في ضوء الزيارة التي قام بها العاهل الأردني الملك “عبد الله الثاني” للجزائر في الثالث من ديسمبر 2022، طرح عدد من التقارير الأوروبية (الإسبانية على وجه الخصوص) مساعي أردنية للوساطة بين المغرب والجزائر لحل الأزمة الدبلوماسية الناشبة بين الطرفين منذ عام 2021، وما تبعها من إجراءات تصعيدية متبادلة بين الجانبين.
ولعل هذه الزيارة تأتي في ضوء تفاقم حدة التصدعات الجزائرية المغربية وكذلك الإسبانية، في ضوء المتغيرات الخاصة بقضية الصحراء الغربية وكذلك في ضوء الاستقطابات الراهنة في معادلة الطاقة والتنافر الجزائري الأوروبي بهذا الشأن، مع توثيق علاقتها مع إيطاليا بشأن مزيد من ضخ الغاز إليها، حيث تأتي زيارة الملك “عبد الله” للجزائر في إطار جولة تضمنت مصر وإيطاليا.
دلالات متباينة
بالنظر إلى زيارة الملك الأردني للجزائر يمكن القول إنها جاءت لكي تحيي العلاقات الثنائية بين البلدين بعدما شهدت حالة من الفتور في ضوء تراجع الدبلوماسية الجزائرية عن الدائرة العربية بصورة عامة، وحملت في طياتها دلالات متعددة يمكن توضيحها في الآتي:
الإقرار بالتواجد الأردني في المعادلة الفلسطينية: أحد أهداف ودلالات الزيارة يكمن في الرغبة الأردنية في تثبيت تواجدها في المعادلة الفلسطينية كمرتكز رئيسي في هذا الملف، خاصة وأن الزيارة تأتي في أعقاب استضافة الجزائر للقمة العربية الحادية والثلاثين نهاية أكتوبر 2022 وسبقها انخراط متزايد للجزائر على خط المصالحة الفلسطينية ونجاحها في التوصل لتفاهمات بين الفصائل الفلسطينية (في مقدمتها حركتا فتح وحماس) والتوقيع على ما يُعرف باسم “إعلان الجزائر” في الخامس عشر من أكتوبر 2022 متضمنًا الالتزام بإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في غضون عام، ولعل هذه الزيارة تكتسب أهمية دبلوماسية خاصة فيما يتعلق بالتباحث بشأن المخرجات الناجمة عن القمة العربية المُشار إليها والمنتهية بأهمية تشكيل تكتل عربي للدفاع عن حق فلسطين في عضوية كاملة داخل الأمم المتحدة.
إحداث توازن في العلاقات المغربية الجزائرية: وذلك في ضوء قيام الأردن بافتتاح قنصلية لها في مدينة العيون في شهر مارس 2021، مما أزم الموقف الجزائري الأردني، ونتيجة للثقل الجيواستراتيجي للجزائر فإن الأردن يرغب في التفاعل ببراجماتية في العلاقة الثنائية مع البلدين.
تمدد السياسة الخارجية الأردنية في ضوء تزايد الضغوطات الاقتصادية: أحد أهم دلالات الزيارة هو البعد الاقتصادي خاصة في ظل الضغوطات الاقتصادية العالمية على خلفية الصراع الروسي الأوكراني، وبرز هذا الهدف عبر التأكيد المتبادل لزيادة التبادل التجاري وأهمية تشجيع المستثمرين ورجال الأعمال لبحث فرص الاستثمار داخل المجالات الاقتصادية والتجارية، كما تم التوقيع على اتفاقية حول الإعفاء المتبادل من التأشيرات لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية، وتجدر الإشارة إلى أن الأردن يُعد الشريك السادس للجزائر بحجم تبادل تجاري إجمالي يصل لنحو 219.24 مليون دولار في عام 2021، إضافة لذلك فقد تم انعقاد منتدى الأعمال الجزائري – الأردني في يونيو 2022 لبحث فرص الاستثمارات البينية كما تم بحث إمكانية إمداد الجزائر للأردن بالنفط الخام والغاز الطبيعي المسال وغاز البترول المسال وكذلك توزيع وتخزين المنتجات البترولية في الأردن في ضوء المحادثات التي جمعت بين وزير الطاقة والمناجم الجزائري ووزير الصناعة والتجارة والتموين الأردني في يونيو 2022، ويهدف هذا التحرك بصورة عامة لإرساء شراكة اقتصادية بين البلدين.
توظيف العلاقات في إطار الأحلاف الجديدة: إن المتطلع للتحركات الأردنية في الآونة الأخيرة يجد أنها تأتي في إطار التحالفات التي باتت تفرضها المعادلة الدولية وفي العمق منها الحرب الروسية الأوكرانية، سواء أكان لتوظيف العلاقات لمصالح اقتصادية أو أمنية، ومن منطلق كون الأردن ضلعًا رئيسيًا في محور أو تكتل “الشام” الذي يضم (مصر والعراق والأردن)، يتماشى مع تطلعات الجزائر للانفتاح على الدائرة العربية بعدما انخرطت مؤخرًا في الدائرة الأفريقية والأوروبية، فهي تسعى للتعويل على دبلوماسية نشطة خارجيًا في كافة الدوائر الإقليمية، ونتيجة لمحورية الجزائر وأهميتها الجيواستراتيجية في البحر المتوسط، تسعى الأردن لإعادة تنشيط علاقتها مع الجزائر وما يُفسر دخول الطاقة في خضم التفاعلات المستقبلية هو إلحاق زيارة الجزائر بزيارة مماثلة لإيطاليا التي شهدت تناميًا في علاقتها مع الجزائر، وتجلى ذلك في التباحث الراهن بين الجانبين لإعادة تفعيل مشروع الربط الكهربائي عن طريق الكابلات البحرية بين الجزائر (الشافية) وإيطاليا (سردينيا) بقدرة تصل لنحو 2000 ميجاوات، إلى جانب قيام الجزائر بزيادة إمدادات الغاز إلى إيطاليا بنحو 9 مليارات متر مكعب سنويًا وذلك في الحادي عشر من أبريل 2022.
تصدر المشهد الإقليمي: أحد الأهداف غير المباشرة هو التسويق للأردن كقوة إقليمية فاعلة في المناطق الحرجة، وتصدرها المشهد فيما يتعلق بالترويج لفكرة الوساطة بين المغرب والجزائر، ولعل الزيارة تأتي كاشفة لإمكانية حدوث اختراق للجمود الدبلوماسي المغرب الجزائري من ناحية، وتعقد العلاقات الجزائرية الأوروبية من ناحية ثانية، حيث إن الزيارة جاءت لتسبق ترتيبات وتنسيقات تُجرَى لتقارب أوروبي مغربي على حساب المصالح الجزائرية، منها زيارة الممثل الأعلى للشئون الخارجية في الاتحاد الاوروبي “جوزيف بوريل” للرباط في الرابع من يناير الجاري، وكذلك التنسيقات الجارية بشأن قمة ثنائية مغربية إسبانية مرتقبة تزامنًا مع ترأس مدريد للاتحاد الأوروبي.
وساطة جزئية وفرص محدودة
بالنظر إلى التقارير الصادرة من الإعلام الإسباني، وإذا ما كان هناك احتمال للوساطة الأردنية بين الجانبين، يمكن القول إنها وساطة جزئية تتعلق بإعادة استئناف خط الغاز الجزائري المغربي الأوروبي بصورة خاصة دونما التطرق إلى القضايا الحرجة وعلى رأسها قضية الصحراء الغربية في ظل استمرارية الدعم الدولي للمغرب في طرح مبادرة الحكم الذاتي مع إعلان السيادة المغربية على الصحراء وآخرها الموقف الإسباني، لذا فإن فرص تحقيقها ضئيلة وبرز ذلك في التداول الإعلامي لما يتم طرحه بشأن الوساطة ورفضها من جانب القيادات العسكرية.
فالمبادرات الخاصة بالمصالحة المغربية الجزائرية الشاملة لا تحظى باهتمام من جانب الجزائر على وجه الخصوص، وبرز ذلك بشكل كبير في رفض ثلاث وساطات عربية – سعودية وإماراتية قطرية منذ عام 2021 وقبيل انعقاد القمة العربية نهاية عام 2022. الشاهد الآخر على فشل الوساطة الأردنية فيما يتعلق بملف الصحراء هو قيام عمان بافتتاح قنصلية لها في مدينة العيون بالصحراء الغربية مما يُترجم على أنه اعتراف ضمني بالسيادة المغربية على تلك المنطقة.
ولعل التصريحات التي أطلقها الرئيس عبد المجيد تبون خلال حوار مع وسائل الإعلام المحلية في 22 ديسمبر 2022 جاءت لتقطع الطريق أمام أي محاولات للتهدئة مع الرباط على كافة الملفات، حيث وصّف حينها بأن العلاقات مع المغرب تجاوزت مستوى اعتماد وساطة للصلح، وهو التوجه الذي يتماشى مع ما تتبناه الجزائر مؤخرًا من اعتبار المغرب عدوًا استراتيجيًا لها، ويفهم من هذا الأمر أن الأزمة ستتمدد بين الجزائر والمغرب ولا تزال في قالب التجميد وعدم القدرة على اختراقها، خاصة مع تبعات غياب الملك محمد الخامس عن القمة العربية الأخيرة التي احتضنتها الجزائر.
وفي التقدير؛ فإن وضعية التأزم في ملف الطاقة داخل المشهد الأوروبي مع استمرارية الأزمة الروسية الأوكرانية، وكذلك تأخر تدفقات الغاز من الخطوط الناشئة حديثًا سواء أكان على صعيد المغرب ونيجيريا أو الجزائر ونيجيريا، تعوّل الدول الأوروبية وعلى رأسها إسبانيا في تهدئة العلاقات مع الجزائر والمغرب من ناحيتها وبين الجزائر ومدريد من ناحية أخرى، من خلال الرسائل المبطنة التي تحتويها التقارير الإعلامية الإسبانية التي تزايدت بصورة كبيرة قبيل وإبان زيارة الملك عبد الله الثاني للجزائر.
ولكن تبقى العلاقات الجزائرية المغربية في حالة تأزم، وإذا ما صحت التقديرات الخاصة بوساطة الأردن بين طرفي الأزمة، فإن انفراجة الأزمة ستكون في بعدها الطاقوي أي إعادة فتح خط الغاز الجزائري الأوروبي المار عبر الأراضي المغربية، دونما التطرق لإعادة التمثيل الدبلوماسي أو حتى امتداد تلك التهدئة لمعالجة مماثلة مع الجزائر وإسبانيا، في ضوء اتخاذ الأخيرة موقف داعم لسيادة المغرب على الصحراء الغربية.
وتبقى زيارة العاهل الأردني قابعة تحت مظلة البراجماتية الإقليمية فيما يتعلق بالتعاون الاقتصادي والتجاري وكذلك الطاقوي، علاوة على التنسيق بشأن الملف الفلسطيني والتنسيق بشأن ترتيبات المرحلة المقبلة لمتابعة مخرجات القمة العربية الماضية.
.
رابط المصدر: