الشيخ الحسين أحمد كريمو
مقدمة حضارية
بنظرة أولية فاحصة وبسيطة إلى الواقع القلق جداً، بل المأزوم واقعاً، الذي نعيش فيه اليوم، على مستوى العالم أجمع، وإلى الحالة الاجتماعية التي يعيشها أهل الأرض وسكانها، نجد أن هناك خللاً واضحاً في المنظومة القِيَمية التي تحكم الكرة الأرضية، بل هناك خطأً فادحاً يرتكبه سكان العالم بتخليهم عن تلك المنظومة القيَمية التي كان إلى ما قبل الثورة الرقمية –الديجتال– وتصدي الولايات المتحدة الأمريكية لحكم أو التحكم فيها وبالتالي في معظم حركتها على هذه الكرة الترابية..
وما نعيشه لحظياً الآن من هذا الوباء الذي داهم الشعوب كلها واقتحم عليهم مأمنهم أينما كانوا، كشف حقيقة الحضارة الرقمية الزائفة، وأظهرها على حقيقتها البشعة جداً، والخالية من أي معنى من معاني الفضيلة، هنا بالذات يجب أن نبحث من جديد عما راح يتداوله المثقفون، وأهل الفكر والنظر، ثم عامة الشعوب والناس البسطاء منهم مصطلح (العولمة)، فرؤوا فيها كلمة جديدة يتلهون فيها، فمنهم مَنْ درسها قبل أن يستخدمها وبيَّن ما توصَّل إليه من بحث وتفكير، ما يرمون إليه ويقصدون بهذا المصطلح الجديد، وهم على قسمين بشكل عام:
الأول: المنبهرون بالغرب، والمفتونون بأمريكا وقوتها، فهؤلاء يرون أمريكا جَنَّة الله في الأرض التي لا يؤمنون بها في السماء، فكل ما يأتي من أمريكا فهو صحيح وصادق ويجب اتباعه، أي أنهم يعبدون أمريكا –بمعنى من المعاني– فتراهم فتحوا عيناً لا تغمض على أمريكا، وأغمضوا العين الأخرى تماماً وكأنهم اكتفوا بأمريكا فكراً وممارسة حضارية تقودهم إلى نهاية التاريخ..
الثاني: وهم أهل الاعتدال والمنطق السليم، الذين يفتحون عيونهم على كل الواقع الذي يعيشون فيه فيرونه كما هو ويحاولون تشخيص الواقع، ثم يرجعون إلى ثوابتهم الفكرية والإيمانية، والعقائدية ويُحاكمون، فيقولوا للحق حقاً ويأمرون باتباعه، وللباطل باطلاً ويُحذِّرون منه أمتهم وشعبهم ومَنْ يخاطبونهم في أدبهم وفكرهم الذي يعتبرنه مسؤولية عليهم تجاه شعوبهم وأممهم ومَنْ يسمع لهم أو يقرأ أفكارهم..
العولمة الأمريكية أو أمركة العالم؟
لو نظرنا بعين محايدة –رغم صعوبة ذلك– ونظرنا إلى هذه المسألة (العولمة) التي صارت حديث العالم؛ لرأيناه هو مصطلح أمريكي بامتياز، منها انطلق وإليها يعود، فالتعريف الحقيقي والواقعي بتعريف (أنتوني جيدنز Anthony Giddens) الذي عرَّفها: ” بأنّها مرحلة جديدة من مراحل الحداثة وتطورها، تتكاثف فيها العلاقات الاجتماعية على الصعيد العالمي، وحدوث تلاحم بين الداخل والخارج، وربط بين المحلي والعالمي بروابط اقتصادية وسياسية وثقافية وإنسانية”.
وعرفها (نورمان جيفان Norman jiwan) على “أنها تشير إلى مجموعة شاملة من العمليات الاقتصادية، والسياسية، والإيديولوجية، ويوجد عند أساسها الاقتصادي تدويل التمويل، والإنتاج، والتجارة، والاتصالات، الذي تقوده أنشطة الشركات العابرة للأوطان، واندماج أسواق رأس المال، والنقود، وتضافر تقنيات الكومبيوتر، والاتصالات السلكية واللاسلكية”.
وكان أوضح وأشجع (بريترون بادي Bertrand Badie) حيث يذهب إلى أن العولمة هي عملية؛ “إقامة نظام دولي يّتجه نحو التوحُّد في القواعد، والقيم، والأهداف، مع ادِّعاء إدماج مجموع الإنسانية ضمن إطاره”.
كما يرى الباحث (جون جراي (John Gray أنها تعني” الانتشار العالمي للتكنولوجيات الحديثة في الإنتاج الصناعي والاتصالات من كل الأنواع عبر الحدود، في التجارة ورؤوس الأموال والإنتاج والمعلومات”.
أما المفكر (أولريش بيك Ulrich Beck) فيرى: “أن العولمة هي انهيار وحدة الدولة الوطنية والمجتمع الوطني وتكون علاقات جديدة وبروز المنافسة والتداخل بين مكونات الدولة الوطنية والممثلين لها من جهة، والممثلين عبر الحدود الوطنية والهويات والأوضاع والقضايا من جهة أخرى”.
ونستخلص من هذه التعريفات إلى أن جوهر “العولمة” هو بروز عالم بلا حدود جغرافية، أو اقتصادية، أو ثقافية، أو سياسية، أو تجارية، ولذا نجد أن هناك عولمات عديدة، وليس عولمة واحدة، ولكن المدقق يجد أن بينها جميعاً أفكار وقواسم مشتركة أهمها:
1- (عولمة الثقافة) وهي بتجاوز الأفكار والخبرات والنظم والسلع والمشكلات لبيئتها المحلية، وعبورها للحدود السياسية والجغرافية على مستوى العالم، بالمحصلة يجب اتباع (الثقافة الأمريكية) وعلى الطريقة الهوليودية وليس على الطريقة الجماهيرية.
2- (عولمة الاتصالات) وهي بتسارع وتيرة الاتصال الدولي وتقدم وسائله مما سهل انتقال كل ما يراد نقله، وأمريكا تسيطر على هذا القطاع وتنافسها الصين ولذا أقامت الدنيا عليها والكورونا آخر أسلحتها ضدها كما يقول الصينيون، (أمركة الاتصالات العالمية).
3- (عولمة الهيمنة والقوة) وهي أن يتفق معظم الباحثين على أن الهدف من العولمة هو هيمنة دول المركز القوية، وفرض أفكارها على دول الأطراف الضعيفة، (وأمريكا هي الأقوى عالمياً) فيجب تعزيز الهيمنة الأمريكية على الكرة الأرضية بالقوة.
4- (عولمة السياسة) وهي بتراجع قيمة الحدود السياسية وتآكل دور الدولة القومية، وانتهاء هيمنتها السياسية والاقتصادية، وذوبان الحدود والعوائق أمام كل المعطيات والعناصر المكونة للعولمة، ولذا جاؤوا بنظرية (الفوضى الخلاقة) لتخلق لهم جواً سياسياً لتدمير الدول ذاتياً ب(الجيل الرابع من الحرب) بالفناء الذاتي، لدخول الجميع تحت القبة الأمريكية سياسياً.
5- (عولمة الإمبراطورية الأمريكية) وهي بقيام نظام العولمة على عدم الاكتراث بالخصوصيات المحلية والتراثية والبيئية للدول والشعوب، لأن العولمة تصنع بآلياتها الجبارة الميزات والخصائص والأجور التي تنسجم مع رواجها ومصالح القائمين عليها، فكل ما يُشاع في الأوساط العالمية –ونحن جزء أساسي منه لا سيما الشرق الأوسط وبلاد الرافدين قلب العالم– هو لأخذ اعتراف عالمي بالإمبراطورية الأمريكية والخضوع لها في كل شيء؛ وكأنها تحكم العالم كما تريد، ولذا لما رفعت بعض الدول رأسها وطالبت بنوع من الاستقلال بقراراتها تدخلت أمريكا بالقوة وما نعيشه اليوم من (الجيل الخامس من الحرب البيولوجية) شاهداً على ما نقول.
العالمية الإسلامية الإصلاحية
وأما الدِّين الإسلامي الحضاري، والقِيَمي بكل ما فيه، لا سيما القرآن الحكيم الذي طرح مسألة العالمية، والتوجه بالدعوة، والرسالة إلى العالم أجمع، وإلى الناس جميعاً، وليس ذلك فقط بل إلى العالَمَين –الإنس والجن– وربما إلى العالَمِين والعوالم المنظور منها وغير المنظور بالنسبة لنا على الأقل، ليدعوهم إلى التوحيد، والعمل الصالح، وبناء الحضارة والمدنية على أسس قِيَمية..
قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)
وقال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (سبأ: 28)
هذه هي العالمية الحقيقية التي تكون في آيات من الله وإشارات، وبشارات، وإنذارات، في الزمان والمكان والأشخاص، والأدوات، مما يجعلها جميعها تذكير بالله والإيمان المطلق به، باعتباره الخالق والرازق والموجد والواهب للنِّعم على عباده، ومن تلك الآيات العالمية (أنهم من نفس واحد)، و(أنهم حملوا مع نوح في سفينة واحدة)، و(قِبلتهم يجب أن تكون واحدة؛ الكعبة)، و(كتابهم القرآن هو واحد)، و(نبيهم المصطفى (ص) رحمة مهداة للجميع)، و(الدعوة الإسلام واحد)، وعليه فإن النور، والهداية، والرعاية، والتشريع، والأحكام، والحلال والحرام، والنجس والطاهر، هي منظومة من القيم الإلهية التي يجب أن يأخذ بها البشر جميعاً إذا أرادوا النزاهة والطهارة والعيش بسعادة على هذه الأرض، وما يفعلونه اليوم من التعقيم خير دليل على واقعيتها.
هذه هي العالمية الإسلامية التي يطرحها الدِّين الإسلامي على الناس منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمن، وبَنا حضارة راقية حكمت نصف المعمورة التي كانت معروفة، حدودها من سور الصين العظيم شرقاً، وحتى جبال البرنيه في أواسط فرنسا وأوربا غرباً، وكانت تشمل أكثر من (54) دولة من دول اليوم، وكان لها الفضل كل الفضل بحضارة اليوم المتغطرسة..
الفرق بين العولمة والعالمية:
إن التقابل بين العالمية والعولمة وإيجاد الفرق بينهما فيه نوع من الصعوبة وخصوصاً أن كلمة العولمة مأخوذة أصلاً من العالَم ولهذا نجد بعض المفكرين يذهبون إلى أن العولمة والعالمية لها معنى واحد لا فرق بينهما، وعلى ذلك شاعت الترجمة الحالية “العولمة” ولعل الخلط بين العولمة والعالمية راجع إلى اشتقاقهما معاً من كلمة عالَم، ولكن هناك فرق كبيراً بين المصطلحين؛
فالعالمية: يعني أن أبناء هذا العالم بمختلف قبائله وشعوبه ولغاته… يعيشون على هذه الأرض، فلا بد أن يتواصلوا، ويتعارفوا، ويتفاهموا فيما بينهم، تمهيداً للتعاون الدائم على خير الجميع، ولا مانع من إن يأخذ بعضهم من بعض ولا يجوز أن يفرض بعضهم على بعض لغته أو دينه أو مبادئه أو موازينه: فالاختلاف في هذا الإطار طبيعي والتعاون ضروري، وهذه هي نظرية الإسلام، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)
أما العولمة: فهي فرض الأمركة (ثقافة، وسياسة، واقتصاداً، وتجارة، وتواصلاً) على شعوب وأمم الأرض بالقوة والخداع، والكذب، والدجل، وبكل سلاح ممكن من السلاح النووي –فهي الوحيدة في التاريخ التي استخدمته– وحتى السلاح الفتنوي، والبيولوجي، وكل بحسبه وبما يتلاءم معه، ولكن قادة الولايات المتحدة تشن حرباً لا هوادة فيها لتثبيت سلطتها وإثبات هيمنتها على العالم أجمع، ولا قيمة لديها، ولا فضيلة عندها فبالأمس أعلن رأسها (ترامب) لا قيمة للأخلاق في السياسة، لأنه حوَّل أمريكا من دولة إلى شركة استثمارية تريد الربح والمال فقط وليذهب الجميع إلى المحرقة، والجحيم..
هذه هي حقيقة الإمبراطورية الأمريكية التي تريد عولمة الفساد كما يطلب منها الصهيونية، والماسونية العالمية، ليملؤوا الأرض فساداً ليعود لهم المخلص المسيح اليهودي، الذي ينتظرونه منذ ستة آلاف عام، والمتصهينين الجدد منذ ألفي عام، فالفساد العالمي –كما يعتقد هؤلاء الأشقياء– هو مقدمة لازمة وضرورية لعودة المسيح المخلص، ليشفع لهم ويُخلصهم من ذنوبهم وآثامهم التي ملأت الأرض بكل ما فيها، وما أجمل قول ربنا سبحانه: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41)
والعجيب أنك إن حدثتهم عن الإمام المهدي (عج) فترى الدنيا تقوم ولا تقعد على رأسك ولا يدعون تهمة ولا منقصة إلا ويرموك بها، واخترعوا لنا (دين الوهابية) لحرب الدين الإسلامي لا سيما هذه الفكرة العالمية الحضارية التي يؤمنون بها جميعاً، ويُصرِّحون بها ويعتزون ويفتخرون بإيمانهم بالفساد العالمي، وظهور المخلص، وإذا أظهرنا نحن ما نؤمن به – وهو الحق والصدق – قالوا: أنتم رجعيون، ومتخلفون، وأغبياء تنتظرون رجلاً ولد قبل أكثر من ألف ومئتي سنة، فأي خرافة هذه التي تبنون عليها عقائدكم ودينكم؟
وهم يؤمنون بالمسيح اليهودي قبل أكثر من ستة آلاف عام، والمسيح النصراني أكثر من الفي عام ولكنهم يُظهرون ذلك أنه فكر حضاري وعقيدة يتمسكون بها ويفتخرون على العالم بها أيضاً، فأينا أحق بالتحجر، والجمود، والتخلف، والجاهلية يا أمة السوء؛ مَنْ يؤمن بالمخلص اليهودي، أو النصراني، أو الإمام المهدي المنتظر من أبناء المصطفى سيد البشر(ص)؟
وجميل ما يذكره الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي في كتابه (حقائق عن الإمام المهدي(ع)، من قصَّة ذاك العالم الفرنسي (كرين) الذي جاء إلى طهران والتقى بأحد علماء الشيعة وأخذ يسأله عن (الشيعة) ومعتقداتهم.
فذكر لـه العالم: عدد الأوصياء والأئمة (عليهم السلام) وأن الإمام المهدي (عليه السلام) حيٌّ وهو الرابط بيننا وبين السماء، وقال لـه: لا ينبغي أن تذكر اسم الأئمّة إلا وتقول: (صلوات الله عليهم)، أو (عليهم السلام) فإنهم حجج الله على الأرض.
ثم يقول: “وحينما عاد الرجل إلى بلاده عقد مؤتمراً ذكر فيه: أنّ الأُمّة الوحيدة التي حفظت ارتباط الإنسان بالله عز وجل، هم الشيعة، وذلك عبر الإمام المهدي (عجل الله فرجه)، فإنها مرتبطة بالسماء، أما سائر الأمم فقد انقطع ارتباطها وذلك لعدم اعتقادها بخليفة الله في الأرض”. (حقائق عن الإمام المهدي (عج) السيد محمد الشيرازي: ص40)
نعم؛ هم قطعوا صِلتهم بالسماء، وأنكروا الإله الواحد، والخالق تعالى، حتى كتب ذاك المسخ (دوكينز) كتابه؛ (وهم الإله)، رغم أنَّهم يدَّعون التوحيد، ولكن تجرؤوا بهذا الشكل المشين رضوخاً لسلطان المادة، وبريق الحضارة الرقمية، وها هي تقف حائرة في أمرها أمام هذا الفايروس الصغير الضعيف، فهم يؤمنون بالفساد والعولمة، ونحن نؤمن بالصلاح والعالمية فأيُّنا أحق بالحضارة الإنسانية؟
رابط المصدر: