غمرت البهجة الإمام علي بن موسى الرضا، عليه السلام، بولادة ابنه محمد بعد طول انتظار، ليضع حداً لكل الاستفهامات من القريب والبعيد عن مصير الإمامة من بعده، فيبدو أنه رزق بهذا المولود المبارك في وقت متأخر من حياته، لذا جاء به الى أصحابه يعلمهم بأنه الإمام من بعده، وقد سمّاه محمداً، وكنّاه أبا جعفر، فعرفته الشيعة بأبي جعفر الثاني لتمييزه عن الإمام أبي جعفر محمد الباقر.
علم المأمون ومعرفته لم تكن في صالحه
عُرف المأمون العباسي اهتمامه بالعلم والمعرفة، وترجمة ما كتبه الآخرون خارج كيان الأمة، معتقداً بفائدتها لمسيرة العلم والمعرفة عند المسلمين، ومنها ما كان قادماً من المدارس الفلسفية والعرفانية، وإليه يعزو الفضل في تأسيس “بيت الحكمة” ببغداد ليكون ملقتىً للأدباء والعلماء من كل مكان.
هذا الاهتمام أراده المأمون وسيلة لتكريس دعائم حكمه من خلال استقطاب العلماء والحكماء ليكونوا الى جانبه، وفي طليعتهم الإمام الرضا ثم ابنه محمد الجواد، عليهما السلام، لبدء منهج جديد يختلف كليةً عما كان عليه آباؤه العباسيون من القمع والتنكيل بالمعارضين، والابتعاد عن الاحتقان السياسي، وإثارة سخط الناس، كما كان عليه الحال مع أسلافه العباسيين، ثم الظهور بمظهر التديّن والتعكّز على الثقافة والعلم، ولكن خاب فأله بانكشاف حقيقته في قادم الأيام لما سنشير اليه في سياق الحديث عن حياة الإمام محمد الجواد، عليه السلام، الذي نحتفل هذه الايام بذكرى مولده الميمون، وجهاده العظيم للدفاع عن العقيدة الحقّة و رسالة السماء في ظل ظروف سياسية واجتماعية غاية في التعقيد.
نفس قرار الترحيل القسري الذي اتخذه بحق أبيه الرضا من مدينة جده المصطفى، كرره المأمون مع ابنه الجواد بعد فترة وجيزة من اغتياله الامام الرضا بطريقة احتيالية يتقنها جيداً، إذ لم يسعه إغماض جفنه لحظة واحدة والامام التاسع من أئمة أهل البيت قائم في مدينة جدّه بين شيعته ومواليه في داخل المدينة وفي شتى بقاع الكيان الاسلامي آنذاك، فأمر باستدعائه الى بغداد خلال وجوده فيها، وقد استتب له أمر الحكم وتحييد موقف الأسرة العباسية بشكل عام إزاء مسألة وجوده في قمة الحكم كخليفة للمسلمين، وفي بغداد اقترح على الإمام الزواج من ابنته “أم الفضل” وهو يوم ذاك ابن عشر سنين، مما يؤكد إحكام المأمون قبضته على أفواه العباسيين قاطبة، فلم يدعهم يعترضون على هذا القرار، رغم التبرّم وإظهار الخشية من احتمال خسارتهم الحكم والسلطة، متذرعين بصغر سن الإمام، واقترحوا عليه قضاء فترة في حلقات الدرس “ليتفقه في الدين ويتعلم القرآن الكريم”، بيد أن المأمون أكد لهم بأنه أعرف بهذا الفتى منهم، فقد سبق وأن عرف أباه الرضا وتيقن خلال تلك المناظرة الشهيرة مع رؤساء الأديان والمذاهب، أن أئمة أهل البيت ليسوا علماء عاديين يكتسبون علومهم ومعارفهم من الكتب والمطالعة والتأمل والتفكّر، وإنما يتميزون عن سائر البشر بعلومهم الربانية الممتدة الى جدهم المصطفى الذي أحاطه الله –تعالى- بعلم ما كان ويكون.
وفي ظن المأمون أنه يستوعب الإمام الجواد عندما يكون صهراً له، وربما هو زهو الحكم، والاعتداد الزائد بالنفس، وحتى يتخلص من تململ شيوخ العباسيين وتشكيكهم بأهلية وجدارة الامام الجواد ليكون صهراً لهم، اقترح عليهم عقد جلسة حوارية ليسألوه ما بدا لهم ويستكتشفوا من خلالها رجاحة عقله وغزارة علمه، فكان ذلك السؤال المحيّر والمدوّي في التاريخ الذي تورط فيه يحيى بن اكثم الذي يفترض أنه قاضي القضاة، وأعلم علماء زمانه، عندما سأل الإمام عن مُحرمٍ قتل صيداً، ظناً منه بأنه يطرح سؤالاً تعجيزياً، فجاءت التفريعات المذهلة منه، عليه السلام، لتلقمه حجراً يخلده التاريخ، فقال له: قتله في حلّ أو حرم؟ عالماً كان المحرم أم جاهلاً؟ قتله عمداً أم خطأ؟، حراً كان المُحرم أم عبداً؟ صغيراً كان أم كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أم معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد كان أم من كباره؟ مصرّاً على ما فعل أم نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد أم في النهار؟ محرماً كان بالعمرة اذ قتله أم بالحج؟
فكان هذا كافياً للمأمون أن يقنع جماعته بأهلية الامام بالمصاهرة ويحقق لنفسه ما يريد، فتم الزواج بإعلان قبول الإمام بهذا الزواج، وحصل ما حصل من احتفالات باذخة صنعها المأمون لابنته في بغداد لا تهمنا كثيراً تفاصيلها بقدر ما يهمنا كيفية تعامل الإمام الجواد مع هذه المرحلة الجديدة من حياته عندما استثمر سياسة المأمون لصالحه ولصالح الرسالة بأن يضاعف جهده ويكرس حياته القصيرة في منصب الإمامة والولاية على الأمة في توثيق وتثبيت تراث ثمانية أئمة هداة معصومين سبقوه، ومن قبلهم جدّه المصطفى، بأن يجمع كل هذه الروافد العلمية والمعرفية والأخلاقية في خط واحد يكون الصراط المستقيم لشيعته في أيام حياته، ومن ثم للأجيال القادمة والى يومنا الحاضر، ولا أدلّ على هذا من مخاطبة الشيعة للإمام الجواد بكنيته الحقيقة؛ أبا جعفر الثاني، تمييزاً لهم عن الامام أبو جعفر الباقر، وذلك بشكل علني في المكاتبات والمخاطبات في الاوساط العامة.
ربما شاع نبأ مصاهرة المأمون للإمام الجواد بين افراد الأمة، بيد أن الشيوع الأكثر دوياً كان بين أهل العلم والمعرفة لما انتشر من نتائج تلك المحاورة بين الامام الجواد و يحيى بن أكثم، فكانت القاعدة التي أسسها الامام للعلاقة مع هذه الشريحة المهمة في الامة، فكثرت الزيارات واللقاءات معه، عليه السلام، خلال فترة وجوده القصيرة في بغداد، إعجاباً وانبهاراً بهذا العَلَم السامي والينبوع الهادر علماً وآداباً ومعرفة، وليكشف لهم حقيقة أهل بيت رسول الله، ومنزلتهم المغيبة عنهم طيلة حوالي مائة وخمسين عاماً، ولم يبق الامام في بغداد، فقفِل راجعاً الى مدينة جدّه المصطفى ليكون من هناك الفنار المضيئ للأمة كما حرص سائر الأئمة الهداة من قبله بأن يتخذوا المدينة المنورة، ومن المسجد النبوي وقربهم الى مرقد رسول الله، منطلقاً لقيادة الأمة وتغذيتها بكل ما يلزم من أحكام و قوانين وعلوم وآداب.
وثمة رواية تاريخية تؤكد المكانة الاجتماعية والسياسية التي اكتسبها الإمام الجواد، وتحوله الى شخصية محورية صانعة للقرار في الدولة الاسلامية (العباسية)، فقد جاءه رجل من سجستان التابعة آنذاك لنيشابور –من مناطق ايران آنذاك- وهو على مائدة مع جمع غفير في مكة في بدايات حكم المعتصم و طلب منه رسالة الى والي تلك المنطقة يتوسط فيها لإلغاء “خراج” متراكم عليه، وهو نوع من الضريبة والحقوق المالية للدولة، وبين الرجل للإمام بأن الوالي “من المحبين لكم” فأحذ الامام قرطاساً وكتب: “بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فان موصل كتابي هذا ذكر عنك مذهباً جميلاً، وأن مالك من عملك ما أحسنت فيه، فأحسن الى إخوانك، واعلم أن الله –عزوجل- سائلك”، وهنا التفاتة دقيقة من الإمام بقوله: “مذهباً جميلاً”، ولم يقل له أنك من شيعتنا ومحبينا وأن عليك الاهتمام بالشيعة والمؤمنين وما أشبه.
وتقول الرواية أن الوالي سمع بخبره، وأنه يحمل رسالة من الإمام اليه، بادر للقاء به خارج المدينة، وأخذ الكتاب منه وقبله، و نفذ ما أوصاه الإمام، ومحى عن الرجل كل ديونه، بل وقضى له حاجاته الاخرى.
الدفاع عن العقيدة حتى النفس الأخير
أميط اللثام عن وجه المأمون بعد استشهاد الامام الرضا، بإعلانه “الاعتزالية” مذهب الدولة الاسلامية، مظهراً ما أخفاه طيلة السنوات الماضية للتخلص من المنظومة الاحكامية والقيمية للإسلام، واستبدالها بمنظومة فكرية جديدة تدّعي التعقّل في معرفة الدين، ومما فعله؛ إجبار الناس على حدّ السيف بأن يؤمنوا بأن القرآن مخلوق وليس آيات نزلت على قلب النبي الأكرم، وليس ثمة شيء اسمه “كلام الله”، حتى النصوص القرآنية بأن الله {كلم موسى تكليما}، أنكره وفق ما توصل اليه شيوخ المعتزلة آنذاك، مدّعين أن كل شيء لا يوافق العقل ليس من الدين بشيء، ومن اجل هذا التصوّر الذهني، سفكت دماء المئات من المسلمين في بقاع عديدة.
في ظل هذه الفتنة السوداء كان الإمام الجواد حريصاً على الرسالة السماوية التي جاء بها جدّه المصطفى بكامل معالمها وتفاصيلها، كما كان حريصاً على الوضع الأمني والهدوء الاجتماعي لاتباعه المؤمنين خاصةً، والمسلمين بشكل عام، لذا أوصى شيعته بعدم الخوض في الجدل هو هذا الموضوع، وعدم الانزلاق في نزاعات فكرية وعقدية مع الآخرين تسبب لهم اضراراً فادحة.
وهذا لا يعني أن الامام الجواد بقي جليس الدار بعيداً عن الناس يكفتي بالزهد والعبادة، إنما فتح أبوابه للسائلين عن كل شيء لاسيما أمور العقيدة، فقد نُقل في التاريخ أن رجلاً سأله فقال: أخبرني عن الربّ –تبارك وتعالى- وعن أسمائه وصفاته في كتابه، هل أسماؤه وصفاته هي هو؟ فأجاب الامام الجواد: إن لهذا الكلام وجهين: إن كنت تقول: هي هو –أي ذو عدد وكثرة- فعتالى الله عن ذلك، وإن كنت تقول: هذه الصفات والاسماء لم تزل، فان لم تزل، محتمل معنيين: فأن قلت: لم تزل عنده في علمه وهو مستحقها فنعم، وإن كنت تقول: لم يزل تصويرها وهجاؤها وتقطيع حروفها، فمعاذ الله أن يكون معه شيء غيره، بل كان الله ولا خلق، ثم خلقها وسيلة بينه وبين خلقه، يتضرعون بها اليه ويعبدونه، وهي ذكره، وكان الله ولا ذكر.
ثم سأله الرجل: فكيف سمينا ربنا سميعاً؟ فقال له الإمام: لأنه لا يخفى عليه ما يُدرك بالاسماع، ولم نصفه بالسمع المعقول في الرأس، وكذلك سميناه بصيراً لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالأبصار من لون او شخص او غير ذلك.
الرواية طويلة، لمن يشأ المزيد ثمة مصادر تاريخية عديدة منها؛ كتاب الامام محمد بن علي الجواد، ضمن سلسلة الأئمة الاثني عشر، للشيخ محمد حسن آل ياسين.
بهذه اللغة العلمية والمنطقية بين الامام الجواد حقائق الدين الناصعة للناس بما لا يسمح لأحد المماراة، أو إلصاق تهمة معينة عليه، فما كان يتحدث به يُعد حجج بالغة وبراهين قاطعة يلتقي عندها العقل مع النقل، فلا حجة للآخرين والمتصيدين بالتطاول والإساءة او فتح جبهة ضد جبهة الحق.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/ahlalbayt/37717