محمد الزغول
كان الطابع المُهيمِن على الاتفاق السعودي-الإيراني الذي جرى الإعلان عنه مُؤخّراً برعاية صينيّة، سياسيّاً وأمنيّاً أكثر منه اقتصاديّاً. إنه اتفاق تحت الاختبار بين غريمين إقليميين، يحملان أجندة مُتعاكِسة في السياسات الأمنيّة الإقليميّة. صحيحٌ أنّ الإعلان تضمّن بنوداً اقتصادية، لكنّ التركيز فيه انصبّ على البنود السياسية، والأمنية، وعلى آليات عامّة لفض النّزاع.
وعلاوةً على خريطة الخلافات والمصالح الثنائيّة، تمتدُّ خريطة الصّراع والتنافس الإقليمي التي يتعيّن التوافق حولها بين البلدين جغرافيّاً من العراق إلى لبنان، مروراً بسورية، وانتهاءً باليمن الذي يُعدُّ ألصق الملفّات بالمصالح القوميّة والأمنية السعوديّة. وتُمثِّل هذه الخريطة في نفس الوقت، مساحة انتشار “مشروع الهيمنة الإقليمي الإيراني” الذي انبثق عن نظريّة “المركزيّة الشيعيّة الإيرانية”، واعتمد في تطبيقه على أدوات طائفيّة، وتكتيكات الميليشيات والحروب اللامتناظرة. وقامت بتنفيذه والإشراف عليه باهتمامٍ بالغٍ، مؤسسات الدولة العميقة في إيران طوال العقدين الماضيين.
وكانت محاولات سابقة للحوار السعودي-الإيراني قد أخفقت على مدار الأعوام الماضية بالرغم من كثرة المبادرات الدبلوماسية؛ إذ لم تكن الحكومة الإيرانية تمتلك الصلاحيات الأساسية لصنع القرار في أيٍّ من الملفات الإقليمية، وكان الحوار يجري في الجانب الإيراني مع الطرف غير المُخوَّل. ولعلّ الصين أول لاعبٍ دوليّ يلتفت إلى أهميّة التوافق مع الدولة العميقة في إيران، لضمان استدامة الاتفاقات التي يُتَوَصَّلُ إليها ونجاعتها، خاصّةً في الملفات ذات الطبيعة السياديّة، وهذا ما أكسب اتفاقيّة التعاون الاستراتيجي بين الصين وإيران قيمة مضاعفة. وليس من المستبعد أن تكون هذه التجربة الصينيّة وجدت طريقها إلى الاتفاق السعودي-الإيراني الذي أُبرِم مع إحدى مؤسسات الدولة العميقة المخولة باتخاذ القرار السيادي في الملفات الخلافيّة الرئيسة بين المتنافسين الإقليميين.
وثمّة قناعة اليوم لدى مختلف الأطراف الدولية بأنّ أي اتفاق مع الحكومات الإيرانية يبقى هشّاً، ما لم يحصل على مُباركة الدولة العميقة. بل إنّ المباركة وحدها، لا تضمنُ بالضرورة استدامة الاتفاق؛ إذ يسهُل على مؤسسات الدولة العميقة التنصُّل من مخرجات حوارٍ، لم تُشارك به مباشرةً، أو توقِّع عليه.
ونتيجة لهذه القناعة تُظهِرُ مختلف الأطراف الدوليّة رغبةً واضحةً بتجاهل الحكومات الإيرانية، وتوجُّهاً مُتزايداً لبناء خطوط اتّصالٍ، وحوارٍ مع مؤسسات الدولة العميقة. وتُساندُ المعطيات التاريخيّة هذه القناعة؛ إذ أظهرت هشاشة الاتفاق النووي الذي وقّعته حكومة الرئيس حسن روحاني عام 2015، رغم حصوله على مباركة مؤسسات الدولة العميقة، أنّ أيَّ اتّفاقٍ مستدام لا بدّ أن يتم مع تلك المؤسسات. وهي القناعة التي دفعت الصين إلى تجاهل حكومة الرئيس حسن روحاني أثناء المفاوضات بشأن اتفاق الشراكة الاستراتيجية مع إيران، وتوجُّهها نحو الحوار مع ممثلين عن مؤسسات الدولة العميقة، وإصرارها على أن يُبرَم الاتفاقية مع مؤسسة سياديّة، على أن تُكلَّفَ الحكومة باتخاذ الإجراءات التنفيذية.
وحذا الاتفاق السعودي-الإيراني حذو اتفاق الشراكة الاستراتيجية بين الصين وإيران، ووضع المخروط على قاعدته، ليتفاوض حول الملفات الخلافية مع الجهات المعنية التي تمتلك القرار في تلك الملفات. وفي هذا السياق ينبغي فهم تولي أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني التوقيع على الاتفاق؛ فالمجلس مؤسسة سياديّة تابعة لمؤسسة بيت القائد الأعلى الإيراني، علي خامنئي. فهل يُوفِّر توقيعُهُ ضمانة بالتزام الدولة العميقة بفحوى الاتفاق، واستدامته؟
الاتفاق ومعضلة ازدواجية الدولة العميقة في إيران
يُعدّ أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، الأدميرال علي شمخاني، شخصيّةً مُقرَّبةً من مؤسسة “بيت القائد” الأعلى علي خامنئي الذي يمثِّلُ مركز الدولة العميقة في إيران. وكان الرئيس الأسبق حسن روحاني هو الذي رشّح شمخاني لهذا المنصب؛ حيثُ أنيطت به مسؤولية الإشراف على عدّة ملفات سياديّة على مدار السنوات الماضية. ومنذُ مجيء حكومة إبراهيم رئيسي، تعرّض شمخاني إلى هجمات إعلاميّة وسياسيّة أطلقها بعض رجال الحكومة، وبعض الوجوه التي تُعتَبر امتدادات سياسية للدولة العميقة. وسرت أنباء عن محاولة حكومة رئيسي التحرُّك نحو إقالة شمخاني من منصبه، وذلك قبل شهرين من توقيع الاتفاق السعودي الإيراني، لاستبداله بوزير الداخلية في الحكومة الجنرال أحمد وحيدي. كما انتشرت أنباء عن خلافات بين الحكومة، وشمخاني الذي كان داعماً لفكرة سحب الملف الاقتصادي من صلاحيات الرئيس إبراهيم رئيسي، ومنحها لنائبه الأول. وقبل ذلك كُلّه شنّت “جبهة الصمود” التيار السياسي الأقرب إلى “الحرس الثوري” في البرلمان، هجوماً على شمخاني، باعتباره الشخص الذي عينه حسن روحاني على رأس مجلس الأمن القومي، وطالبت بإقالته بدعوى عدم تعاونه مع القوى الثورية في قمع الاحتجاجات.
وبعيداً عن دلالات هذه الخلافات بشأن شخصية علي شمخاني، تُظهِرُ التجربة التاريخية وجود محاولات سابقة لتهميش الدور الدبلوماسي لمؤسسة “بيت القائد”، ومنعها من التأثير على الملفات الإقليمية، لصالح مؤسسة “الحرس الثوري”. بدأ ذلك المسار في عهد الرئيس أحمدي نجاد، خلال الخلاف بشأن الملف السوري، وأدى إلى تهميش وجوه مثل علي أكبر ولايتي (وزير الخارجية الإيراني الأسبق، ومستشار القائد الأعلى للشؤون الدبلوماسية) من مسار التأثير على القرارات الدبلوماسية، بعد أن كانت له كلمة مسموعة في رسم معالم السياسات الإقليمية الإيرانية. ويمكن اعتبار الفترة التي تصاعد فيها دور الجنرال قاسم سليماني، مرحلة تأسيسٍ لهيمنة “الحرس الثوري” على الملفات الإقليمية؛ حيث أصبحت مؤسسة الحرس ممثّلةً بفيلق القدس، هي من ترسم معالم السياسات الإقليمية، وفق أجندتها الخاصة. ووصل هذا الانفراد بالملفات الإقليمية إلى مستوى امتلاك قرار تعيين وعزل السفراء الذي يُفترض أنهم يتبعون لوزارة الخارجية والجهاز الحكومي الرسمي.
كانت تلك التحولات أشبه بعمليّة تقاسم أعباء أو توزيع مهام جرت بين مؤسسات الدولة العميقة في إيران؛ وفي سياقها وُضِعَ الملف النووي ضمن صلاحيات المؤسسات التابعة لـ “بيت القائد” الأعلى الإيراني، بينما استحوذ “الحرس الثوري” على “البرنامج الصاروخي”، و”الملفات الإقليمية”. وأدّت عمليّة تقاسم/توزيع المهامّ هذه إلى تهميش دور الحكومة في معظم الملفات الأساسية، لكنّه أسس لظاهرة “ازدواجية الدولة العميقة” عبر توزيع المهام داخلها بين الحرس “الثوري”، ومؤسسة “بيت القائد”.
وبالعودة للاتفاق السعودي-الإيراني الأخير، وعلى الرغم من مباركة الإعلام الإيراني كُلِّه للاتفاق، لكنّ الترحيب الذي حظي به الاتفاق في الصحافة المقربة من “الحرس الثوري” كان بارداً. ولم يصدُرُ أيُّ ترحيبٍ بعدُ، عن الوجوه التي تُمثِّل الامتداد السياسي لمؤسسة “الحرس الثوري”، ومنها: سعيد جليلي، وحميد رسائي، وحسين طائب، ومهدي طائب. وقد يُشيرُ هذا الصمت إلى أنّ “الحرس الثوري” اعتبر محاولة شمخاني، بالرغم من كونه جنرالاً سابقاً في “الحرس الثوري”، ومن مؤسِّسيهِ الأوائل، تدخُّلاً غير مُرحَّبٍ به من جانب من “بيت القائد” في الملفات الإقليمية التي ظلّت على مدار العقد الماضي جُزءاً أصيلاً من صلاحيات “الحرس”. وقد يرى “الحرس” في هذا التدخُّل محاولة جديدة للحدّ من هيمنته في الملفّات الإقليمية، بعد محاولاتٍ سابقَةٍ، أظهرها الخلافُ حول تعيين السفراء في كل من: اليمن، والعراق، وسورية.
وكان الجدل الذي رافق قرار خامنئي بإقالة قائد استخبارات “الحرس” السابق الجنرال حسين طائب، قد كشف عن وجود منافسة شرسة أيضاً بين مؤسسة “بيت القائد” ومؤسسة “الحرس” على المستويين الأمني، والسياسي الداخلي. وانعكست هذه المُنافسة حتى على الاستراتيجيّات العسكريّة، حيثُ رُجِّحت كفة “الجيش” في بعض برامج التسلُّح خلال الأعوام الأخيرة، كما أظهرت الموازنة العسكرية الإيرانية للعام الإيراني الجاري تراجُع الفارق بين حصة “الحرس”، وحصة “الجيش” بشكل ملحوظ؛ ما يعني أنّ لدى الحرس أسباباً كثيرة للاعتقاد بأن هناك محاولة لتحجيم مكانته داخليّاً وخارجيّاً، وأن القائد الأعلى قد بدأ مساراً لتقليص مكانة “الحرس” في هرم السلطة، وإعادة التأكيد على مكانة مؤسسة “بيت القائد”، بوصفها سلطة مطلقة الصلاحيّات في عملية صنع القرار الإيراني. وإذا ما رأى “الحرس” بالفعل في هذا الاتفاق تعدّياً على صلاحياته الإقليمية، ومكانته في هرم السلطة الإيراني، فليس من المستبعد أن يلجأ إلى تفعيل أوراق عديدة يمتلكها في الداخل والخارج لإفشال الاتفاق، وإفراغه من محتواه، أو على الأقل، إبقائه في خانة “السلام البارد”.
هل تكفل الضمانة الصينيّة التوصُّل إلى “سلام دافئ”؟
تُظهِرُ تجارب سابقة صُعوبة التوصُّل إلى نتائج نهائيّة في ملفّاتٍ خلافيّة، أو مُتنازعٍ عليها، بين المؤسسات السياديّة الإيرانية. وبعضُ هذه التجارب مرتبطٌ بالجنرال علي شمخاني نفسه؛ إذ وصلت محاولته الإفراج عن الزعيمَيْن الإصلاحِيَّيْن الموضوعَيْن رهن الإقامة الجبرية؛ مير حسن موسوي، ومهدي كروبي، إلى طريق مسدود. وكان شمخاني غداة تعيينه في منصب أمين المجلس الأعلى للأمن القومي بدأ حراكاً للإفراج عنهما. وقالت مصادر مقربة من شمخاني آنذاك: إنّ “ملف الحصر” كما يُسمّى في إيران، أُحيل إلى المجلس الأعلى للأمن القومي. وتناقلت وكالات الأنباء أخباراً عن تخفيف القيود المفروضة على الزعيمَيْن الإصلاحِيَّيْن. لكنّ مبادرة شمخاني، التي يصعُب تصُّور أنها جاءت من دون موافقة القائد الأعلى، باءت بالفشل بعد معارضة “الحرس الثوري” الصريحة لها. كما أخفقت مهمّة أخرى لشمخاني غداة الاحتجاجات لذات الأسباب؛ حيثُ أوكلت مؤسسة “بيت القائد” إلى شمخاني مهمّة عقد لقاءات مع التيارات السياسية، بما فيها التيار الإصلاحي، للتوصل إلى مبادرة “لمّ شمل”، تتضمّنُ انفتاحاً جزئيّاً في الفضاء السياسي. لكنّ المحاولة باءت بالفشل، وعرّضت شمخاني إلى هجمة لاذعة من الامتدادات السياسية لـ “الحرس” في البرلمان، وخارجه، والتي طالبت بإقالة شمخاني بداعي التغريد خارج السرب.
تُؤكِّد هذه التجارب، أنّ وجود شمخاني باعتباره الرجل الموثوق من مؤسسة “بيت القائد” على رأس مُبادرةٍ ما، لا يعني بالضرورة نجاحها، أو اصطفاف كُلّ الدولة العميقة من خلفها. وقد تُسهِمُ الحكومة أيضاً في محاولة إفشال جهود شمخاني، نتيجة شعورها بالتّهميش والامتعاض. وربما يأتي تلكُّؤ القائد الأعلى، علي خامنئي، باتّخاذ موقفٍ صريحٍ من الاتفاق السعودي-الإيراني، في سياق القلق من مصير هذا الاتفاق، والخشية من عدم حصوله على تأييد مؤسسة “الحرس” التي لا تزال مُتحكِّمة في معظم الملفات الإقليمية.
وبالنّظر إلى الإمكانات الميدانيّة لـ “الحرس”، فإن عدم تأييده للاتّفاق، يجعله هشّاً، خاصةً إذا رأى فيه “الحرس” محاولة من مؤسسة “بيت القائد” للإخلال بالتوازن القائم، والنيل من صلاحيات “الحرس”. لكن ينبغي عدم المبالغة بهذا الخصوص، فالمقال يدعو لأخذ الحيطة والحذر، وليس إلى التشاؤم؛ إذْ لم يُبدِ “الحرس” إلى الآن معارضته للاتفاق. ثم إنّ الضمانات الصينية تُعدُّ أداة ضغط “مُؤثّرة” على “الحرس” الذي ينخرط مع الجانب الصيني في مصالح اقتصادية مهمة. ونقول “مؤثّرة” فقط، لأنه بالنّظر إلى أولويّة الأيديولوجي على الاقتصادي، وأولويّة الاستراتيجي على السياسي، في عقيدة “الحرس” فإنّ الضمانات الصينية ليست مُطلقةً بالتأكيد.
معنى كل ذلك، أنّ إبرام الاتفاق بين المملكة العربية السعودية، ومُمثِّل الدولة العميقة في إيران، علي شمخاني، لا يكفي لضمان نجاح الاتفاق، ولا لإلزام كُلّ مؤسسات الدولة الإيرانية العميقة به، وإنما هو خطوة مُتقدِّمة، وفي الاتّجاه الصحيح، وينبغي البناء عليها، عبر مطالبة الجانب الإيراني باتّخاذ موقف صريح من الاتفاق من جانب القائد الأعلى علي خامنئي. كما ينبغي استطلاع موقف “الحرس” من الاتفاق، والتفكير في سبُل لضمان عدم معارضته له. ويمكن القول إنّ التحدي بدأ للتوّ أمام هذا الاتفاق الذي جاء بعد أسبوعٍ واحدٍ من التفاوض مع أحد جانبي الدولة العميقة في إيران.
.
رابط المصدر: