اللواء الدكتور أحمد ناصر الريسي
كثيرةٌ هي التحديات والتهديدات التي تواجه أجهزة إنفاذ القانون في مختلف دول العالم، ولكنَّ هذه التحديات والتهديدات بدأت -أخيراً- تأخذ أشكالاً وأنماطاً مختلفة، وغير مسبوقة أحياناً.
وتُعد الجرائم ذات الطبيعة الإلكترونية من أخطر الجرائم العابرة للحدود، وأسرعها نموّاً في الوقت الحاضر. وينتشر هذا النوع من التهديدات والهجمات عبر شبكات معقَّدة في شتَّى دول العالم، إذ أسهم انتشار شبكة الإنترنت في توفير فضاء غير محدود للأنشطة الإجرامية، ولم تعُد الأساليب التقليدية لمكافحة الجريمة كافية.
ومن أبرز الجرائم الإلكترونية نذكر الجريمة السيبرانية التي باتت أحد أبرز التحديات الأمنية المعاصرة التي تواجه الدول والحكومات والأفراد على حدّ سواء، نظراً إلى قدرتها على إحداث ضرر كبير في المعلومات والبنى التحتية الحساسة.
وتتزايد وتيرة الجرائم السيبرانية في عالم شديد الترابط تشهد فيه التقنيات تطوراً متسارعاً، كما تتنوع هذه الجرائم لتشمل مختلف فئات المجتمع وقطاعاته، ومن تلك الجرائم الاحتيال المالي، وغَسْل الأموال، والاستغلال الجنسي للأطفال، والتصيُّد الاحتيالي، وشبكات الاختراق، وسرقة البيانات، وغيرها. وقُدّرت الخسائر العالمية، التي تسبَّبت بها الجرائم السيبرانية، بنحو ثلاثة تريليونات دولار في عام 2015، ومن المتوقَّع أن يزداد هذا الرقم بنسبة 15 في المئة سنويّاً ليصل إلى 10.5 تريليون دولار بحلول عام 2025.
وتمثل هذه الخسائر أكبر تحول للثروة الاقتصادية في التاريخ، أي أضخم كثيراً من الأضرار الناجمة عن الكوارث الطبيعية في عام كامل، كما أن هذه الجرائم ستدرُّ على مرتكبيها أرباحاً أكبر من الحجم العالمي لتجارة جميع أشكال المخدرات المحظورة. وتظهِر هذه الأرقام حجم الأثر الكبير للجريمة السيبرانية، ولذا أصبح تعزيز التعاون الدولي لمجابهتها أمراً حتميّاً.
وفي هذا الإطار تحرص المنظمة الدولية للشرطة الجنائية (الإنتربول) على تزويد دولها الأعضاء بأحدث التقنيات وبرامج بناء القدرات لمساعدتها على مواكبة الاتجاهات الإجرامية السائدة، ومكافحتها بكفاءة، فمثلاً تتيح قواعد البيانات الـ19 لدى «الإنتربول» لأجهزة إنفاذ القانون معلومات محدّثة، ما يعزز قدرتها على تحديد هُويات المجرمين السيبرانيين وتعقبهم، كما ساعدت قاعدة بيانات «الإنتربول» الدولية للاستغلال الجنسي للأطفال (ICSE) المحققين على تحديد 30 ألف ضحية في مختلف أنحاء العالم حتى الآن.
وبالنسبة إلى منطقتنا، فقد كانت الشركات والمؤسسات في دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، من بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الأكثر استهدافاً من قِبل الهجمات السيبرانية في المدَّة بين منتصف عام 2021 ومنتصف عام 2022، وذلك وفقاً لتقرير نشرته شركة (Group-IB) المتخصصة بالأمن السيبراني، كما أكدت الدراسات أن عمليات انتزاع الفدية مثَّلت أخطر تهديد سيبراني واجهته الشركات في جميع أنحاء العالم ومنها منطقة الشرق الأوسط.
وفي هذا الإطار تنبَّهت القيادة الرشيدة في دولة الإمارات لأهمية تعزيز الأمن السيبراني، واتخاذ إجراءات استباقية لمكافحة التهديدات السيبرانية، وأسفر ذلك عن إصدار العديد من القوانين واللوائح التي تسعى إلى حماية الأفراد والشركات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر قوانين متعلقة بمختلف أشكال الجرائم الإلكترونية.
ومن موقعي رئيساً لمنظمة «الإنتربول» شهدتُ المبادرات التي أطلقتها دولة الإمارات في هذا الشأن، إذ أصبحت الدولة رائدةً في تطبيق التحول الرقمي للعمل الشرطي، وتسخير التقنيات الحديثة، وتطوير آليات قوية لتعزيز الأمن السيبراني.
وتشمل بعض المبادرات الأخرى تأسيس مجلس الأمن السيبراني في دولة الإمارات عام 2020، بهدف وضع استراتيجية متكاملة للأمن السيبراني، وتوفير بنية تحتية سيبرانية قوية في الدولة، كما أُنشِئ مركز دبي للأمن الإلكتروني، بهدف تحديد وتنفيذ معايير تضمن الأمن السيبراني، ووضع سياسة الإمارة في مجال أمن المعلومات الحكومية وتنفيذها، وإعداد خطة استراتيجية لمواجهة أي أخطار أو تهديدات أو اعتداءات على المعلومات الحكومية بالتنسيق مع الجهات المعنية.
وعلى صعيد آخر تسعى دول المنطقة إلى تعزيز كفاءتها في مكافحة هذا النوع من الجرائم، فعلى سبيل المثال شاركتُ -العام الماضي- في جلسة حوارية ضمن المنتدى الدولي للأمن السيبراني بالمملكة العربية السعودية، ناقشنا فيها أهمية التعاون بصفته ضرورةً حتميَّة للتعامل مع الجرائم السيبرانية.
ويجدر بنا هنا أن نذكر الجهود التي تبذلها المملكة في تعزيز الأمن السيبراني، فقد أسَّست الهيئة الوطنية للأمن السيبراني في عام 2017، بهدف وضع سياسات وقوانين خاصة بالأمن السيبراني وتنفيذها، وتنظيم حملات توعوية، كما أُنشئت أخيراً مؤسسة المنتدى الدولي للأمن السيبراني، الهادفة إلى تعزيز الأمن السيبراني على المستوى الدولي، ومواءمة الجهود الدولية ذات الصلة بالأمن السيبراني ودعمها.
إن طبيعة عصرنا الرقمي الحالي والمتغيرات السريعة التي نشهدها تتطلبان منا التعامل بجدّية تامة مع الجرائم السيبرانية عن طريق الاستثمار في التقنيات الحديثة، ووضع استراتيجيات شاملة.
ولا شكَّ في أن دول المنطقة تتصدَّر الدول التي تتبنى منهجية الشراكة الفعالة مع «الإنتربول» لمكافحة الجريمة الإلكترونية، ونحرص على أن تكون جميع الدول الـ195 الأعضاء في المنظمة مجهَّزة بالشكل المناسب لمواكبة هذا النوع من التهديدات، والتعامل معها بصورة استباقية، ولا سيَّما أن الجرائم السيبرانية تجسّد حاضر الأنشطة الإجرامية ومستقبلها. ولا يوجَد حل شامل لجميع سيناريوهات مواجهة التهديدات السيبرانية، ولكنْ عن طريق التعاون وتبادل المعلومات عبر الحدود ستتمكَّن الدول والمنظمات المعنية من توفير الموارد اللازمة للتصدي للجرائم بشكلها المعاصر.
*مفتش عام وزارة الداخلية ورئيس المنظمة الدولية للشرطة الجنائية (الإنتربول)
.
رابط المصدر: