المُخاطَرة بسلَّة الغذاء: كيف يُهدِّد شُحُّ المياه قطاع الزراعة في شمال شرق سورية؟

بنيامين سميث

 

تاريخياً، شكلت مناطق شمال شرق سورية – التي تُعَدُّ جزءاً من الهلال الخصيب – مركزاً زراعياً حيوياً بالنسبة للبلاد. وأدى الجفاف المتكرر الذي تزامن مع عشر سنوات من الصراع إلى آثار كارثية على قطاع الزراعة، وأسباب عيش المزارعين المحليين خلال السنوات الأخيرة. واحتشد عدد من القضايا مثل استخراج المياه بشكل غير مستدام، وسوء إدارة المياه، والافراط في استخدام الأسمدة والمبيدات، وضعف الوعي، إلى جانب أمور أخرى لتشكيل تهديد لسلة غذاء سورية. وبالرغم من ترابط هذه القضايا كلها، يبدو أن وجود استراتيجيات لإدارة المياه بشكل أفضل يُعَدُّ أهم عنصر لتحسين المشهد الزراعي في شمال شرق سورية.

 

ويتمثل أحد العوامل الرئيسة التي تسهم في تكرار حالات الجفاف في شمال شرق سورية في عمليات الاستخراج الجائر للمياه الجوفية، ما أدى إلى تراجع حاد في مستويات المياه الجوفية. وتسبب هذا بدوره بجعل الأراضي قاحلة وأقل قدرة على استدامة النشاطات الزراعية. ونتيجة لذلك وجد الكثير من المزارعين أنفسهم مضطرين للتخلي عن أراضيهم والهجرة إلى المناطق الحضرية بحثاً عن مصادر دخل بديلة.

 

ولا تزال أساليب الري التقليدية مثل الإغراق أو القنوات مستخدمة على نطاق واسع في شمال شرق سورية. وتقُود هذه الأساليب عادةً إلى فقدان كميات كبيرة من المياه بسبب التبخر وجريان وتسرُّب المياه. ويمكن للاستخدام غير الفاعل لموارد المياه في هذه الأنظمة أن يؤدي إلى تفاقم قضايا شُحُّ المياه، خاصة خلال مواسم الجفاف.

 

كما تفاقم الوضع أكثر نتيجة ممارسات سوء إدارة المياه والبنية التحتية غير المناسبة، ما ترك المنطقة غير مجهزة للتعامل مع آثار الجفاف المتكرر. وساهم غياب أنظمة الري الفاعلة، وانتشار الأساليب الزراعية القديمة، في تراجع الإنتاجية الزراعية، وزيادة شُحُّ المياه.

 

ويعتمد الكثير من المزارعين في المنطقة على الممارسات الزراعية التقليدية التي تفتقر إلى التقنيات الحديثة، والتي قد لا تؤدي إلى الإنتاجية والاستدامة مثل الأساليب الحديثة. على سبيل المثال قد يتجاهل المزارعون تطبيق الدورة الزراعية أو استراتيجيات الزراعة البينية للحفاظ على خصوبة التربة، وبدلاً من ذلك يعتمد المزارعون في كثير من الأحيان على الافراط في استخدام الأسمدة والمبيدات الحشرية الكيميائية. وهذا الافراط لا ينطوي على آثار ضارة على البيئة فحسب، بل يسهم أيضاً في انجراف التربة.

 

أثر الجفاف وتغيُّر المناخ

أصبح تَغَيُّرْ المناخ مصدر قلق متزايد في شمال شرق سورية لأنه يُشَكِّل تحديات كبيرة للزراعة وموارد المياه والاستدامة بشكل عام في المنطقة. ويمكن ملاحظة أثر تَغَيُّرْ المناخ في شمال شرق سورية بعدة طرق. فقد شهدت المنطقة زيادة ملحوظة في درجات الحرارة خلال العقود الماضية، الأمر الذي أدى إلى ظهور موجات من الحر المتكررة والطويلة. وأدى ارتفاع درجات الحرارة بدوره إلى زيادة معدلات التبخر، ما فاقم من شُحُّ المياه والتأثير بشكل سلبي على نمو المحاصيل، خاصة القمح والقطن والذرة وفول الصويا التي تُشَكِّلَ أغلبية المحاصيل الأساسية في سورية.

 

وشهدت مناطق شمال شرق سورية إلى جانب ارتفاع درجات الحرارة تراجعاً في مستويات هطول الأمطار التي أصبح من الصعب توقعها. ويسهم تراجع هطول الأمطار في شُحُّ المياه في المنطقة، ما يجعل من الصعب على المزارعين التخطيط لنشاطاتهم الزراعية، وضمان إمدادات مياه مناسبة للري. وتتمثل النتيجة الأخرى لتغير المناخ في زيادة تكرار وحدة الأحوال الجوية القاسية مثل الجفاف والفيضانات. ويمكن لهذه الأحوال الجوية أن تقود إلى عدم نمو المحاصيل وتآكل التربة وإلحاق الضرر بالبنية التحتية الزراعية، والتي بدورها تنطوي على آثار مدمرة على أسباب عيش المزارعين المحليين.

 

كما أن أثر تَغَيُّرْ المناخ على موارد المياه في شمال شرق سورية يتجاوز الزراعة، حيث أدى تراجع توافر المياه إلى زيادة التنافس على المياه بين القطاعات المختلفة مثل الاستخدام المنزلي والصناعة وإنتاج الطاقة. وشهد خريف سنة 2022 على سبيل المثال شُحُّاً للمياه، الأمر الذي جعل المزارعين يتنافسون على حصصهم في مياه الري.

 

وأدى الجفاف المستمر في شمال شرق سورية إلى تراجع كبير في إنتاج القمح الذي يُعَدُّ من المحاصيل الأساسية للمنطقة. كما أدى تراجع وفرة المياه إلى عطش الحقول الزراعية وتراجع إنتاجية المحاصيل الزراعية، ما أثَّر في نهاية المطاف على الأمن الغذائي لملايين البشر الذين يعتمدون على القمح في قوتهم اليومي. وانطوى تراجع إنتاج القمح بالتحديد على انعكاسات حادة على الاقتصاد المحلي لأن شريحة كبيرة من السكان – بما في ذلك الذين يعيشون ضمن المناطق الخاضعة لسيطرة “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية” – تعتمد على الزراعة لكسب أسباب عيشهم.

 

ودفع شُحُّ المياه المزارعين والإدارة الذاتية للتكيف من خلال تشجيع زراعة أصناف من القمح مقاومة للجفاف. وفي حين أن هذه الأصناف تُعَدُّ مناسبة بشكل أفضل لتغير المناخ، غير أنها في كثير من الأحيان أقل إنتاجية وقيمة غذائية من الأصناف التقليدية. كما أدى تراجع الإنتاج الكلي إلى زيادة الاعتماد على الواردات من إقليم كردستان العراق لتلبية الطلب المتزايد على القمح، ما أدى إلى مزيد من الضغط على موارد المنطقة واستقرارها الاقتصادي.

 

ويؤثر الجفاف في شمال شرق سورية بشكل كبير في أنواع كثيرة من المحاصيل غير القمح، الأمر الذي يؤثر في الإنتاجية الزراعية والأمن الغذائي وأسباب العيش للمزارعين. ويواجه الشعير الذي يُعَدُّ من المحاصيل الأساسية تراجعاً في الإنتاجية بسبب الجفاف، ما يؤثر في أعلاف المواشي وبالتالي الاستهلاك البشري. كما تتراجع إنتاجية الخضروات مثل الطماطم والخيار والفلفل، وزيادة عُرضة هذه الخضروات للحشرات والأمراض، وبالتالي الحد من حصول المستهلكين المحليين على المنتوجات الطازجة منها. كما شهد القطن الذي يُعَدُّ من المحاصيل الحيوية تراجعاً في الإنتاجية والنوعية، وبالتالي تراجُع دخل المزارعين خلال السنوات الأخيرة.

 

وتأثر قطاع المواشي نتيجة حالة الجفاف في شمال شرق سورية، حيث أدى شُحُّ المياه وتراجع الإنتاج الزراعي إلى تراجع توافر ونوعية الغذاء للمواشي الذي يُعَدُّ حيوياً للحفاظ على صحة وعدد هذه المواشي. وظهرت تقارير متزايدة مطلع سنة 2022 بعد سنوات من الجفاف تشير إلى ارتفاع معدلات نفوق المواشي بشكل مفاجئ، وتراجع أعداد المواشي بسبب عدم القدرة على توفير الغذاء الضروري لها. وأدى هذا بدوره إلى تراجع إنتاجية المواشي، وبالتالي تراجع كميات الحليب واللحوم والمنتجات الحيوانية الأخرى.

 

وينطوي قطاع المواشي على أهمية خاصة في شمال شرق سورية الخاضعة لسيطرة “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية” لأنه يوفر الغذاء والدخل على حد سواء لشريحة كبيرة من السكان. ويحمل تراجع إنتاجية المواشي انعكاسات خطيرة على الأمن الغذائي لأن العائلات قد تواجه صعوبة في الحصول على الكميات الكافية من المنتجات الحيوانية التي تُعَدُّ مصادر أساسية للبروتين والعناصر الغذائية الأخرى.

 

واستجابة لهذه التحديات تبذل سلطة الزراعة والري التابعة لـ “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية” بدعم من منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية جهوداً مهمة لوضع وتنفيذ سياسات تهدف إلى دعم مربي المواشي مثل تقديم بعض الدعم على الأعلاف، وإلغاء الرسوم عن الأعلاف المستوردة من إقليم كردستان العراق، وتسهيل الوصول إلى موارد المياه، وتشجيع المزيد من ممارسات الرعي المستدام. وأشار مسؤولون في الإدارة الذاتية إلى وجود توجه لإعداد استراتيجيات للتكيف مع الجفاف الناجم عن تَغَيُّرْ المناخ، مثل التشجيع على تربية أصناف من المواشي المقاومة للجفاف من أجل تعزيز صمود قطاع المواشي في وجه التحديات البيئية (مقابلة هاتفية أجراها مُعد الورقة مع عضو لجنة الزراعة والري في الرقة، في نوفمبر 2022).

 

عوامل شح المياه

يُعَدُّ شُحُّ المياه في شمال شرق سورية مسألة معقدة تعود إلى الكثير من الأسباب المباشرة والضمنية بعضها من صنع الإنسان في حين أن أسباباً أخرى تعود إلى الظروف الطبيعية المتغيرة. وهناك ثلاثة عوامل مهمة على الأقل: أولها شُحُّ المياه الناجم عن الظروف التي تسبب بها الصراع في سورية، والثاني الممارسات السيئة المعمول بها قبل سنة 2011 وما زالت مستمرة لغاية الآن، أما الثالث فغياب الموارد اللازمة للتعامل مع مشكلة شُحُّ المياه بطريقة مستدامة.

 

1. سياسة تركيا المائية

منحت سنوات من الجفاف في المنطقة من جهة وضعف الدولة السورية نتيجة الصراع من جهة أخرى نفوذاً كبيراً لتركيا المجاورة التي تسيطر على موارد المياه المشتركة. وتأثرت أزمة المياه في شمال شرق سورية كثيراً بسياسة تركيا المائية تجاه سورية والعراق. واستغلت أنقرة مياه نهر الفرات الذي ينبع من أراضيها ويمر عبر الأراضي السورية والعراقية من خلال إقامة عدد من السدود ومحطات الطاقة المائية مثل سد أتاتورك الذي يُشَكِّل جزءًا من مشروع جنوب شرق الأناضول، والذي يَتَمَثَّلُ بمبادرة تنموية واسعة تهدف إلى تعزيز قطاعي الزراعة والطاقة في تركيا.

 

وأدى إقامة سد أتاتورك وغيرها على طول نهر الفرات إلى تقليص تدفق المياه باتجاه سورية، ما أدى إلى شُحُّ حاد في المياه وتفاقم آثار الجفاف في المنطقة. ولم يؤثر تقليص تدفق المياه هذا على النشاطات الزراعية فحسب، بل ساهم في تراجع نوعية المياه أيضاً من خلال زيادة تركيز المواد الملوثة بسبب تراجع كميات المياه.

 

وعمدت تركيا ووكلائها إلى جانب مشاريع السدود على نهر الفرات للسيطرة على محطة مياه علوك التي توفر مياه الشرب إلى مدن وقرى مختلفة في شمال شرق سورية. وتقع محطة علوك بالقرب من قرية رأس العين التي سيطرت عليها القوات التركية خلال هجومها العسكري في أكتوبر 2019. وتعمل تركيا منذ ذلك الحين على قطع إمدادات المياه بشكل متكرر عن محطة علوك، ما يتسبب بنقص حاد في المياه بالمنطقة وتعريض حياة الناس هناك للخطر.

 

ويمكن النظر إلى عسكرة المياه في إطار استراتيجية تركيا الأوسع للتعامل مع التهديد المنظور الذي تشكله “وحدات حماية الشعب الكردية”، و”قوات سورية الديمقراطية”. وتَعتبر أنقرة “وحدات حماية الشعب الكردية” امتداداً لـ “حزب العمال الكردستاني” الذي يخوض صراعاً طويلاً مع الدولة التركية. لذلك يمكن تفسير جهود تركيا للحد من وصول المياه إلى شمال شرق سورية على أنها محاولة لإضعاف “وحدات حماية الشعب الكردية”، والحد من قدرتها للسيطرة على المنطقة.

 

2. عمليات حفر الآبار المُتهوّرة وحدودها

استجابةً لأزمة المياه والجفاف المُستمر في شمال شرق سورية، لجأ العديد من المزارعين والمُجتمعات المحلية هناك إلى حفر الآبار للاستفادة من موارد المياه الجوفية. وأدّى ذلك إلى زيادة أنشطة حفر الآبار غير المُنظّمة والمتهوّرة في المنطقة، مدفوعة بالحاجة المُلحّة لتأمين المياه للأغراض الزراعية والمنزلية. ومع ذلك، فإن هذه الممارسة لها حدودها ولها عواقب طويلة المدى قد تؤدّي إلى تفاقم مشكلة نُدرة المياه في المنطقة. إن أحد المخاوف الرئيسة لعمليات حفر الآبار المُتهوّرة هو استنفاد موارد المياه الجوفية؛ فمع حفر المزيد من الآبار، غالباً ما يتجاوز مُعدّل استخراج المياه الجوفية معدل التغذية الطبيعية لهذه الآبار، ما يؤدّي إلى انخفاض منسوب المياه الجوفية. وقد تسبّب ذلك في جفاف الآبار عبر شمال شرق سورية، وسيؤدّي إلى تفاقم أزمة المياه على المدى الطويل. وفي بعض الحالات، قد يؤدّي الاستخراج المُفرط للمياه الجوفية إلى انخساف الأرض، ما قد يؤدّي إلى تدمير البنية التحتية وفقدان الأراضي الصالحة للزراعة.

 

وثمة مُشكلة أخرى مُرتبطة بحفر الآبار غير المُنظّم وهي احتمال تلوّث مصادر المياه الجوفية؛ فبدون وجود إشراف مُناسب والالتزام بمعايير السلامة، يزداد خطر دخول المُلوّثات إلى المياه الجوفية، ما قد يضر بجودة المياه المُستخرجة من الآبار؛ وبالتالي، يُمكن أن يؤدّي استهلاك المياه غير المأمونة هذا إلى زيادة احتمال الإصابة بالأمراض المنقولة بالمياه، مثل الكوليرا. وفي سبتمبر 2022، كُشِفَ عن تفشّي وباء الكوليرا لأول مرة في شمال شرق سورية، ما يُسلّط الضوء على المخاطر المُرتبطة بتلوُّث مصادر المياه بالمنطقة.

 

3. نقص الموارد اللازمة للتكيّف مع تغيّر المناخ

تتفاقم أزمة المياه في شمال شرق سورية بسبب محدودية موارد المنطقة للتكيّف بشكل فعّال مع تغيّر المناخ. ويؤدّي تغيّر المناخ إلى زيادة وتيرة وشدّة حالات الجفاف، ما يزيد من إجهاد موارد المياه المُنهكة. وتُواجِه الإدارة الذاتية لشمال شرق سورية العديد من التحدّيات في مُعالجة آثار تغيّر المناخ على توافر المياه والإنتاجية الزراعية. ويكمن التحدي الرئيس في محدودية الموارد المالية المُتاحة لتنفيذ إجراءات التكيّف مع تغيّر المناخ. فقد أدّت سنوات الصراع وعدم الاستقرار السياسي إلى إعاقة التنمية الاقتصادية، وإضعاف المؤسّسات المحلية، ما يجعل من الصعب على الإدارة الذاتية لشمال شرق سورية تخصيص الأموال لتحسين إدارة المياه والمُمارسات الزراعية وتطوير البنية التحتية المُقاومة لتغيّر المناخ. وثمة عقبة أخرى تتمثّل في الافتقار إلى الخبرة الفنيّة والتقنيات المُتقدّمة التي يُمكن أن تدعم جهود التكيّف مع المناخ. كذلك يحدّ الصراع المستمر والوضع الجيوسياسي من التعاون الدولي ونقل التكنولوجيا، ما يُعيق قدرة المنطقة على الحصول على الحلول المُتطوّرة وتنفيذها بهذا الخصوص.

 

علاوة على ذلك، فإن نقص الوقود يُشكّل تحدياً كبيراً للإدارة الذاتية لشمال شرق سورية بسبب الافتقار إلى مرافق تكرير النفط المُناسبة في المنطقة. ولا يؤثّر اعتماد الإدارة الذاتيةلاحقاً على المصافي المؤقّتة فقط في توافر الوقود وجودته، ولكن له أيضاً آثار على قطاع الزراعة، لاسيّما فيما يتعلّق بالريّ؛ فيُمكن أن يُقلّل الوقود الرديء الجودة الذي تُنتجه المصافي المؤقتة من كفاءة وموثوقية المضخّات والآلات الأخرى المُستخدمة لأغراض الريّ؛ وبالتالي، يُمكن أن يؤدّي ذلك إلى عدم كفاية إمدادات المياه للمحاصيل، ما يؤدّي إلى تفاقم مشاكل ندرة المياه الحالية في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، ثمة نقص في الوعي والمعرفة بشأن تغيّر المناخ وآثاره بين المُجتمعات المحليّة في شمال شرق سورية؛ فقد لا يفهم الكثير من الناس، وبخاصةٍ أولئك الذين يعيشون في المناطق الريفية، آثار تغيّر المناخ على سُبل عيشهم والبيئة.

 

دعم قطاع المُساعدات الإنسانية للحفاظ على المياه ومشاريع الري الذكية

يلعب قطاع المُساعدات الإنسانية دوراً حاسماً في دعم الجهود في شمال شرق سورية للتكيّف مع أزمة الجفاف المُستمرة. إن أحد المجالات الرئيسة التي تُركّز عليها مُنظّمات المُساعدات الإنسانية الدوليّة والمحليّة هو تعزيز الحلول وتنفيذها في مجال الحفاظ على المياه. وتهدف هذه الحلول إلى تحسين إدارة المياه والحفاظ عليها وتعزيز كفاءتها، ما يضمن في نهاية المطاف استخدام موارد المياه المحدودة بشكل مُستدام وعادل. ومن بين تلك الأساليب تعزيز مُمارسات الاستخدام المُستدام للمياه، والتي تُشجّع على الاستهلاك والإدارة المسؤولة لموارد المياه على مستوى الفرد والمجتمع. وغالباً ما تتضمّن هذه الممارسات دعم أنظمة تجميع مياه الأمطار، وإعادة تدوير المياه الرمادية، والأجهزة الموفّرة للمياه. ومن خلال تنفيذ أنظمة تجميع مياه الأمطار، يُمكن للمجتمعات جمع مياه الأمطار وتخزينها لاستخدامها خلال فترات ندرة المياه. ومن ناحية أخرى، تسمح أنظمة إعادة تدوير المياه الرمادية للأسر من ناحية أخرى بإعادة استخدام المياه من الأحواض والاستحمام والغسّالات للري أو تنظيف المراحيض؛ وبالتالي تقليل الطلب على المياه العذبة.

 

ومن المجالات الرئيسة الأخرى التي ينخرط فيها قطاع المُساعدات الإنسانية بنشاط تعزيز اعتماد أنظمة الري الذكية في الزراعة. وتُستخدَم هذه الأنظمة المُتقدّمة تكنولوجياً لتحسين استخدام المياه من خلال المُراقبة الدقيقة لمستويات رطوبة التربة وتزويدها بالمياه فقط عندما تكون هناك حاجة إليها. ومن بين الأمثلة على أنظمة الري الذكية الري بالتنقيط، الذي يُقلّل الفاقد المائي من خلال التبخّر والجريان السطحي، وأجهزة استشعار رطوبة التربة التي توفّر بيانات فورية عن مُتطلّبات المياه، ما يسمح للمزارعين باتخاذ قرارات سليمة بشأن جدولة الري. وعلى الرغم من الفوائد المُحتملة من التقنيات الموفّرة للمياه، تظل القدرة على تحمّل التكاليف مُشكلة كبيرة للعديد من المزارعين في شمال شرق سورية. ويمكن أن تُشكّل التكاليف الأولية المُرتفعة المُرتبطة بتركيب هذه الأنظمة وصيانتها عائقاً كبيراً أمام اعتمادها على نطاق واسع. وإدراكاً منها لهذا التحدي، فقد تقدّمت الإدارة الذاتية لشمال شرق سورية بطلبات مُتكرّرة إلى المُنظّمات الدولية والمحليّة العاملة في شمال شرق البلاد لتوفير الدعم المالي أو الإعانات أو القروض مُنخفضة الفائدة لمُساعدة المزارعين على الاستثمار في التقنيات الموفّرة للمياه (مقابلات هاتفية أجراها الكاتب مع منظمات غير حكومية محلية وعاملين في مجالس مدنية مختلفة في شمال شرق سورية).

 

وتُمثّل القدرة على تحمّل التكاليف تحدّياً كبيراً للمزارعين في شمال شرق سورية في سعيهم للتكيّف مع أزمة الجفاف المستمرة. ويُمكن أن تُشكّل التكاليف المُرتفعة المُرتبطة بتنفيذ تقنيات وممارسات ذات كفاءة في استخدام المياه عائقاً كبيراً أمام اعتمادها على نطاق واسع، لاسيما بالنسبة لصغار المزارعين ذوي الموارد المالية المحدودة. ويُمكن أن يكون الاستثمار الأوّلي المطلوب لتركيب أنظمة الري المُتقدّمة، مثل أنظمة الري بالتنقيط أو الرش، مُكلفاً للغاية بالنسبة للعديد من المزارعين. بالإضافة إلى ذلك، تزيد التكاليف المُتعلّقة بالصيانة والإصلاحات واستبدال المعدّات من العبء المالي بهذا الخصوص. وقد لا يكون الاستثمار في تقنيات توفير المياه أولوية قصوى للمزارعين الذين يُكافحون من أجل تلبية احتياجاتهم الأساسيّة، مثل الغذاء والمأوى والرعاية الصحية في خضم الصراع المستمر وعدم الاستقرار الاقتصادي في المنطقة؛ وبالتالي، يُواصل العديد من المزارعين الاعتماد على طرق الري التقليدية والتي غالباً ما تكون أقل كفاءة، ما قد يؤدّي إلى تفاقم ندرة المياه والمُساهمة في استنفاد الموارد المتاحة.

 

اعتماد المجتمعات المحليّة على الزراعة

قبل اندلاع العنف في البلاد وعلى الرغم من سوء إدارة الحكومة، كانت سورية فيما مضى مُصدِّراً رئيساً للحبوب والفواكه والخضروات في الشرق الأوسط؛ ففي عام 2011، شكلت الصادرات الزراعية %31 من إجمالي الصادرات السورية، ما يدل على أهمية الزراعة لاقتصاد البلاد. تعتمد المُجتمعات في شمال شرق سورية بشكل كبير على الزراعة لكسب عيشها وضمان أمنها الغذائي واستقرارها الاقتصادي العام. فقد كانت الزراعة العمود الفقري لاقتصاد المنطقة لأجيال، حيث تعمل العديد من الأسر في الزراعة أو الأنشطة ذات الصلة. ومع انخفاض إنتاج القمح والمحاصيل الأساسية الأخرى ومواجهة قطاع الثروة الحيوانية تحدّيات مُتزايدة، تعرضت سُبل عيش العديد من المزارعين والرعاة وأسرهم لخطر شديد. وتُواجه الإدارة الذاتية لشمال شرق سورية العديد من التحدّيات في مُعالجة أزمة المياه ودعم المُجتمعات المُتضرّرة. فمحدودية الموارد المالية تُعيق مشاريع البنية التحتية واسعة النطاق والسياسات الشاملة لإدارة المياه. كذلك فإن النقص في إمدادات الوقود، بسبب النقص في مصافي تكرير النفط، أثّر في مضخّات المياه وأنظمة الري ونقل السلع الزراعية. بالإضافة إلى ذلك، تُواجه المنطقة نقصاً في الخبراء التقنيين لتطوير استراتيجيات إدارة المياه المُستدامة والمُمارسات الزراعية المُقاومة لتغيّر المناخ.

 

واعتماد غالبية الناس في شمال شرق سورية على الزراعة يعني أيضاً أنه يُمكن ملاحظة الآثار المتتالية للجفاف في جميع قطاعات الاقتصاد في المنطقة؛ فمع انخفاض الإنتاج الزراعي، تعطّلت الأسواق المحليّة وشبكات التجارة بشكل مستمر، ما أثّر في توافر المواد الغذائية الأساسية والقدرة على تحمّل تكاليفها. بالإضافة إلى ذلك، تأثّرت أيضاً الصناعات التي تعتمد على المُنتجات الزراعية، مثل تصنيع الأغذية وصناعات المنسوجات، ما أدّى إلى فقدان الوظائف وعدم الاستقرار الاقتصادي. ويُمثّل التدهور الزراعي في شمال شرق سورية تحدياً خطيراً له آثار واسعة النطاق على المُجتمعات المحلية والبلاد بأكملها. فقطاع الزراعة في المنطقة، والمتأثّر بشدة بندرة المياه، وتغيّر المناخ، والصراع المُستمر، له عواقب على الأمن الغذائي والاقتصاد والتوظيف والبيئة في سورية.

 

وكون المنطقة رافداً حيوياً للإنتاج الزراعي للبلاد، يُمكن أن تؤدّي الصراعات في الشمال الشرقي من سورية إلى تفاقم نقص الغذاء وارتفاع أسعار المواد الغذائية، ما يولّد ضغطاً إضافياً على الاقتصاد الهش بالفعل والأسر الضعيفة. وعلى سبيل المثال، أدى ضعف موسم القمح العام الماضي إلى إجبار الحكومة السورية على اللجوء إلى روسيا ودفع مبلغ لاستيراد 600 ألف طن قمح يكفي فقط حتى منتصف عام 2023. وباختصار، على الرغم من أن سورية مُنقسمة الآن بحكم الأمر الواقع، إلا أنه عندما يتعلّق الأمر بالزراعة، لا يزال البلد بأكمله يتأثّر إلى حد كبير بما يحدث في الشمال الشرقي من البلاد.

 

خلاصة واستنتاجات

تُعدّ أزمة المياه في شمال شرق سورية قضية مُعقّدة وملحّة، وتتطلب نهجاً شاملاً ومُنسّقاً على نحو جيد للتخفيف من آثارها بعيدة المدى على القطاع الزراعي، والمُجتمعات المحلية. وقد تفاقمت الأزمة بسبب عوامل عدة مثل تغيّر المناخ، وسوء إدارة الموارد المائية، والصراع المستمر. ومن أجل حماية قطاع الزراعة في الجزء الشمالي الشرقي من البلاد، من الضروري تطوير وتنفيذ مُمارسات مُستدامة في إدارة المياه. وقد يكون لعدم القيام بذلك تداعيات فورية على الشمال الشرقي، وسورية بشكل عام، ولكن قد يؤدّي أيضاً إلى مشكلات دائمة لا يُمكن حلها في المُستقبل.

 

هناك ثلاث حقائق صعبة في شمال شرق سورية: أولاً، إن هياكل الحكم المحليّة ضعيفة وغير مُجهزة بالكامل لمواجهة التحدّي. ثانياً، للحفاظ على ديمومة القطاع الزراعي، سيكون الاستثمار من الفاعلين الخارجيين – لاسيما الدول المانحة – ضرورياً خلال السنوات القليلة المُقبلة، نظراً لأن الحرب أضعفت القدرات المحليّة. وفي هذا السياق، بينما لا يوجد حل واضح للمُشكلة المُعقّدة، فإن معالجة قضية إدارة المياه – من خلال تسهيل نقل التكنولوجيا لبناء أنظمة ري فعّالة ومُبادرات بناء القُدرات للمُجتمعات والمؤسّسات المحليّة – يُمكن أن تحل جزءاً مُهماً من المُشكلة. والحقيقة الثالثة هي أن الأمن الغذائي لسورية مُرتبط بالشمال الشرقي. وسواء ظلّت البلاد مُنقسمة بحكم الأمر الواقع، أو توحّدت بشكل ما، فإن حصة سورية في الهلال الخصيب ستظل مهمة لسورية بأكملها.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/featured/almukhatara-bsllat-alghidha-kayf-yuhddid-shuhh-almiah-qitae-alziraa-fi-shamal-sharq-suria

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M