيوية خاصة في الأشهر الباردة من السنة حين يزداد الطلب على الغاز الطبيعي، فأي تغير على مستوى هذه العلاقات سيكون له الأثر على الجانبين بشكل مباشر، لذا نلاحظ بأنه مهما اشتدت الأزمات بين الطرفين لأسباب سياسية فإن لها حدا لا تتعداه، أي كلا الطرفين يتحاشى الانتقال إلى مرحلة تصعيد التوتر بينهما، هذا ما يجعل الطرفين في حالات الأزمات أمام عدة بدائل، و البديل العقلاني هو خلق قناة اتصال من أجل إيجاد علاقة متوازنة – على الأقل نسبياً – تضمن مصالح كل طرف، وهذه العلاقة تأخذ طابع الاعتماد المتبادل بدل التبعية الطاقوية التي لها أبعاد اقتصادية وسياسية وأمنية، وما يؤكد هذه النظرة هو تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (Serguel Lavrov) سنة 2007، أن الاعتماد المتبادل بين روسيا و أوروبا لا يهدد الأمن الطاقوي لهذه الأخيرة بل هو عامل إيجابي للدفع بالعلاقات التي تربط الطرفين،[25] وهذا يعكس إدراك من الجانب الروسي بأن التعاون الروسي الأوروبي أمر إيجابي من أجل تفادي كل معوقات التطور للطرفين، كما أن التقارب بينهما يجعل إمكانية حدوث أزمات بينهما أقل احتمالاً.

وعليه تؤكد المعطيات السابقة أن أوروبا تتهدّد مصالحها عندما تدخل روسيا في نزاع مع إحدى الدول التي تمر عبرها أنابيب الغاز الطبيعي المتجهة نحو دول غرب القارة، أي التزويد بالغاز الطبيعي يصبح في خطر، وعليه تتدخل الدول الأوروبية سواء فرديا أو باسم الاتحاد من أجل التخفيف من حدة الأزمة حتى تعود العلاقات إلى طبيعتها، فيكون هناك تخفيف من الخسائر، خاصة المتعلقة بالتذبذبات في تزويد أوروبا بالغاز الطبيعي الذي يمر على الدولة المعنية كالأزمة الأوكرانية عام 2014 والأزمة البيلاروسية عام 2020 مثلاً، حيث بدا جلياً أن الأزمة مع إحدى دول شرق أوروبا، فإن خطابها وسياستها الخارجية موجهة لا تكون إلى تلك الدولة المعنية بالأزمة فقط بل إلى دول أوروبية التي تعتبر فاعلاً في الاتحاد الأوروبي كفرنسا وألمانيا.

لذلك كل هذه المؤشرات تدل على أن روسيا و الدول الأوروبية متيقنة من أن خيار الاعتماد المتبادل في إطار جعل الطاقة وبالأخص مادة الغاز الطبيعي هي أساس بناء علاقات سلمية بعيدة عن التوتر، خصوصاً بعدما شهدت العلاقات الأوروبية – الروسية عامة تطوراً ملحوظاً بعد عام 2000، فقادت الحوارات مع موسكو إلى انفراج في العديد من الملفات*، وشهدت فترة تولي فلاديمير بوتين الحكم في روسيا عام 2000، حواراً متواصلاً في مجال الطاقة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، ففي عام 2001 صدر أول تقرير عنه حمل توقيع كل من فیکتور خريستنكو نائب رئيس الوزراء الروسي، وفرانسو لامور، المدير العام للمفوضية الأوروبية، وفيما بعد حددت القمة الأوروبية -الروسية التي من خلالها اتفق الطرفان على الآتي:[26]

1- أهمية استكمال إنشاء الإطار القانوني لاتفاقيات تقاسم الانتاج وإجراء تعديلات على قانون الضرائب الخاص بنقل الطاقة، ودراسة صيغة بديلة لهذه الاتفاقيات، کالمشروعات المشتركة ومنح الامتيازات.

2- التعاون المشترك بين الطرفين لضمان السلامة والأمن لشبكات نقل الطاقة المقامة حالياً.

3- يعمل الطرفان على تقوية الجهود الرامية إلى اقامة بنى تحتية لأغراض نقل الطاقة من خلال إقرار المشروعات ذات المنفعة المشتركة وتعزيز التنسيق ما بين الحكومات والمؤسسات وشركات الطاقة.

4- الاتفاق على إطلاق مشروعين رياديين في منطقتي (أرخانجيلسك وأستراخان) لتعزيز كفاءة الطاقة.

5_ تعزيز أواصر التعاون في مجال أبحاث الطاقة وتقنياتها.


الهامش

[1] المرجع السابق، ص 275.

[2] نورهان الشيخ، قضايا محاولة لبلورة تطورات جارية، المركز الدولي للدراسات المستقبلية والاستراتيجية، القاهرة، 2009، ص 9.

[3] کامل وزنه، الغاز الطبيعي وخرائط الصراع العالمي على الطاقة، مجلة حموراي، مركز حموراي للدراسات والبحوث الاستراتيجية، بغداد، العدد 3، 2012، ص 158.

[4] نورهان الشيخ، القيادة المحسوبة: كيف استعاد بوتين المكانة العالمية لروسيا، مجلة السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام، القاهرة، العدد 195، 2014،  ص 84.

[5] نورهان الشيخ ، العلاقات الروسية الأورو أطلنطية بين المصالح الوطنية والشراكة الاستراتيجية ، مجلة السياسة الدولية ، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ، القاهرة ، العدد 70 ،2007 ، ص 52.

[6] طارق محمد ذنون الطائي، العلاقات الأمريكية الروسية بعد الحرب الباردة، مركز حموراي للدراسات والبحوث الاستراتيجية، بغداد 2012، ص 97-98.

[7] مروان اسکندر، الدب ينقلب نمرا: روسيا الولادة الجديدة، دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2011، ص169.

[8] هنري مدفيدف ، مفهوم السياسة الخارجية الروسية ، ترجمة: طارق محمد ذنون الطائي،  مطبعة الشاملة الموصل، الموصل، 2012، ص 37.

[9] محمد کردي، مستقبل الاتحاد الأوروبي: دراسة في التأثير السياسي الدولي، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، ط1، 2013، ص 207.

[10] جان هورست كيير ، العلاقات الدولية وامن امدادات الطاقة : مخاطر الاستمرارية والمخاطر الجيوسياسية ، دورية محاور استراتيجية، بيروت، العدد 7، 2007 ص 77.

[11] جیاکومو لوشياني وآخرون، المخاطر والغموض في اسواق الطاقة العالمية المتغيرة الانعكاسات على منطقة الخليج العربي، مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية ، أبو ظبي ، 2006، ص 131

[12] فيتالي نعومكن، نفط الخليج بعد الحرب على العراق سياسات واستراتيجيات , مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أبو ظبي 20، ص 275.

*   للمزيد من المعلومات عن المفوضية الأوروبية وتعزيز إمدادات الغاز والنفط، انظر:

“Commission Wants to Improve Security of Oil and Gas Supply, Euractiv. 29/1/2010, accessed on 11/12/2016, at: https://goo.gl/fJE SL

[13] Central Intelligence Agency, “Urss: The Role of Compensation 18 Agreements in the Trade with the West.” (November 1978). p. 2. accessed on 24/11/2016, at: http://bit.ly/2hdL2i6

[14] عماد فوزي شعيبي، الصراع على الغاز بين روسيا وأمريكا، مجلة أراء حول الخليج، العدد90، 2009، متوفر علي الرابط

[15] جفري مانكوف ، أمن الطاقة الأوراسية،، سلسلة دراسات عالمية ، مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أبو ظبي، العدد 89،  2010، ص 40.

[16] سامر الياس، دبلوماسية الغاز الروسي تكسر التبعية لدول العبور، دورية انباء موسكو، العدد2 ،2009 ، ص 10.

[17] جفري مانكوف ، أمن الطاقة الأوراسية، مرجع سبق ذكره، 2010.ص 56

[18] نورهان الشيخ ، مرجع سبق ذكره . 2009، ص 34

[19] محمد أبو الفضل ، استراتيجية أوربا في آسيا الوسطى والقوقاز ، دورية مختارات إيرانية، العدد5، 2015 ، ص14

[20] ممدوح سلامة ، أسباب الهبوط في أسعار النفط الخام فائض الانتاج العالمي السياسة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ، بيروت 2015 ، ص98

[21] رؤوف فتيحاني، دور متغيّر الغاز الطبيعي في العلاقات الروسية – الأوروبية (2000 –2014)، مذكرة مقدمة لنيل الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة الجزائر، 2014، ص 30.

[22] Gearóid Ó Tuathail and others, the geopolitics reader (London: Routledge, 2003), P. 04..

[23] Stefan Hedlund & others, « Production and exports of russian oil and natural gas, Russian analytical digest,N*100( July 2011). P . 06 , PDF in : www . s . ethz . ch ( 15:20 – 14/3/2015)

* دول الكومنولث المستقلة: وهي أرمينيا وأذربيجان وبيلاروسيا، كازاخستان، قر غرستان، مولدوفا، طاجاكستان، أوزبكستان، وهناك أوكرانيا كدولة مشاركة ليس عضواً، وجورجيا كدولة عضو سابق.

[24] Eurogas, Statistical report 2012.

[25] energie : L’interdépendance Russie – UE est un facteur positif (Sergueï Lavrov), : www.fr.ria.ru/business/2007070E/BB512547.htmril (23:20 – 03/05/2014),

* للمزيد من المعلومات عن المفوضية الأوروبية وتعزيز إمدادات الغاز والنفط، انظر:

“Commission Wants to Improve Security of Oil and Gas Supply, Euractiv. 29/1/2010, accessed on 11/12/2016, at: https://goo.gl/fJE SL

[26] جفري مانكوف ، أمن الطاقة الأوراسية ، سلسلة دراسات عالمية ، مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أبو ظبي، العدد 89 , 2010، ص38.

 

.

رابط المصدر:

https://eipss-eg.org/%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b3%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%aa%d9%8a%d8%ac%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b7%d8%a7%d9%82%d9%88%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%82%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%88%d8%b3%d9%8a%d8%a9-%d9%80-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%88%d8%b1%d9%88%d8%a8%d9%8a%d8%a9/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M