الاعتراف ليس نهاية التاريخ

* في إطار تغطيتها الخاصة للذكرى الواحدة والثلاثين لـ”اتفاق أوسلو” تعيد “المجلة” نشر مقال رئيس تحريرها السابق الأستاذ عبد الرحمن الراشد والصادر في عدد “المجلة” بين 12 و18 سبتمبر 1993:

اتفاق “غزة- أريحا أولا” يقال إنه اتفاق على مبدأ الأرض للفلسطينيين مقابل السلام للإسرائيليين. ويمر بمراحل أساسية تبدأ باعتراف الجانبين ببعضهما البعض. والمرحلة الأولى تشمل إعادة قطاع غزة ومدينة أريحا إلى الفلسطينيين بعد شهرين من توقيع الاتفاق، أي ربما في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. هناك تتولى المنظمة أو الحكومة الفلسطينية ضبط الأمن وإدارة الشؤون البلدية والمعيشية وتمثيل الفلسطينيين سياسيا على المستوى الخارجي. وستكون هناك قوات أمن دولية تشرف على تطبيق الاتفاق، ثم بعد تسعة أشهر من تاريخ الانسحاب الإسرائيلي تُجرى انتخابات بين الفلسطينيين لاختيار من يرونه مناسبا لهم. وتلي ذلك مراحل زمنية تنسحب فيها إسرائيل من بقية المناطق المحتلة. وهنا يؤكد الجانب الفلسطيني أنها تشمل الخليل ونابلس وطولكرم وقلقيلية وبيت لحم وبيت ساحور وجنينة وكذلك القدس العربية.

 

أ ف ب أ ف ب

ياسر عرفات (وسط) يصافح إسحاق رابين في 4 مايو 1994 في القاهرة، ويقف (من اليسار) شمعون بيريز، وزير الخارجية الروسي أندريه كوزيريف، حسني مبارك، وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر ومحمود عباس، أثناء توقيع اتفاقية غزة وأريحا 

ماذا يمكن أن نسمي ما يحدث اليوم؟

مصالحة مع العدو الإسرائيلي،

التخلي عن خيار الحرب،

الاعتراف بدولة إسرائيل،

التخلي عن كل فلسطين؟

أم إننا يمكن أن نسميها:

استعادة معظم الأراضي المحتلة،

إيقاف مشروع التوسع اليهودي،

انتزاع الاعتراف بالهوية والشعب والأرض الفلسطينية،

اعتراف مؤقت بالواقع وليس نهاية القصة؟

كلها عناوين جائز لنا أن ننتقي منها تفسيرنا للاتفاق. فما يحدث هو اعتراف بإسرائيل، الدولة العدو، وهو أيضا، اعتراف بالمنظمة وبالأرض الفلسطينية لأول مرة. هو تراجع عن مشروع تحرير كل فلسطين، وهو كذلك إيقاف لمشروع “إسرائيل الكبرى” من النيل إلى الفرات. وكما نرى فالحجة موجودة للتأييد أو للطعن في ما يحدث اليوم.

وليس مخطئا من يتوجس خيفة من قضية الاتفاق الذي يتم بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية. فالاتفاق خروج حقيقي على كل الشعارات الماضية التي درسناها وحقنت بها عروقنا وصارت جزءا من حياتنا.

ولكن لأن الشعارات الماضية فشلت مرات عديدة صار من المباح أن تجرب الطروحات الأخرى التي تعد بتحقيق ما لم تحققه رموز الماضي ولغته. ففي الماضي كنا نتحدث عن وحدة عربية ضمانة لمواجهة العدو الإسرائيلي، أو أي عدو يهدد المنطقة. ومع مرور الوقت ثبت أن تحقيق الوحدة غير ممكن عمليا، كما ثبت أن العداوة ليست مقصورة على إسرائيل فهي موجودة علنا بين كثير من الدول العربية التي دخلت في حروب بين بعضها البعض عدة مرات.

 

أزعم أن التدخل العربي لعب دورا معطلا وأفسد على الفلسطينيين قدرة المناورة، وزوّدهم بذخيرة كلامية فقط، وهو ما بدأ مع بدايات الاستيطان اليهودي لفلسطين

 

 

وقد تسبب تأجيل الحل الفلسطيني طمعا في تحقيق الوحدة العربية في الإضرار بالفلسطينيين بشكل أكبر. وقد كانت الآمال معقودة على الحل العربي مثل السراب الذي يلوح في الأفق دائما، ففي كل مرة تثار مناحة فلسطينية بسبب عربدة إسرائيلية تُعقد قمة عربية لتعطي حقنة من الأمل بأن الدول العربية ستقوم بفعل ما لتحرير فلسطين. والثابت من التجارب الماضية أن الرغبة العربية في هزيمة إسرائيل متوفرة لدى كل حكومة، لكن العزيمة والإمكانية كانتا تنقصانها. فالعرب لم يشنوا مجتمعين حربا حقيقية. فحرب عام 1967 كانت بمبادأة إسرائيلية ردا على تهويمات عبدالناصر الصغيرة مثل سحب القوات، وإغلاق المضائق، والتهديد بالحرب. وقبلها حرب 1948 التي كانت هي الأخرى حربا إسرائيلية لم تواجه سوى الأسلحة العربية الفاسدة.
بل إنني أزعم أن التدخل العربي قد لعب دورا معطلا وأفسد على الفلسطينيين قدرة المناورة، وزوّدهم بذخيرة كلامية فقط، وهو ما بدأ مع بدايات الاستيطان اليهودي لفلسطين.

 

قليل منا يذكر رؤية الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة إلى حل القضية الفلسطينية. فهو كان يرى أنه يجب أن لا نجعل مسألة الاعتراف بإسرائيل عقبة أمام الحل مقابل استرداد الأراضي

 

 

ورحلة القضية الفلسطينية، كما يعرفها معظمنا، مليئة بالدم والآلام وفيها الكثير من التجارة العربية السياسية على حساب الحاجة والواقع الفلسطينيين. وأعني بذلك التجارة العاطفية حيث إن الكثير من السياسيين يدبجون خطبهم بشعارات تحرير فلسطين والجهر بمعاداة إسرائيل من أجل كسب التأييد الشعبي وتدعيم صورتهم القومية والإسلامية. فالقضية الفلسطينية ظلت أكثر القضايا ارتباطا بالوجدان العربي، ومن هنا كانت محط التغني يصدح بها الجميع عاطفيا فقط، بدءا بمدراء المدارس وانتهاء برؤساء الدول.
وقليل منا يذكر رؤية الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة إلى حل القضية الفلسطينية. فهو كان يرى أنه يجب أن لا نجعل مسألة الاعتراف بإسرائيل عقبة أمام الحل مقابل استرداد الأراضي. وقبل ذلك بعشرين عاما قال المغفور له الملك عبدالعزيز للفلسطينيين بكل صراحة إن عليهم أن يتولوا القضية بأنفسهم. فقد ذكر لوفد فلسطيني عام 1946 أثناء مؤتمر بلودان: “أتريدون أن تسمعوا كلمة الحق؟ إن قضية فلسطين لا ينقذها إلا شعب فلسطين… نحن نقرأ تصريحات بعض القادة العرب بأن على الجامعة العربية وجيوشها أن تحرر فلسطين. فلا يخدعكم هذا الكلام”.
لقد أثار كلامه حفيظة بعض العرب. لكنها الحقيقة، فهو كان يدرك أن الجيوش العربية مشغولة بحدودها. وهو يعلم تاريخيا أن الجيوش العربية لم تقف مع الدولة العثمانية، ولم تقف مع الثورة العربية، ولم تقف مع أحد سوى نفسها، ولم تحرر الجيوش العربية الدول العربية المستعمرة الأخرى.

 

أ ف ب أ ف ب

رجل يقرأ في الأول من سبتمبر 1993 في باريس صحيفة ليبراسيون الفرنسية التي تنشر نص اتفاق غزة وأريحا، في محاولة لوضع إطار من شأنه أن يؤدي إلى حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المستمر 

وفلسطين اليوم محتلة كلها، بل ومطوقة من خارجها. فالشريط اللبناني هو حزام شمالي لإسرائيل، والجولان السوري هو اليوم حصن شرقي لإسرائيل، ونهر الأردن حاجز طبيعي لها، وسيناء حتى بعد إعادتها إلى مصر، منزوعة السلاح بأمر أممي. إذن فلسطين غارقة في يد الاحتلال الإسرائيلي وليست قريبة من متناول أيدي العرب كما يصورونها خطابيا. وفلسطين صارت مكتظة بيهود العالم الذين يتوافدون عليها من اليمن وروسيا وأميركا وإثيوبيا وغيرها. ففي الضفة الغربية 120 ألف يهودي مستوطن مدربون على السلاح. وفي الجولان صار ثلث السكان من اليهود المستوطنين.

 

الحقوق يمكن المطالبة بمزيد منها، والنضال لا يمكن إيقافه بمجرد توقيع اتفاقية وله مظاهر مختلفة

 

 

ومن هنا يصبح الاتفاق الذي يُعرض اليوم على كثرة سلبياته أكثر الحلول واقعية. فبكل بساطة أمام الفلسطينيين أن يستردوا بعض الأرض مقابل تنازلات شكلية. فالاعتراف بإسرائيل ليس نهاية التاريخ، فالكثير من الأمم اعترف بها ثم سقطت وسقط الاعتراف معها، وأذكركم بالاتحاد السوفياتي الدولة العظمى. والحقوق يمكن المطالبة بمزيد منها، والنضال لا يمكن إيقافه بمجرد توقيع اتفاقية وله مظاهر مختلفة. ولو افترضنا أن اتفاق غزة- أريحا فشل في أول الطريق، فإن أمام الفلسطينيين الخيار بين رفضه لاحقا والعودة إلى البندقية، وإذا أرادوا أن يصبحوا حمقى فلهم أن يعيدوا غزة وأريحا إلى الإسرائيليين.
إن المنظمة تخسر من جراء هذا الاتفاق فندقها الذي تسكن فيه في تونس فقط، فلماذا ترفض أن تسكن في بيتها في أريحا وغزة؟

 

المصدر : https://www.majalla.com/node/322203/%D9%88%D8%AB%D8%A7%D8%A6%D9%82-%D9%88%D9%85%D8%B0%D9%83%D8%B1%D8%A7%D8%AA/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B9%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%81-%D9%84%D9%8A%D8%B3-%D9%86%D9%87%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M