بسنت جمال
أعلن الاتحاد الأوروبي أنه يعمل على توفير حزمة تمويل بقيمة 20 مليار يورو (22.7 مليار دولار)؛ بهدف ضخ استثمارات في القارة الأفريقية من أجل دعم شبكات النقل، ومشروعات الطاقة، وعملية التحول الرقمي، وتعزيز قطاعي التعليم والصحة، فضلًا عن إنشاء ممرات استراتيجية، وكابلات بحرية دولية، وربط شبكات الطاقة الجديدة وتطوير مصادر الطاقة المتجددة. وتهدف تلك الاستثمارات إلى مواجهة التمدد الصيني في القارة السمراء التي باتت زاوية مهمة في ساحة التنافس الدولي خلال السنوات الأخيرة؛ كونها تحتل موقعًا استراتيجيًا مهمًا وتمتلك نسبة كبيرة من الموارد الاقتصادية الهامة.
واستطاعت الصين أن تجعل لها موطئ قدم ثابتًا ومتشبعًا في القارة الأفريقية؛ عبر تقديم المساعدات التنموية وزيادة حجم التبادل التجاري، ولهذا لا تستطيع القوى الغربية أن تواجه الوجود الصيني في أفريقيا حتى الآن.
مظاهر النفوذ الصيني
استطاعت الصين تقوية علاقاتها الاقتصادية مع أفريقيا عبر العديد من القنوات مثل منتدى التعاون الصيني-الأفريقي الذي أُنشئ بمبادرة من بكين عام 2000، ومجلس الأعمال الصيني-الأفريقي الذي أنشئ في نوفمبر 2004 بغرض دعم استثمارات القطاع الخاص الصيني في عدد من الدول الأفريقية. وفيما يلي أبرز مظاهر البصمة الصينية في الدول الأفريقية:
• الشريك التجاري الأكبر لأفريقيا: على مدار السنوات الماضية، برزت السلع الصينية كعنصر أساسي في الأسواق الأفريقية، فقد قامت الشركات الصينية بتصدير كميات متزايدة من المنتجات مباشرة إلى الأسواق الأفريقية، وهكذا استطاعت الصين أن تحافظ على مكانتها كأكبر شريك تجاري لأفريقيا منذ عام 2009 ولمدة 13 عامًا؛ فبلغت نسبة التجارة مع بكين نحو 21% من إجمالي التجارة الخارجية للقارة حتى عام 2020.
وتتضمن قائمة الصادرات الصينية إلى أفريقيا الآلات والإلكترونيات والمنسوجات والملابس والمنتجات عالية التقنية والسلع النهائية، فيما تتركز وارداتها من أفريقيا على السلع الأولية والمواد الخام والموارد الطبيعية كالنفط والحديد والقطن والألماس، فضلًا عن المنتجات الزراعية، حيث تعتبر الصين ثاني أكبر وجهة للصادرات الزراعية في أفريقيا.
وفي هذا السياق، حاولت الصين مساعدة الدول الأفريقية على توسيع صادراتها؛ فقامت بإعفاء عدد من السلع من رسوم الاستيراد، وأعفت نحو 25 دولة من التعريفات الجمركية المفروضة على حوالي 190 منتجًا كالمواد الغذائية والمنتجات المعدنية والمنسوجات. وقد انعكس ذلك على ارتفاع حجم التبادل التجاري بين الجانبين إلى مستويات قياسية بحلول عام 2021، حيث سجلت نحو 254 مليار دولار. وفيما يلي عرض لحجم التجارة منذ عام 2002 وحتى 2020:
الشكل 1- حجم التبادل التجاري بين الصين والدول الأفريقية (مليار دولار)
وخلال عام 2020، احتلت جنوب أفريقيا المركز الأول في قائمة أكبر المصدرين الأفارقة للصين، تليها أنجولا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، فيما ظلت نيجيريا أكبر مشترٍ للسلع الصينية، تليها جنوب أفريقيا ومصر. ومن المتوقع أن يزداد حجم التبادل التجاري بين الجانبين في المستقبل؛ إذ تشكل التجارة عنصرًا رئيسًا في الخطة المشتركة التي أصدرتها أفريقيا والصين في نهاية العام الماضي خلال اجتماع منتدى التعاون الصيني الأفريقي (FOCAC).
• تنامي حجم الاستثمارات: تشجع الصين شركاتها المحلية باستمرار على زيادة الاستثمار في أفريقيا، وبفضل هذه الاستثمارات، تمكنت البلدان الأفريقية من رفع مستوى التصنيع لديها، وتحسين صناعاتها، وزيادة قدرتها على كسب النقد الأجنبي من خلال الصادرات. وبحلول نهاية عام 2020، تجاوز الاستثمار المباشر للشركات الصينية في أفريقيا ما يقرب من 43 مليار دولار، وخلقت أكثر من 3500 شركة صينية في جميع أنحاء القارة بشكل مباشر وغير مباشر ملايين الوظائف للشعوب الأفريقية. ويُمكن الاستعانة بالشكل الآتي لعرض تطور الاستثمار الصيني في أفريقيا:
الشكل 2- الاستثمار الصيني في أفريقيا (مليار دولار)
وتستثمر الصين في مشروعات التعدين، ومعالجة المواد الخام، وتصنيع المعدات، والزراعة، ومجالات الاقتصاد الرقمي، كما يتبين تاليًا:
1. تدعيم البنية التحتية: بلغ إجمالي الاستثمار الصيني في مشاريع البنية التحتية في أفريقيا ما يقرب من 200 مليار دولار خلال الفترة من عام 2016 إلى عام 2020، لتستحوذ المشروعات التي نفذتها الشركات الصينية على 31.4% من جميع مشاريع البنية التحتية في القارة الأفريقية خلال عام 2020. وعطفًا على ذلك، ساعدت بكين شركاءها الأفارقة على تحديث أكثر من 10 آلاف كيلومتر من السكك الحديدية، و100 ألف كيلومتر من الطرق السريعة، وحوالي 100 جسر و100 ميناء.
2. تسهيل التنمية الزراعية: أعربت السلطات الصينية في الكثير من الأحيان عن استعدادها لمشاركة خبراتها في مجال التنمية الزراعية والتكنولوجيا مع أفريقيا لدعمها على تحسين الإنتاج الزراعي ومساعدتها في بناء سلاسل القيمة الزراعية الخاصة بها. وحتى الآن، أقامت الصين آليات تعاون زراعي مع 23 دولة أفريقية ومنظمة إقليمية، وبحلول نهاية عام 2020، كان لدى أكثر من 200 شركة صينية رصيد استثماري بقيمة 1.11 مليار دولار في القطاع الزراعي في 35 دولة أفريقية.
3. تحسين العملية التصنيعية: تدعم الصين البلدان الأفريقية في تحسين بيئتها الاستثمارية ودفع عملية التصنيع والتنويع الاقتصادي، وأنشأت آليات لتعزيز القدرة الصناعية في 15 دولة في أفريقيا، وساعدت في بناء العديد من المجمعات الصناعية بتلك الدول.
4. تعزيز الأمن الطاقوي: تعاونت العشرات من الشركات التي تمولها الصين مع نظرائها الأفارقة لبناء محطات الطاقة الكهروضوئية، بقدرة مركبة تراكمية تتجاوز 1.5 جيجاوات، مما ساعد في إنشاء سلاسل صناعة الخلايا الكهروضوئية في أفريقيا، مع تعزيز أمن الطاقة وتقليل الانبعاثات الكربونية.
5. توسيع التعاون في الاقتصاد الرقمي: تساعد الصين الدول الأفريقية في القضاء على الفجوة الرقمية حيث شاركت الشركات الصينية في عدد من مشاريع الكابلات البحرية التي تربط أفريقيا وأوروبا وآسيا والأمريكتين، وتعاونت مع نظيرتها الأفريقية في تحقيق التغطية الأساسية الكاملة لخدمات الاتصالات السلكية واللاسلكية، وقد استثمرت شركة “هواوي” وحدها حوالي 1.5 مليار دولار وتوظف نحو 4000 عامل في أفريقيا.
• ترسيخ الروابط الاجتماعية: تعمل الصين على تعزيز التعاون مع أفريقيا في المجالات الاجتماعية التي تشمل الحد من الفقر والصحة والتعليم وحماية البيئة ومواجهة التغيرات المناخية. وحتى الآن، ساعدت بكين نحو 18 دولة أفريقية على إنشاء 20 مركزًا في تخصصات طبية مختلفة، وقدمت تسهيلات لحوالي 16 دولة أفريقية من أجل دمج اللغة الصينية في أنظمتها التعليمية الوطنية.
• زيادة المساعدات التنموية: تدعم الصين البلدان الأفريقية عن طريق تقديم مساعدات تنموية في شكل منح وقروض بدون فوائد أو قروض ميسرة، إذ بلغ إجمالي المساعدات الخارجية الصينية خلال الفترة بين 2013 إلى 2018 حوالي 270 مليار يوان، خُصص منها حوالي 45% للقارة الأفريقية. وخلال وباء كورونا، بدأت الصين في توفير اللقاحات لأفريقيا فقدمت حوالي 1.7 مليار جرعة إلى أكثر من 110 دولة ومنظمة، من بينها 50 دولة أفريقية ومفوضية الاتحاد الأفريقي.
• مشروع الحزام والطريق: أطلق الرئيس الصيني مبادرة “الحزام والطريق” عام 2013؛ بهدف إحياء طرق التجارة القديمة عن طريق إنشاء الحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين، من أجل بناء شبكة للتجارة والبنية التحتية لربط قارات العالم ببعضها البعض. وفي ضوء هذا المشروع، عملت الصين على إشراك أفريقيا بهدف توسيع المجال الاقتصادي لصالح الصين، وتمثل شرق أفريقيا محورًا مركزيًّا في هذا المشروع، وهو ما دفَع نحو التهيئة والاستثمار في البنية التحتية بالمنطقة.
أهداف اقتصادية متعددة
تسعى الصين بزيادة وجودها في القارة الأفريقية إلى الاستفادة من المواد الأولية المتوفرة فيها لاسيما المعادن، فضلًا عن استغلال السوق الأفريقية الضخمة لتستوعب منتجاتها واستثماراتها، وينبغي الإشارة إلى أنها لم تعتمد في ذلك على فرض النفوذ بالقوة، ولكنها استندت إلى مبدأ “القوة الناعمة”، وفيما يلي استعراض لبعض الأهداف الصينية من القارة السمراء:
• تعظيم الاستفادة من الموارد الطبيعية: تُعد أفريقيا من القارات الغنية بالموارد الطبيعية التي تتراوح بين الأراضي الصالحة للزراعة والمياه والنفط والغاز الطبيعي والمعادن والغابات؛ إذ تمتلك القارة 40% من احتياطي الذهب حول العالم وحوالي 90% من الكروم والبلاتين، وتوجد أكبر احتياطيات من الكوبالت والماس والبلاتين واليورانيوم عالميًا في أفريقيا، وأخيرًا، فهي تمتلك 65% من الأراضي الصالحة للزراعة، و10% من مصادر المياه العذبة على كوكب الأرض. وعلاوة على ذلك، تحتوي القارة الأفريقية على نسبة كبيرة من احتياطي النفط العالمي، والذي تبلغ نسبته حوالي 12%، وتستحوذ على نحو 10% من احتياطي الغاز الطبيعي العالمي.
ولهذا، تسعى الصين إلى تحقيق الاستفادة القصوى من الموارد الطبيعية والمعادن التي تتمتع بها الدول الأفريقية، فأبرمت –على سبيل المثال- بين عامي 1995 و2007 صفقتين رئيستين للانخراط في قطاع التعدين بأفريقيا بقيمة مجتمعة تبلغ 3 مليارات دولار، وخمس صفقات في قطاعي النفط والغاز بقيمة 3.9 مليار دولار.
وتوصلت السلطات الصينية إلى صفقة تقتضي الاستحواذ على 51% من أسهم شركة “ويزيو” للتعدين بجنوب أفريقيا، وبموجب الصفقة، تلتزم الصين بضخ استثمارات تقدر بنحو 877 مليون دولار في قطاع البلاتينيوم في البلاد. وبالإضافة إلى ذلك، يسيطر المستثمرون الصينيون على حوالي 70% من قطاع التعدين في الكونغو بعد اقتناص مشاريع مربحة في السنوات الأخيرة.
ويأتي التوجه الصيني للسيطرة على التعدين بأفريقيا في ظل خطتها الاستراتيجية للهيمنة على المعادن الأرضية النادرة، سواء على مستوى الإنتاج أو التصنيع أو معالجة المواد الخام وتكريرها وتصديرها، فلا تتمثل تلك الهيمنة فيما يُعرف بـ “جغرافية الاحتياطات” فحسب، رغم استحواذها على حوالي 38% من احتياطيات العناصر النادرة، واحتلالها المركز الأول في قائمة أكبر منتجي الأتربة النادرة حول العالم؛ ولكنها ترجع إلى استغلالها لقوتها العاملة منخفضة التكلفة نسبيًا، والقوانين البيئية غير المشددة للحصول على ميزة تنافسية في السوق العالمية، فضلًا عن ضخها استثمارات ضخمة في هذا القطاع، مع تطوير شبكة لتكرير المواد الخام، وتأميم صناعة الرواسب المعدنية الأرضية النادرة، بالإضافة إلى قيامها بتوقيع عقود التنقيب عن هذه المعادن في الدول الغنية بها لاستخراجها ومعالجتها، ثم تصديرها إلى بقية العالم.
• فتح أسواق جديدة: تهدف الصين بترسيخ روابطها الاقتصادية مع القارة الأفريقية إلى فتح أسواق جديدة أمام الصادرات الصينية؛ إذ تمثل أفريقيا أكبر سوق واعدة في العالم ويزيد سكانها على مليار نسمة، أي بما يمثل 17.5% من سكان العالم، ولهذا تُعد السوق الأفريقية سوقًا استهلاكية ضخمة.
ووفقًا لتقرير صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، من المتوقع أن يبلغ عدد سكان العالم نحو 9.688 مليار نسمة عام 2050 بنسبة زيادة سكانية قدرها 23.6% مقارنة بعدد سكان العالم خلال 2021، في حين سيصل عدد سكان قارة أفريقيا إلى 2.529 مليار نسمة بنسبة زيادة سكانية قدرها 84.2% مقارنة بعام 2021، ومن الملاحظ أن الزيادة السكانية في أفريقيا وحدها ستمثل الجانب الأكبر من الزيادة السكانية العالمية خلال الفترة (2021-2050).
وتمتلك السلع الصينية ميزة تنافسية مقارنة بباقي السلع الغربية بسبب تراجع تكاليف إنتاجها. وبالإضافة إلى الدوافع الصينية للبحث عن الموارد، فهي تستثمر أيضًا في أفريقيا من أجل إنشاء أسواق لمنتجاتها وخدماتها؛ ويرجع ذلك جزئيًا إلى المنافسة المتزايدة التي تواجهها الشركات الصينية في أسواقها المحلية. ومن ناحية أخرى، تتعطش الدول الأفريقية لجذب الاستثمارات الأجنبية إليها، لذلك باتت القوى الاقتصادية العالمية الكبرى، ومن بينها الصين تنظر إليها على أنها ملاذ آمن لاستقبال استثماراتها وسلعها وخدماتها.
• بسط نفوذها عبر سياسة الديون: تشكل القروض عنصرًا متزايد الأهمية في العلاقات الاقتصادية للصين مع أفريقيا؛ إذ تشير التقديرات إلى أن 62% من الديون الثنائية الأفريقية مستحقة لجهات دائنة صينية؛ فقد أقرضت الحكومة والبنوك الصينية أفريقيا حوالي 143 مليار دولار بين عامي 2000-2017. وساعدت القروض الصينية أفريقيا على تمويل استثمارات واسعة النطاق حيث غطت أكثر من 1000 مشروع في كافة أنحاء القارة، ولكن في ذات الوقت، أدت إلى تراكم أعباء خدمة الدين على الحكومات الأفريقية.
وفي هذا الشأن، واجهت بكين انتقادات متزايدة تتعلق بانتهاجها عن عمد “دبلوماسية فخ الديون”، والتي تعني فرض شروط قاسية على نظرائها وتكتب عقودًا تسمح لها بالاستيلاء على الأصول الاستراتيجية عندما تواجه البلدان المدينة مشاكل مالية لا تسمح لها بسداد ديونها، وهو ما يجعل تلك الدول أكثر انكشافًا للنفوذ الصيني، واستدل أصحاب تلك الانتقادات إلى التقارير التي أفادت باستيلاء السلطات الصينية على ميناء “هامبانتوتا” السريلانكي عندما تأخرت الدولة الواقعة في جنوب آسيا عن سداد مدفوعات ديونها.
• استغلال الموانئ الأفريقية: ينبغي الإشارة إلى أن الصين وجهت جزءًا من استثماراتها الأجنبية إلى الممرات البحرية وإنشاء مناطق اقتصادية خاصة في الموانئ الاستراتيجية في أفريقيا، كتمويل وإنشاء أكبر منطقة تجارية في القارة، منطقة جيبوتي للتجارة الحرة الدولية (DIFTZ)، وضخ استثمارات في ميناء “لامو” بكينيا، وميناء “باجامويو” بتنزانيا، ومشروع ميناء “تاماتاف” في مدغشقر. وهكذا، استطاعت الصين أن تضع بصمتها في حوالي 17% من الموانئ الواقعة في أفريقيا جنوب الصحراء. وتهدف بكين بذلك إلى توسيع قوتها ونفوذها الجيوسياسي، فضلًا عن إحكام قبضتها على سلاسل التوريد والإمداد العالمية.
وفي الختام، تبين من التحليل السابق السعي الحثيث من قبل السلطات الصينية للتغلغل في جميع أنحاء القارة الأفريقية من أجل الاستفادة من موقعها الجغرافي ومواردها الطبيعية الثرية وعدد سكانها المتزايد بوتيرة مستمرة.
.
رابط المصدر: