الاغتراب السياسي للأنظمة الحاكمة

د. زهير الخويلدي

“كلمة اغتراب اليوم هي كلمة مريضة… فهي تعاني من حمولة دلالية زائدة، وبسبب كثرة ما تعنيه، فإنها قد تخاطر بألا تعني أي شيء على الإطلاق” بول ريكور- مقال الاغتراب- الموسوعة الكونية1

مفهوم الاغتراب لم يعد مقتصرا على الأفراد والجماعات ضمن الإطار الديني والاقتصادي كما بين كل من فيورباخ وماركس بخصوص الوضعية المعكوسة التي يجد فيها الوعي نفسه أو ذهاب مردود العمل لغير القائمين به بل أصبح مرتبطا بأنظمة سياسية وأحزاب ومنظمات ودول بأسرها ويعكس وضعية مفارقة توجد فيها وتجعلها بعيدة كل البعد عن استقلاليتها الذاتية وامتلاكها سلطة القرار والقدرة على حكم نفسها بنفسها والتصرف في مواردها وثرواتها ورأسمالها الرمزي والبشري دون تدخل خارجي ووصاية أجنبية وتبعية للمحاور الإقليمية ودون طلب الإذن من قوى ضغط واستشارة مراكز نفوذ ودوائر مهيمنة.

لقد ورث الاغتراب السياسي الذي ظهر مع الفيلسوف بول ريكور في العقد الخامس من القرن الماضي في كتابه عن الحقيقة والتاريخ2 أثناء تشخيصه للعلاقة الإشكالية بين السلطة والعنف كل من الاغتراب الديني والاغتراب الاقتصادي ولكنه لم يتخلص منهما كليا بل تراه يعود إلى العامل الديني والمعطى الاقتصادي لكي يكرس الوعي الزائف والغيبوبة عن الذات وفقدان المبادرة وشلل تام في الإرادة وتسليم الأمور للغير.

الكثير من الأنظمة الحاكمة في المنطقة العربية تعاني من التبعية والخضوع والاستسلام والهشاشة على مستوى فقدانها للسيادة الوطنية والسبب هو آفة الاغتراب السياسي التي تظهر في الولاء للقوى الخارجية وخضوع الأحزاب للإملاءات الأجنبية وتحكم السفارات الدبلوماسية في القرارات المصيرية للمجتمعات.

قد يظهر الاغتراب السياسي في التوجه نحو الخارج على مستوى المنوال التنموي بالاستنساخ للتجارب الفاشلة والاقتراض والمديونية المجحفة وتصدير الثروات بأبخس الأثمان واستيراد المواد الحيوية المعدة للاستهلاك اليومي بأثمان باهظة وربط القطاعات الإستراتيجية للاقتصاد بالنشاط المالي للأسواق العالمية والتعرض لخسائر كبرى عند الانكماش أو التضخم أو أزمات أخرى وفسح المجال للكفاءات للهجرة دون رقيب بحثا عن العملة الصعبة ودون التفكير في العواقب الوخيمة مثل إهدار للخبرة وإفراغ المؤسسات من العارفين بالإدارة والضالعين في تسير دواليب الدولة والقادرين على انجاز المخططات ووضع البرامج.

تتمثل العلامة الثانية على الاغتراب السياسي في الحالة المزرية التي أضحى عليها الناس والضبابية وانسداد الآفاق وغياب الرؤية الواضحة وشعور المواطنين بأنهم غرباء وضائعين بالرغم من وجودهم في أوطانهم وبين أهلهم وفسح المجال للمشاركة في الشأن العام عن طريق الانتماء إلى الأحزاب والمنظمات والقيام بواجب الاقتراع وتمتعهم بحق الانتخاب وتمكين بعضهم من تقلد المناصب العليا والوظائف الهامة.

يمكن الإشارة في مستوى ثالث من الاغتراب السياسي الى عملية التموضع والتشييء التي تتعرض لها هذه المجتمعات التابعة والأمم المغلوبة والشرائح المسحوقة والدول المهانة وتتمثل في وضعها على محك الدراسة وتحويلها إلى موضوع للتجارب وإسقاط المناهج البحثية على ثقافتها وسلبها خصوصيتها وطمس رمزيتها وتدنيس شخصيتها بتحويلها من ذات حضارية تمتلك سيادة وكرامة إلى موضوع للعد والتجريب.

المظهر الرابع من الاغتراب السياسي يتمثل في إسناد طبيعة بشرية ثابتة وجوهر ثقافي سرمدي وإلصاق تهم التخلف والرجعية والإرهاب والهمجية بأفراده والتخويف به والتحذير منه والتحريض الإعلامي عليه ورفض كل أشكال المعاملات معه على غرار الشراكة والاتصال والإدماج والتعاون الثقافي والاقتصادي والإبقاء على علاقة متشنجة تقوم على التمركز والازدراء والتفوق وتعيد إنتاج الكراهية والانتقام والعنف.

في سبيل الختم يجدر اعتبار الفساد البعد الخامس من الاغتراب السياسي ويكمن في إهدار المال العام وتعطيل المرفق العمومي بغية تمكين المرفق الخاص من بعض الامتيازات واحتكار المناقصات لفئة قليلة على حساب فئات أخرى والسيطرة من طرف الماسكين بالنشاط الموازي للاقتصاد والاشخاص المؤثرين في المستوى المحلي والجهوي على المفاصل الحساسة للدولة واتساع الهوة بين القرارات التي يتم اتخاذها والمشاريع التي يقع برمجتها من جهة والتنفيذ على أرض الواقع وتفويت المجهود التنموي الذي تبذله الدولة في التهيئة العمرانية والإصلاح الحضري وتشييده بشكل متسرع وتجهيزه بصورة منقوصة وعدم احترام كراس الشروط والهرولة نحو التنازل على الأمن الغذائي والمائي والطاقي وتبني الخصخصة.

فما السبيل للقضاء على هذه الأشكال المتعددة من الاغتراب السياسي؟ وما دور الثورة في التحرر منه؟

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/21762

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M