الامام الكاظم (ع) ومجابهة الانحراف والتضليل الديني

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

 

ومع الصورة الناصعة لأدب المجاملة الفاعل لدي الامام، وحفاظه المتكامل على شعيرة التقية الواجبة، الا أننا نجده وبإصرار قد يجابه المركز الأول في السلطة مجابهة صريحة صارمة، اذا اقتضت الضرورة الدينية ذلك، واذا كان لابد من الاصحار بالرأي الخارق للأباطيل.

نلمس هذا الاتجاه عند الامام متجاوب الأصداء اذا حاذر من التضليل الديني وخداع المسلمين، ليصد بذلك الانحراف المتعمد، ويصون الحقيقة الكبرى من الابتذال والضياع.

ومبدأ المجابهة لإعلاء كلمة الحق لدي الامام من خصائصه الثابتة التي أذهلت الكثيرين في عصره، لأنها ـ عادة ما ـ تكون بأشد اللحظات حراجة، وعند أصعب المجالات محاججة، وهي قد تستلزم التضحية، وتتطلب الجرأة العالية، وتعني قطع خطوط العلاقات القائمة.

وسجل الامام موسى بن جعفر (عليه ‌السلام) حافل بهذا التوجه الفريد اذ كان لابد منه لتمييز الواقع عن الدجل، وتخليص الحق من الشوائب، وكشف الأقنعة دون محاباة.

فحينما دخل الرشيد المدينة توجه الي زيارة النبي (صلي الله عليه وآله) ومعه الناس، فتقدم الرشيد نحو القبر وقال:

السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يابن العم ـ مفتخرا بذلك على غيره ـ فتقدم الامام موسى بن جعفر الي القبر، وقال:

السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبتاه.

فتغير وجه الرشيد، وتبين الغيظ فيه (1).

ان الملاحظ الدقيق لهذه الحادثة يشير الي أن الرشيد أراد اضفاء صيغة الشرعية على خلافته، لأنه ابن عم رسول الله (صلي الله عليه وآله) فأراد الامام ابطال ذلك، واحتج على الرشيد بلغته نفسها، فسلم على النبي (صلي الله عليه وآله) باعتباره أباه، فهو أولى بالشرعية ـ اذن ـ من الرشيد.

وكان الرشيد كثيرا ما يفتح الحوار مع الامام، بيد أنه يتحرى مواطن الاحراج في ذلك، وكان الامام بين خيارين: اما أن يغضب السلطان، واما أن تشوه الحقائق، فكان الامام (عليه ‌السلام) يختار الخيار الأول، وكان هذا قدره عند الحاكمين.

قال الرشيد للإمام: لم زعمتم أنكم أقرب الي رسول الله (صلي الله عليه وآله) منا، وأنتم بنو علي… والنبي جدكم من قبل أمكم؟

فقال الامام: لو أن النبي (صلي الله عليه وآله) نشر فخطب اليك كريمك هل كنت تجيبه؟

فقال الرشيد: سبحان الله! ولم لا أجيبه؟ بل أفتخر علي العرب والعجم وقريش بذلك.

فقال الامام: لكنه (عليه ‌السلام) لا يخطب الي، ولا أزوجه.

فقال: لم؟

فقال الامام: لأنه ولدني ولم يلدكم (2).

وفي رواية: ان الامام قال للرشيد في هذه المسألة أو سواها:

هل يجوز أن يدخل على حرمك ـ يعني النبي ـ وهن منكشفات؟

فقال لا، قال الامام: لكنه يدخل على حرمي كذلك، وكان يجوز له (3).

ويبدو أن مسألة النسب كانت الذريعة الوحيدة لبني العباس، لإثبات أنهم أولي بالنبي من أهل بيته، لكثرة ما سألوا الامام عن ذلك عسي أن يفحم، ولكنهم كانوا في وهم، فمتى كل الأئمة عن الاجابة في شيء؟

سأل الرشيد الامام: كيف قلتم أنا ذرية النبي، والنبي لم يعقب، وانما العقب للذكر لا للأنثي، فائتني بحجة من كتاب الله…

فقال الامام: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين ـ وزكريا ويحيي وعيسي…) (4).

من أبو عيسي؟ فقال: ليس لعيسى أب.

فقال الامام: «انما ألحقناه بذراري الأنبياء (عليهم ‌السلام) من طريق مريم وكذلك ألحقنا بذراري النبي (صلي الله عليه وآله) من قبل أمنا فاطمة.

وزاده الامام قوله (تعالى): (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) (5).

ولم يدع أحد أن النبي أدخل تحت الكساء الا علي بن أبي ‌طالب، وفاطمة، والحسن والحسين، وكان تأويل قوله عزوجل «أبناءنا» الحسن والحسين، ونساءنا فاطمة، وأنفسنا علي بن أبي ‌طالب، ان العلماء قد (صفحه 218) أجمعوا على أن جبرئيل قال يوم أحد: يا محمد ان هذه لهي المواساة من علي. قال: لأنه مني وأنا منه، فقال جبرئيل: وأنا منكما يا رسول الله، ثم قال: لا سيف الا ذوالفقار ولا فتي الا علي…» (6).

وكان الرشيد قد جند لقضية البنات ووراثة الأعمام شعراء البلاط العباسي وفقهاء السلاطين، لإثبات أن قرابتهم للنبي أولي من قرابة أئمة أهل البيت (عليهم‌ السلام)، وقد تولي كبر ذلك مروان بن أبي ‌حفصة قائلا:

أني يكون وليس ذاك بكائن

لبني البنات وراثة الأعمام

فرده جعفر بن عفان الطائي، وكان يلعن مروان ويقبح قوله، وأجابه:

لم لا يكون وان ذاك لكائن

لبني البنات وراثة الأعمام

للبنت نصف كامل من ماله

والعم متروك بغير سهام

ما للطليق… وللتراث…

وانما صلى الطليق مخافة الصمصام (7).

وهي قضية باءت بالفشل، ولم تكن لتنطلي على الشعب المسلم.

وكان الأسلوب الاستفزازي للرشيد الذي يجابه به الامام، يدعو الامام أن يجيب بصراحة متناهية، وذلك بسبب من الاحراج الكبير الذي تثيره هذه الأسئلة، فتجعل الامام مضطرا لبيان الأمر الواقع على حقيقته المجردة، ولكنه يسنده الي القرآن العظيم الذي هو عدله.

قال الرشيد للإمام موسى بن جعفر: أسألك عن العباس وعلي، بم صار علي أولى بميراث رسول الله (صلي الله عليه وآله) من العباس، والعباس عم رسول الله، وصنو أبيه؟

قال الامام: «ان النبي (صلي الله عليه وآله) لم يورث من قدر على الهجرة فلم يهاجر، وان عليا (عليه ‌السلام) آمن وهاجر، وقال الله:

(والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتي يهاجروا)» (8) «فالتمع وجه الرشيد وتغير» (9).

وأضاف في البحار، فسأله الرشيد: أسألك يا موسى، هل أفتيت بذلك أحدا من أعدائنا؟ أو أخبرت أحدا من الفقهاء في هذه المسألة بشيء؟

فقال الامام: «اللهم لا….» (10).

وتارة أخري يحرج الرشيد الامام بتنطعه في السؤال، وقد يستعفيه الامام من ذلك، ولكن الرشيد يصر اصرارا كبيرا، ويعطي الامام الأمان، فكان لابد للإمام من الجواب.

قال الرشيد: لم ادعيتم أنكم ورثتم النبي (صلي الله عليه وآله) والعم يحجب ابن العم، وقبض رسول الله (صلي الله عليه وآله) وقد توفي أبو طالب قبله والعباس حي؟…

قال الامام: ان في قول علي بن أبي ‌طالب (عليه ‌السلام): اذ ليس مع ولد الصلب ـ ذكرا كان أو أنثي ـ لأحد سهم الا للأبوين والزوج والزوجة، ولم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث، ولم ينطق به الكتاب (11).

وبمثل هذا العنت، وبمثل هذه الأسئلة، وبمثل هذه الاجابة، كان قلب الرشيد يمتلئ حقدا على الامام، والامام يعلم ذلك، ولا يستطيع الا قول الحق، اذ ليس مما ليس منه بد، وهكذا يشكل الامام موقفا حاسما لا تردد فيه ولا اضطراب.

ولم تكن مجابهة الامام (عليه ‌السلام) لفقهاء البلاط العباسي بأقل شأوا من مجابهته للسلاطين، فقد أورد الشيخ المفيد: ان محمد بن الحسن الشيباني سأل الامام موسى بن جعفر بمحضر من الرشيد وهم بمكة؛ قال له: أيجوز للمحرم أن يظلل عليه محمله؟

فقال الامام (عليه ‌السلام): لا يجوز له ذلك مع الاختيار. فقال محمد بن الحسن: أفيجوز أن يمشي تحت الظلال مختارا؟

فقال له الامام: نعم، فتضاحك محمد بن الحسن من ذلك.

فقال له الامام الكاظم (عليه ‌السلام): أفتعجب من سنة النبي (صلي الله عليه وآله) وتستهزي‌ء بها؟ ان رسول الله (صلي الله عليه وآله) كشف ظلاله في احرامه، ومشي تحت الظلال وهو محرم، وان أحكام الله يا محمد لا تقاس، فمن قاس بعضها على بعض فقد ضل سواء السبيل. فسكت محمد بن الحسن لا يرجع جوابا (12).

وقد يفجأ الامام هؤلاء بنوع من علمه لا تصل اليه أحلامهم، ولا ترقي الي ادراكه عقولهم، فقد ورد في عدة مصادر:

أن أبا يوسف القاضي ومحمد بن الحسن الشيباني زار الامام في السجن، وقال أحدهما للآخر: نحن على أحد أمرين؛ اما أن نساويه أو نشكله، فجلسا بين يديه، فجاء رجل كان موكلا بالإمام من قبل السندي، فقل: ان نوبتي قد انقضت وأنا على الانصراف، فان كان لك حاجة أمرتني حتي آتيك بها في الوقت الذي تخلفني النوبة؛ فقال: مالي حاجة.

فلما أن خرج، قال الامام لأبي ‌يوسف وصاحبه:

ما أعجب هذا؟ يسألني أن أكلفه حاجة من حوائجي ليرجع، وهو ميت في هذه الليلة!!

فقاما، وقال أحدهما للآخر: انا جئنا لنسأله عن الفرض والسنة؛ وهو الآن جاء بشيء آخر كأنه من علم الغيب!!

ثم بعثا برجل مع الرجل، فقالا: اذهب حتى تلزمه، وتنظر من أمره في هذه الليلة… فمضي الرجل فنام في مسجد في باب داره، فلما أصبح سمع الناعية ورأي الناس يدخلون داره، فقال: ما هذا؟

قالوا: مات فلان في هذه الليلة… فانصرف الرجل الي أبي ‌يوسف ومحمد وأخبرهما الخبر، فأتيا أبا الحسن (عليه ‌السلام)، فقالا: قد علمنا أنك أدركت العلم في الحلال والحرام، فمن أين أدركت أمر هذا الرجل الموكل بك أنه يموت الليلة؟

قال الامام (عليه ‌السلام): من الباب الذي أخبر بعلمه رسول الله (صلي الله عليه وآله) علي بن أبي‌ طالب (عليه ‌السلام).

فلما رد عليهما هذا، بقيا لا يحيران جوابا (13).

وهذا باب ملتئب لدي الامام فيه عشرات الأحداث شواهد على الاخبار بعلم المنايا وآجال الناس، وكأنها مرهونة بكلامه، ولا تخطي‌ء ولا مرة واحدة، ودلائلها منتشرة في أمهات المصادر، وقد تقدم قسم كبير منها علم الامام الموهبي، ومنها:

عن اسحاق بن عمار، قال: سمعت العبد الصالح أبا الحسن (عليه ‌السلام) ينعى الي رجل نفسه، فقلت في نفسي: وانه ليعلم متى يموت الرجل من شيعته؟

فقال الامام شبه المغضب: يا اسحاق قد كان رشيد الهجري يعلم علم المنايا والبلايا، فالإمام أولى بذلك (14).

وفي رواية أخري عن اسحاق أيضا قال:

كنت عند أبي ‌الحسن (عليه ‌السلام)، ودخل عليه رجل فقال له أبو الحسن: يا فلان انك تموت الى شهر.

قال: فأضمرت في نفسي كأنه يعلم آجال شيعته؟

فقال الامام: «يا اسحاق، وما تنكرون من ذلك؟ وقد كان رشيد الهجري مستضعفا، وكان يعلم علم المنايا والبلايا، فالامام أولى بذلك، ثم قال، يا اسحاق تموت الى سنتين، ويتشتت أهلك وولدك وعيالك، وأهل بيتك…» (15).

ولا نريد الاسترسال في هذا الشأن لئلا نخرج عن صلب الموضوع.

وفي ضوء ما تقدم يبدو لنا أن الامام في اللحظات الحاسمة؛ لا يتردد مطلقا في ابداء الحقائق مجردة حذر التضليل.

* مقتطف من كتاب الإمام موسى بن جعفر (ع) ضحية الإرهاب السياسي

………………………….
(1) الطبرسي / الاحتجاج / 214، البحار 48 / 103.
(2) ظ: المجلسي / بحارالأنوار 48 / 127 ـ 128.
(3) ظ: الآبي / نثر الدر 1 / 359.
(4) سورة الأنعام / 84 ـ 85.
(5) سورة آل‌عمران / 61.
(6) الصدوق / عيون أخبار الرضا 1 / 81، البحار 48 / 128.
(7) ظ: الأصبهاني / الأغاني 10 / 94 وما بعدها.
(8) سورة الأنفال / 72.
(9) ابن شعبة / تحف العقول / 302.
(10) المجلسي / بحارالأنوار 48 / 127.
(11) المصدر نفسه 48 / 126.
(12) الشيخ المفيد / الارشاد / 334 ـ 335.
(13) ظ: الراوندي / الخرائج والجرائح / 202، البحار 48 / 64 ـ 65.
(14) الصفار / بصائر الدرجات 6 / 73.
(15) المجلسي / البحار 48 / 54 عن المصدر السابق 6 / 73.

 

.

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/ahlalbayt/30279

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M