خورخي كاستانييدا
مكسيكو سيتي ــ وَرَدَ في الأثر أن هنري جيمس قال ذات يوم: “إذا فَـرَكـت أوروبا، ستجد التاريخ. وإذا فركت الولايات المتحدة فستجد الجغرافيا”. يتجلى هذا الافتقار إلى الحس المشترك بالتاريخ في أميركا بوضوح شديد اليوم في الاحتجاجات ضد الظلم العنصري العميق الجذور والمناقشات حول إزالة المعالم التذكارية الكونفدرالية والأسماء التي تكرم القادة السياسيين العنصريين.
بالمقارنة بشعوب أخرى، يُـعَـد تاريخ الأميركيين المشترك قصيرا للغاية. كانت دوافع أولئك الذين استعمروا ــ وهاجروا لاحقا إلى ــ أميركا الشمالية متنوعة، سواء كانت دينية، أو سياسية، أو اقتصادية. لكنهم في كل الأحوال تقريبا، كانوا يفرون من ماضيهم.
عندما وصلوا إلى العالم الجديد، لم يتعلق المستوطنون بتاريخ أو ثقافة الشعوب الأصلية. كان سكان أميركا الأصليون بدوا، غير منظمين، ومعزولين، وكان اتصالهم ضئيلا بالمستوطنين الإنجليز والهولنديين، الذين أسسوا مستعمراتهم على الأراضي التي استولوا عليها ثم كبسوا عمليا زر “إعادة تشغيل” تاريخهم.
لكن القصة أكثر تعقيدا في حقيقة الأمر. في أوائل القرن السابع عشر، عندما ظهر التبغ كمحصول يدر عوائد نقدية كبيرة في فرجينيا، اشترى المستوطنون العبيد من أفريقيا. وقد استؤصِـل تاريخ العبيد الأفريقي، لكن تجربتهم في العالم الجديد كانت مختلفة تمام الاختلاف عن تجربة مالكي العبيد.
هذا يعني أن الولايات المتحدة كانت عندما حققت الاستقلال في القرن الثامن عشر تفتقر إلى أساس مشترك. في إعادة صياغة لكلمات توكفيل نستطيع أن نقول إن الولايات المتحدة ولدت متأخرة، وبدون تاريخ في مستهل الأمر. الواقع أن الولايات المتحدة لم يكن لديها ذاكرة مشتركة تتحدث عنها حتى أواخر القرن التاسع عشر، بعد أن كتب جورج بانكروفت تاريخا ــ من إحدى النواحي، كما لاحظت جيل ليبور، لتحويل أمة إلى دولة قومية.
لكن الولايات المتحدة ظلت تفتقر إلى بعض الركائز الأسطورية التي تقوم عليها الأمم: أصل مشترك، وماض مشترك، ومسار مشترك من الماضي إلى الحاضر. يميل الأفراد والمجتمعات إلى إهمال ما يفتقرون إليه. لهذا السبب، بينما يستشهد الأميركيون غالبا ببعض الأساطير التأسيسية، فإن المنظور التاريخي نادرا ما يظهر في الخطاب العام أو الخطاب السياسي، ناهيك عن المحادثات اليومية.
يمتد هذا إلى أعلى مستويات صنع القرار ــ مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة. لنتأمل هنا عالم السياسة الخارجية. كان تاريخ فيتنام ــ من صراعاتها مع الصين قبل قرون من الزمن إلى مقاومتها للفرنسيين في بداية عشرينيات القرن العشرين ــ من المفترض أن يقنع الرئيسين جون ف. كينيدي وليندون جونسون بمقاومة التورط في حرب فيتنام. على نحو مماثل، كان من الواجب أن يُـظـهِـر تاريخ أفغانستان ــ بدءا بقائمة طويلة من الغزاة الأجانب الذين قهرتهم طبيعتها الجغرافية القاسية ــ للرئيس جورج دبليو بوش أن شن حرب شاملة هناك تصرف عقيم لا طائل منه. في الحالتين، كان قادة الولايات المتحدة ومستشاروهم يعرفون التاريخ، لكنهم تجاهلوه.
من المؤكد أن الدول التي تتمتع بتاريخ أطول وحس أكثر تطورا بالتاريخ وجدت ذاتها أيضا غارقة في حروب بلا نهاية؛ ومن الأمثلة الواضحة هنا مغامرات فرنسا الكارثية في فيتنام والجزائر. وليس هناك ما يضمن أن الولايات المتحدة كانت لتتجنب أخطاءها في فيتنام وأفغانستان لو كانت أكثر وعيا بالتاريخ.
ولكن في غياب عنصر التاريخ، يفتقد الأميركيون شيئا ما ــ ويبدو أنهم يشعرون بذلك. في بعض الأحيان اخترع الأميركيون التاريخ الذي يفتقرون إليه، فحولوا الأفراد أو الأحداث إلى نُـصُـب تذكارية، واحتفالات، وذاكرة، وغالبا بعد فترة طويلة من حياة الأفراد أو وقوع الأحداث. فقد نصبت كل التماثيل تقريبا التي تكرم شخصيات كونفدرالية في مختلف مدن الجنوب الأميركي ــ أكثر من 700 ــ بعد إعادة الإعمار في أواخر خمسينيات القرن العشرين.
اليوم، بدأ الأميركيون يدركون على نحو متزايد التناقضات التي تحملها القصص التي قيلت لهم ويسلطون الضوء عليها، وخاصة في ما يتعلق بالـعِـرق. وقد أصبح هذا وقودا لاشتباكات اليوم السياسية، والإيديولوجية، والدينية، والـعِـرقية حول حقيقة ــ ومعنى ــ ماضي أميركا.
تشمل المجادلات التاريخية الحالية بشكل رئيسي الحرب الأهلية والعبودية. لكنها تمتد إلى العديد من الوقائع الأخرى، بما في ذلك القضاء على مجتمعات الأميركيين الأصليين، ومعسكرات احتجاز اليابانيين أثناء الحرب العالمية الثانية، وقانون إقصاء الصينيين.
تُـعَـد الكتب المدرسية واحدة من ساحات المعارك الحاسمة في هذه الحروب التاريخية. على سبيل المثال، في بعض المناطق التعليمية، جرى حظر كتب التاريخ المدرسية التي تؤكد أن الحرب الأهلية كانت في الأساس حربا ضد العبودية ــ على وجه التحديد، الرغبة في الحفاظ على نظام اقتصادي يعتمد على العمل القسري. وتصر الكتب المدرسية التي تستخدمها هذه المناطق على أن الصراع كان يدور في حقيقة الأمر حول حقوق الولايات.
على نحو مماثل، كانت أسطورة معركة ألامو في عام 1836 محل خلاف. في تكساس، أصبحت القصة رمزا لما يسمى المقاومة “البطولية” من قِـبَـل مقاتلي الحرية من أجل تكساس للقمع وكفاحهم من أجل الاستقلال عن المكسيك. وهكذا كانت تلك الواقعة تُـدَرَّس في مدارس الولاية لفترة طويلة.
لكن هذا التفسير يتجاهل ما كان المدافعون عن ألامو يقاتلون من أجله: جمهورية مستقلة حيث يملكون الحق في امتلاك العبيد. (في ذلك الوقت، كان أكثر من ربع سكان الولاية الناطقين باللغة الإنجليزية مستعبدين، وكانت الحصة في ازدياد). الواقع أن “الأبطال” المفترضين كانوا غالبا من المرتزقة الذين استجابوا لدعوات من تجار العبيد في نيو أورليانز، وأوامر سرية من قِـبَـل الرئيس أندرو جاكسون، الذي سعى في نهاية المطاف إلى ضم الإقليم.
لهذا السبب، في عام 2018، نصحت مجموعات عمل من المعلمين والمؤرخين مجلس التعليم في ولاية تكساس بإزالة مصطلح “البطولية” من كتب الصف السابع. بعد مناقشة مطولة وعاطفية، تقرر الإبقاء على المصطلح. وكانت المقاومة كبيرة للغاية من جانب حاكم ولاية تكساس جريج أبوت، بين آخرين.
رغم أن شيئا لم يتغير في هذه الحالة، فعندما يستحق التاريخ أن نقاتل من أجله، يبدأ في التواجد. ومن الأهمية بمكان أن نعلم أن الكفاح يدور الآن في التيار الرئيسي لوسائل الإعلام والدوائر السياسية والثقافية الأميركية، وليس على هامش الأوساط الأكاديمية، كما كانت الحال في الماضي. الآن يحدوني الأمل في أن ترقى مناقشات ومناظرات اليوم إلى ما هو أكثر من مجرد ألعاب نارية حزبية، وأن تبشر بدلا من ذلك بقدوم التاريخ في السرد التاريخي الأميركي.
هذا التعليق مقتبس من كتاب “أميركا في عيون أجنبية”.
* خورخي ج. كاستانييدا، وزير خارجية المكسيك الأسبق، وهو أستاذ في جامعة نيويورك ومؤلف كتاب “أمريكا من خلال عيون أجنبية”.
https://www.project-syndicate.org
رابط المصدر: