التحليق في أجواء محمومة: تحديات صناعة الطيران المدني الصينية وآفاقها

  • تظل صناعة الطيران المدني الصينية أقل تطوراً بكثير مقارنة بنظيرتيها الأمريكية والأوروبية، لكن الصين تسعى إلى تغيير ذلك من خلال تبني استراتيجية تهدف لكسر احتكار الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي صناعة الطيران المدني العالمية. 
  • تعتمد استراتيجية الصين للتنافس مع القوى الغربية في قطاع صناعة الطيران المدني على مزيج من الدعم الحكومي ونقل التكنولوجيا والابتكار، ضمن خطط بيجين لتحقيق الاعتماد الذاتي في التكنولوجيا والتنافس مع القوى الغربية.
  • سيعتمد مستقبل صناعة الطيران المدني الصينية على الكيفية التي ستتغلب بها بيجين على التحديات التي تواجه هذه الصناعة، وأهمها تحدي صناعة المحركات، والتقلبات الجيوسياسية، وعدم تنوّع الموديلات، وقاعدة الدعم الضيقة، وتحديات الإنتاج والتسويق. 
  • سيتوقف مسار صناعة الطيران المدني الصينية ووتيرتها على العوامل الخارجية بشكل مباشر، أكثر من العوامل الداخلية، أقلّه حتى عام 2030. 

 

في 28 مايو 2023 حلَّقت الطائرة «سي 919» المطورة في الصين، في أول رحلة تجارية لها على الإطلاق، وهو ما مثَّل منعطفاً مهماً في مسار صناعة الطيران المدني الصينية، إذ إنها أول طائرة محلية الصنع من فئة الطائرات الكبيرة ضيقة البدن وذات الممر الواحد. وفي فبراير الماضي، ظهرت الطائرة في عرض جوي في سنغافورة ضمن محاولات بيجين لتسويقها خارجياً، بالتزامن مع عقبات تواجه تصنيع الطائرة الأكبر حجماً «سي آر 929».

 

تُسلِّط هذه الورقة الضوء على مسار صناعة الطائرات التجارية الصينية، واستراتيجية الصين للتنافس مع الشركات الغربية، والتحديات التي تواجهها، إلى جانب السيناريوهات المتوقعة للصناعة خلال العقدين المقبلين.

 

مسار صناعة الطيران في الصين

لا يزال من الممكن النظر إلى صناعة الطيران المدني الصينية باعتبارها في مرحلة التطور، وبالطبع أقل تطوراً بكثير مقارنةً بالصناعة في الولايات المتحدة وأوروبا. ورغم وضع الأسس الأولى لصناعة الطيران الصينية منذ تأسيس “مكتب القيام بالتحضيرات للمسائل المتعلقة بالطيران” عام 1918، وتأسيس “إدارة الطيران المدني” الصينية بالتزامن مع تأسيس جمهورية الصين الشعبية في 1949، ظل التركيز خلال هذه الفترة على صناعة الطيران العسكرية، فيما أُهمِلَ الطيران المدني بسبب سيطرة جيش التحرير الشعبي على القطاع بشكل عام.

 

في خلال هذه الفترة أيضاً، هيمنت على صناعة الطيران المدني الصينية التكنولوجيا القادمة من الاتحاد السوفييتي، الذي كان الحليف الوحيد بالنسبة للصين الذي يمتلك تكنولوجيا الطيران المتطورة، إلى حين الانفصال بين الحليفين عام 1966، الذي تزامن مع قيام “الثورة الثقافية” الصينية. ومنذ ذلك الوقت حتى عام 2002 دخلت الصين حقبة وضع الأسس التنظيمية للصناعة (منذ 1980)، ومرحلة “الهندسة العكسية“، والاعتماد على التكنولوجيا الغربية بشكل أساسي. وسعت السلطات الصينية إلى نقل التكنولوجيا والخبرات من خلال اتفاقات التعاون مع الدول الغربية، وهو ما مهَّد الطريق أمام إنتاج أول طائرة صينية في 2002، وهي “إيه آر جيه 21“، المخصصة للرحلات الداخلية، من إنتاج “شركة الطائرات التجارية الصينية” (كوماك).

 

ويمكن القول إن بيجين لا تزال في مرحلة نقل التكنولوجيا والخبرات الغربية، التي أدى مسارها التراكمي إلى إنتاج الطائرة الصينية الثانية، “سي 919” المنافسة لطرازي البدن الضيق والممر الواحد إيرباص 320، وبوينغ 737. وكانت شركة “كرايك”، وهي تحالف بين كوماك و”يو إيه سي” الروسية، تعمل على إنتاج الطائرة ذات البدن العريض “سي آر 929” المنافسة للطائرات الأكبر مثل بوينغ 787، وإيرباص إيه 330 نيو.

 

وتعد كوماك الذراع التجاري الرئيس لصناعة الطيران المدني الصينية، والتجسيد الأدق لهيكلة هذه الصناعة القائمة على الإشراف المباشر للحكومة الصينية والحزب الشيوعي على مجموعة من الشركات الحكومية المتمتعة بتمويل مباشر من البنوك الحكومية. وعند تأسيسها عام 2008، من خلال فصل مجموعة من الشركات الواقعة في شنغهاي عن شركة صناعة الطيران الصينية (أفيك)، ونقل الملكية الفكرية للطائرة “إيه آر جيه 21″، دخلت خمس شركات وهيئات حكومية إضافية بصفتهم مستثمرين في الشركة، وهم “هيئة الرقابة على الشركات المملوكة للدولة”، ومجموعة “شنغهاي غووشنغ”، وشركة الألومنيوم الصينية، ومجموعة “باوو” للحديد والصلب، ومجموعة “سينوتشم”. وكشفت تقارير عن تلقي كوماك تمويلاً حكومياً بأشكال مختلفة بلغ 72 مليار دولار بين عامي 2008 و2020.

 

استراتيجية الصين للتنافس مع القوى الغربية

تسيطر شركتا بوينغ وإيرباص على سوق طائرات البدن الضيق الكبيرة. فكل من الشركتين يُنتجان حوالي 500 طائرة من هذا الطراز سنوياً، بينما تُنتج الشركات الأخرى مجتمعة حوالي 200 طائرة فقط سنوياً. وبالمثل، تُهيمن إدارة الطيران الفيدرالية الأمريكية، ووكالة سلامة الطيران التابعة للاتحاد الأوروبي على نظام مراقبة سلامة الطيران، وإصدار شهادات الاعتماد بهذا الشأن. وقد عملت إدارة الطيران المدني الصينية مع كلا الجهتين لاكتساب خبرة ضمن إجراءات اعتماد الطائرة “إيه آر جيه 21” عام 2014. أي أن واشنطن وبروكسل يتحكمان في ثلاث من الأربع حلقات الرئيسة المكونة لصناعة الطيران المدني العالمية: التكنولوجيا الفائقة، واعداد الطائرات المصنعة، ونظام الاعتماد والسلامة. وتبقى الحلقة الرابعة وهي شركات الطيران المشغلة للطائرات. وتوفر هذه الحلقة فرصة استراتيجية للصين للتنافس مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكسر الاحتكار الغربي في السوق المحلي.

 

فالصين تمثل خُمس الاقتصاد العالمي، وخُمس عدد السكان، ومن ثم خُمس حجم سوق الطيران المدني العالمي، من حيث عدد الركاب، والطلب. وتتوقع كوماك أنه خلال العقدين المقبلين سيرتفع عدد طائرات الركاب في العالم من 24,200 إلى 51,700. ووفقاً لتوقعات بوينغ، ستصبح الصين أكبر سوق للنقل الجوي في العالم بحلول عام 2040. وحتى هذا العام، سيحتاج السوق الصيني إلى حوالي 8560 طائرة، بينما توقعت كوماك أن يصل هذا المعدل إلى قرابة 10 آلاف طائرة.

 

وتتحكم إدارة الطيران المدني أيضاً في مشتريات شركات الطيران الصينية من الطائرات، خصوصاً أكبر ثلاث شركات (حكومية) التي تتحكم في 58% من السوق، وهي “خطوط جنوب الصين الجوية”، و”خطوط شرق الصين الجوية”، و”طيران الصين”. وبعد تشجيع من إدارة الطيران المدني، أعلنت شركة “خطوط شرق الصين”، في سبتمبر الماضي، عزمها شراء 100 طائرة من طراز “سي 919” الجديدة، بينما أدخلت في يناير الماضي رابع طائرة من هذا الطراز للخدمة.

 

ويمكن تفصيل الاستراتيجية الصينية لدعم صناعة الطائرتين “سي 919″، و”سي آر 929” في سياق التنافس في الأبعاد الثلاثة المركزية: الاعتماد على الحكومة لتعزيز جانبي العرض والطلب، وبناء شبكة من الشركات الحكومية المشكلة للقاعدة الأساسية للصناعة، ونقل التكنولوجيا الفائقة من الشركات الأجنبية، وفي مرحلة لاحقة الاستغناء عن هذه الشراكات والوصول للاعتماد الذاتي (انظر شكل 1).

 

شكل 1: مراحل استراتيجية الصين لبناء صناعة الطيران المدني مقارنة بالقطارات السريعة

المصدر: MERICS, China Horizons, October 2023

 

أولاً، يبدو واضحاً اعتماد صناعة الطائرة على الدور الحكومي الصيني البارز في جانبي العرض والطلب، المتمثل في كوماك وإدارة الطيران المدني والشركات والبنوك الحكومية، وهو ما يُعد القوة الرئيسة خلف الخطة الصينية طويلة الأمد للتنافس مع الغرب.

 

ثانياً، نقل التكنولوجيا الفائقة من الشركات الغربية. ويتم ذلك عبر ثلاثة مسارات متوازية: عقد الشراكات، وتقديم تسهيلات لبناء مصانع إنتاج الطائرات الغربية في الصين، واستيراد المعدات الفائقة مباشرة.

 

وإلى الآن، عقدت شركتا “أفيك” ومجموعة تكنولوجيا الإلكترونيات الصينية 14 شراكة مع شركات غربية تركز على المكونات الالكترونية والأنظمة المعقدة، بينما أُوكِلَ للشركات المحلية إنتاج المكونات التقليدية لهيكل الطائرة. إضافة إلى ذلك، أعلنت إيرباص وبوينغ عن خطط لزيادة قدرات تصنيع وتجميع الطائرات من طرازي “إيه 320″، و”737” على التوالي في الصين، مع تأكيد إيرباص على الاستمرار في رفع قدراتها الصناعية حتى عام 2030. ومع وصول نسبة توطين سلاسل التوريد الداعمة لتصنيع الطائرة “سي 919” في الصين إلى 60%، استفادت بيجين من القاعدة الصناعية الكبيرة للشركات الغربية على أراضيها في رفع معدلات الإنتاج، وسرعة التنفيذ.

 

ولا تزال الصين معتمدة على المصنعين الغربيين لاستيراد أهم مكون تكنولوجي في الطائرتين، وهي المحركات. وتعتمد الطائرة “سي 919” إلى الآن على المحرك الذي تنتجه شركة “سي إف أم الدولية”، وهي عبارة عن شراكة بين “جنرال إلكتريك” الأمريكية، و”سفران للمحركات” الفرنسية (انظر شكل 2).

 

ثالثاً، خلق قاعدة ابتكار قوية تتشكل من شبكة واسعة من الجامعات ومراكز البحث العلمي التي تركز على نقل التكنولوجيا من الخارج، وتسريع عملية التحول باتجاه توطينها، إلى جانب بناء تكنولوجيا صينية خالصة.

 

رابعاً، الوصول للاعتماد الذاتي في صناعة الطائرتين عبر استبدال الموردين الأجانب بالشركات المحلية في خلال العقد المقبل. أي أنه بمجرد نضج صناعة الطائرة، ستسعى بيجين للاستغناء عن علاقات التعاون مع الشركات الأجنبية. ويُعد مسار إنتاج الطائرة المحلية “إيه آر جيه 21” سابقة يمكن البناء عليها؛ فبمجرد البدء بدخول الطائرة الخدمة على نطاق واسع في السوق المحلي، اعتمدت على سلاسل توريد محلية بشكل كامل، وهو ما دفع شركة “إمبراير” البرازيلية المتخصصة في إنتاج طرازات مشابهة لهذه الطائرة لإغلاق مصنعها في الصين عام 2016.

 

خامساً، التوسع العالمي في مرحلة لاحقة، وتصدير الطائرات الصينية، والتنافس على حصص إيرباص وبوينغ السوقية مباشرة بعد إشباع السوق المحلي والهيمنة عليه.

 

شكل 2: المكونات الغربية في الطائرة التجارية الصينية “سي 919”

نقلاً عن: The South China Morning Post

 

التحديات أمام الاستراتيجية الصينية

أولاً، أهم تحدي أمام الطائرتين “سي 919″، و”سي آر 929” هو صناعة المحرك. وتحاول كوماك خفض أو إنهاء الاعتماد على محرك جنرال إلكتريك – سفران في الطائرة “سي 919”. في عام 2016، أنشأت الصين شركة “إيرو الصينية للمحركات” عبر تحالف بين “أفيك” وكوماك لتصميم المحرك “سي جيه 1000” وتصنيعه. ويُتوقع دخول المحرك الجديد الخدمة على نطاق واسع بعد عام 2030. لكن دفع الصين باتجاه تصميم محرك طائرات محلي جاء متأخراً مقارنة بالمصنعين الغربيين، وهو ما يجعلها متأخرة كثيراً عنهم من حيث التكنولوجيا. ويصف خبير في “أفيك” هذه الحالة بـ”محاولة الانتقال من الجيل الأول إلى الجيل الخامس في قفزة واحدة”. ووفقاً لبحث بواسطة منصة معلومات متخصصة في التكامل المدني-العسكري في إقليم هونان، في 2022، فإن تحديات أخرى تواجه تطوير المحرك، أهمها الأعطال الميكانيكية (وهي مشكلة شائعة في محركات الطائرات الصينية الصنع)، والتصميم السيئ، ومستوى التصنيع المتواضع، ونقص الخبرة في عمليات الاختبار والتجميع.

 

ثانياً، تغيُّر البيئة الجيوسياسية باتجاه تصعيد التنافس مع الولايات المتحدة في سياق الحرب التكنولوجية. ويضع هذا المسار ضغوطاً على موردي التكنولوجيا الفائقة الخارجيين، خصوصاً تلك التي قد تدخل في نطاق الاستخدام المزدوج المدني-العسكري التي تحتاج إلى موافقة مسبقة لتصديرها للصين، مثل إلكترونيات الطيران، وأنظمة الهبوط، وغيرها. على سبيل المثال، في 2020، درست إدارة الرئيس دونالد ترامب إمكانية حظر تصدير محرك “سي إف أم” للصين. وصُنِّفَ عددٌ من الشركات التابعة لشركة “إيرو الصينية للمحركات” باعتبارها “مستخدمين عسكريين” من قبل مكتب الصناعة والأمن الأمريكي. ويخلق هذا الاعتماد القوي على الموردين الأجانب تحدياً آخر أمام كوماك متمثلاً في التردد في التحول للاعتماد على الموردين المحللين، وهو ما سيكون بمثابة مخاطرة كبيرة بسمعة الطائرة، من حيث درجة الأمان والسلامة. لكن في الوقت نفسه، يظل تخفيف الاعتماد على الشركاء الأجانب الهدف الاستراتيجي الأهم في سياق سياسة تقليل المخاطر مع احتدام التنافس.

 

ثالثاً، تقديم موديل واحد فقط من الطائرة “سي 919″، وقاعدة دعم وإمداد ضيقة حول العالم. ويقلص ذلك من فرص تنافس كوماك مع شركات مثل إيرباص وبوينغ التي تقدم عدداً كبيراً من الطرز المختلفة، من حيث الحجم والاستخدام، إلى جانب قاعدة واسعة النطاق من مراكز التشغيل المعتمدة، بالإضافة إلى تقدم الهيكل التنظيمي لصناعة الطيران المدني في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كثيراً مقارنةً بالصين. وكما أعلنت كوماك، سيكون بناء هذه القاعدة أحد أهدافها الرئيسة، لكن لا يتوقع أن تتحول إلى واقع خلال العقد الجاري.

 

رابعاً، تستهدف كوماك بناء قدرة على تصنيع 150 طائرة من طراز “سي 919” سنوياً بحلول عام 2028، رغم التحديات التي عرقلت الوصول لمستهدفات مماثلة لتصنيع الطائرة “إيه آر جيه 21”. وتأمل في تسويق الطائرة في الدول الأعضاء في مبادرة الحزام والطريق. لكن، إلى جانب التحديات السابقة التي قد تعرقل تحقق ذلك، ثمة تحديات إضافية متعلقة بسعر الطائرة القريبة من منافساتها مقارنة بها، إلى جانب الكلفة المرتفعة للتحول من شراء طائرات إيرباص وبوينغ أمام شركات الطيران.

 

خامساً، التأخيرات والخلافات الكبيرة بين الصين وروسيا حول الاتفاقات بشأن تصنيع الطائرة “سي آر 929″، والتي أدت، في أغسطس 2023، إلى انسحاب روسيا من المشروع. ومن حينها تولت كوماك منفردة المشروع. أحد أهم أوجه الخلافات عدم ثقة روسيا في المكونات التكنولوجية الغربية، والضغط على الصين للاعتماد أكثر على التكنولوجيا المحلية. ويتوقع أن تستغرق عملية التخارج سنوات بسبب تشعب الاتفاقات بين الدولتين. لكن، يعتقد على نطاق واسع أن العقوبات الغربية على روسيا، وآثار ذلك في تقدُّم المشروع، أديا دوراً أساسياً في تسريع الصين من استبعادها.

 

السيناريوهات المحتملة بشأن مستقبل صناعة الطيران المدني الصينية

تعتمد حصة الطائرات الصينية في السوق العالمي على قدرتها على اقتطاع حصة معتبرة في السوق المحلي أولاً. ومن ثم، تركز هذه السيناريوهات على السوق المحلي بوصفه شرطاً أساسياً للتوسع الخارجي. وتعتمد السيناريوهات توقعات كوماك مُحدداً قياسياً للبناء عليه.

 

1. سيناريو تسريع وتيرة الإنتاج

يَفترض هذا السيناريو قدرة القاعدة الصناعية الصينية، المتمثلة في شركة كوماك، على تسريع إنتاج الطائرتين الصينيتين، والوصول إلى نسبة 17-20% (أي ما يتراوح بين 1700 وألفي طائرة) من حجم السوق المحلي الصيني بحلول عام 2040.

 

سيتوقف تحقّق هذا السيناريو على عدة عوامل، أهمها افتراض نجاح كوماك في تقليص الاعتماد على التكنولوجيا الغربية، خصوصاً المحركات. ويفترض أيضاً تحسُّن العلاقات الصينية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وعلى وجه الخصوص إزالة الشركات الصينية مثل شركة “أفيك” من على “قائمة الكيانات” الأمريكية. وقد يُعوَّض ذلك بتحقيق الشركات والجامعات الصينية قفزات واسعة في التكنولوجيا المحلية. وسيدعم هذا السيناريو ارتفاع الطلب المحلي على الطائرات صينية الصنع نتيجة ضغط حكومي مباشر. وفي هذا السيناريو، ستكون الصين بحاجة لرفع الإنتاج السنوي بمعدل 29.5% إلى 31% كل عام للوصول إلى نسبة 17-20% المستهدفة بحلول عام 2040.

 

لكن هناك عوامل سلبية قد تحُول دون تحقق ذلك، منها توقّع ألّا يتم إدخال المحرك “سي جيه 1000” إلى الخدمة على نطاق واسع قبل عام 2030، واستمرار تدهور العلاقات الصينية مع أمريكا وأوروبا، واحتدام التنافس الجيوسياسي والتكنولوجي، وبطء التقدم التكنولوجي، وتأخر الطائرة “سي آر 929” على وجه الخصوص نتيجة العقوبات وانسحاب روسيا.

 

2. سيناريو الإنتاج المعتدل

يطمح هذا السيناريو لوصول القدرة الإنتاجية الصينية إلى الاستحواذ على 10% (أي حوالي ألف طائرة) من إجمالي السوق المحلي بحلول 2040 التي كان قد أعلنت عنها شركة “يو إيه سي” الروسية الشريك السابق لكوماك (انظر شكل 3).

 

يأخذ هذا السيناريو في الاعتبار عدة محددات واقعية حالياً، إلى جانب الفترة الزمنية التي شهدها إنتاج الطائرة “إيه آر جيه 21″، وافتراض عدم تدهور العلاقات الصينية-الأمريكية للوصول إلى مستوى المواجهة. إلى جانب ذلك، أثَّرت حادثتا تحطم الطائرتين بوينغ 737 ماكس، في عامي 2018 و2019، على حصة بوينغ داخل السوق الصيني، وانخفضت بأكثر من 52%. وعلى رغم استعادة بوينغ حصتها بعد قرابة خمسة أعوام، من الممكن لحوادث مماثلة في المستقبل أن تفتح المجال أمام الطائرات الصينية لتعويض بعض النماذج من الطائرات الغربية لدى شركات الطيران المحلية.

 

ولكي يتحقق هذا السيناريو، سيكون على الصين رفع مستوى الإنتاج بمعدل 25% على أساس سنوي حتى عام 2040. وبما أن القاعدة الصناعية الصينية الواسعة والصلبة قد تجعل هذا السيناريو ممكناً، إلا أن بعض العراقيل ربما تتسبب في عدم تحققه.

 

شكل 3:  معدل إنتاج الطائرتين الصينيتين “سي 919″، و”إيه ار جيه 21” في خلال الأعوام الستة المقبلة

المصدر: MERICS, China Horizons, October 2023

 

ويبقى الاعتماد التكنولوجي على الشركات الغربية العائق الأهم كما في السيناريو السابق، إلى جانب ترجيح تدهور العلاقات الصينية-الأمريكية بشكل أكبر، وتوسيع نطاق العقوبات على قطاعات التكنولوجيا الفائقة الصينية في خلال العقدين المقبلين. وعند مقارنة مسار تصنيع الطائرة “إيه آر جيه 21” مع الطائرتين “سي 919″، و”سي آر 929″، سيتضح على الفور المزية التي تمتعت بها الطائرة الأولى، وهي البيئة الجيوسياسية الإيجابية التي سيطرت في مطلع القرن الجاري على علاقات بيجين بالقوى الغربية. وحتى إن حصلت حوادث جديدة للطائرات الغربية، فلا يرجح أن تكون الطائرات الصينية جاهزة بأعداد كبيرة بعد لشغل الفراغ الناشئ عن تراجع الحصص الغربية بشكل كامل.

 

3. سيناريو تراجُع الإنتاج

يقوم هذا السيناريو على افتراض عاملين مهمين: دفع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي باتجاه اتفاق على تحجيم صعود كوماك بصفتها شركة منافسة لإيرباص وبوينغ، عبر زيادة معدلات الدعم الحكومي للشركتين بهدف تقليل أسعار طائراتهما، وتبني إجراءات عقابية أوسع لخنق الصادرات التكنولوجية الغربية للصين، قد تدفع الحكومة الصينية إلى الاستمرار في الاعتماد على الطائرات الغربية بسبب اعتبارات متصلة بالسلامة.

 

في هذا السيناريو، قد تتراجع القدرة الإنتاجية الصينية على أساس سنوي لتحصل الطائرات الصينية على حصة مقدرة بنحو 5-8% (أي بين 500 و800 طائرة) فقط من السوق الصيني بحلول 2040.

 

لكن هناك عاملين آخرين قد يساعدان في تقليل الخسائر المحتملة في هذا السيناريو، وهما: عدم ترجيح قدرة إيرباص وبوينغ على منافسة كوماك في خفض الأسعار، وتوقُّع حصول قفزة في معدلات إنتاج الشركة بعد عام 2030 بسبب الانتقال للاعتماد على المحرك “سي جيه 1000”.

 

4. سيناريو الركود

يفترض هذا السيناريو وصول العلاقات الصينية-الغربية إلى مستوى غير مسبوق من العدائية نتيجة إقدام الصين على غزو تايوان، على سبيل المثال. في هذه السيناريو، يُتوقع فرض الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي نفس مستوى العقوبات الواسعة المفروضة على روسيا نتيجة غزو أوكرانيا.

 

ستتأثر صناعة الطيران المدني الصينية بهذا السيناريو بشكل حاد نتيجة العقوبات، ويُرجح حدوث ركود في الصناعة نتيجة توقف الواردات التكنولوجية الغربية في شكل تام، وهو ما سيتسبب في بطء كبير في معدل إنتاج الطائرات قد يصل إلى استحواذ الطائرات الصينية على حصة لا تتخطى 3% (أي 300 طائرة) فقط من السوق بحلول 2040.

 

استنتاجات وتوقعات

تُرجح الورقة حدوث أحد السيناريوهين: سيناريو الإنتاج المعتدل، أو سيناريو تراجُع الإنتاج، نظراً لواقعيتهما ما لم تقع مستجدات طارئة، خصوصاً في سياق التنافس الصيني-الغربي. وفي كل الأحوال، سيتوقف مسار صناعة الطيران المدني الصينية ووتيرها على العوامل الخارجية في شكل مباشر، أكثر من العوامل الداخلية (باستثناء سيناريو الحوادث)، أقله حتى عام 2030. وبغض النظر عن السيناريو المرجح، يُتوقع أن يتسبب دخول المحرك “سي جيه 1000” في سلاسل التوريد في حدوث قفزة إنتاجية كبيرة في خلال العقد المقبل.

 

وعلى المدى البعيد، يُتوقع أن تكرر الشركات الصينية نموذج تسويق الطائرتين “إيه آر جيه 21″، و”سي 919” في الخارج، من خلال توسيع الشركات الصينية من استحواذاتها على شركات الطيران الصغيرة والمتوسطة في الدول الأعضاء بمبادرة الحزام والطريق، ثم الضغط عليها لشراء الطائرات صينية الصنع. لكن سيتوقف ذلك على قدرة كوماك على الحصول على اعتمادات الأمن والسلامة أولاً.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/scenario/altahliq-fi-ajwa-mahmuma-tahadiyat-sinaat-altayaran-almadani-alsiynia-wafaqiha

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M