التفكير الاستباقي: من أجل تعاف مستدام من كورونا

 

  • ستيفان هاليجاتي
  • ستيفن هامير

يجري العمل في جميع مؤسسات مجموعة البنك الدولي على مساعدة الحكومات على التصدي للأزمة التي أثارها فيروس كورونا المستجد (COVID-19). فالأولوية الآن هي لدعم الأنظمة الصحية التي تتعرض لضغوط هائلة، ودعم ملايين العمال وأصحاب الأعمال الذين تضرروا بشدة. ومع ذلك، فقد يتيح التفكير الاستباقي فرصة كبيرة لبناء مستقبل أكثر صمودا واستدامة.

المرحلة الأولى: دروس من الخطوط الأمامية للتصدي للكوارث

 ينبغي التركيز بداية على الخطوط الأمامية: بدعم الأطباء والممرضات والتأكيد على توفير إمدادات المياه والكهرباء للمنازل والمستشفيات، والتخلص السليم من النفايات، وتوفير الطعام بأسعار في متناول اليد. كما ينبغي التركيز على الأسر الأشد تضررا نتيجة تقلص دخلها، لاسيما أولئك الذين يعملون بمهن هشة (مثل السياحة أو المطاعم)، أو ذوي الدخول غير المستقرة (مثل العمالة الحرة)، فضلا عن الأسر الأشد فقرا التي لا تملك سوى القليل من المدخرات.

ولا يمكن أن يكون الهدف الآن هو تحفيز الطلب وزيادة النشاط الاقتصادي قبل السيطرة على الفيروس. وبدلا من ذلك، نحتاج إلى إجراءات لإعادة التوزيع من أجل التخفيف من وقع الصدمة. 

ولكي تتمكن الحكومات من القيام بذلك، يمكنها الاعتماد على أنظمة الحماية الاجتماعية الحالية. وتُعد “شبكات الحماية القادرة على التكيف” التي توظف أنظمة الحماية الاجتماعية القائمة ويمكن توسيعها سريعا بزيادة عدد المستفيدين والمبالغ المحولة لهم، وسيلة تتسم بالكفاءة لمساعدة المواطنين بعد الصدمات الكبيرة. وأثبت هذا النهج فعاليته في فيجي بعد الإعصار وينستون، وفي كينيا وإثيوبيا أثناء فترات الجفاف، ويمكن تطبيقه الآن.

وقد تكون هناك حاجة إلى إجراءات أخرى متخصصة لإتاحة الحصول على الطعام والمأوى أو على الاحتياجات الأساسية، التي تتراوح من تأخير الإيجارات أو أقساط القروض العقارية، إلى توصيل الوجبات المدرسية. ولتفادي تفشي حالات الإفلاس، سيكون من الأهمية بمكان توفير السيولة للشركات القادرة على البقاء. وتُعد القروض المدعومة أو الضمانات العامة أدوات شائعة الاستخدام في أعقاب الكوارث الطبيعية، ويمكن استخدامها.

لكن أنماط الدعم ستتوقف على السياق العام في البلد وعلى تطور قطاعاته المالية وأنظمة الحماية الاجتماعية لديه. ففي العديد من البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، ستكون للدعم المقدم من بنوك التنمية متعددة الأطراف وصندوق النقد الدولي أهميته الكبرى.

 وفي العديد البلدان منخفضة الدخل، ستكون هناك ضرورة ملحة لتمويل الطفرة في سعة استيعاب الأنظمة الصحية ووسائل الحماية الاجتماعية. وهذا من شأنه أن يتيح أول فرصة لتحقيق مزايا طويلة الأجل تتجاوز حدود الأزمة الحالية: هذه التحسينات في الرعاية الصحية والحماية الاجتماعية يمكن، إذا صممت بطريقة مستدامة، أن تبني القدرة على الصمود في وجه الصدمات في المستقبل، بما في ذلك الكوارث الطبيعية والآثار المترتبة على التغيرات المناخية.

المرحلة الثانية: مساعدة البلدان على التعافي المستدام

مع انحسار الأزمة الصحية الحالية، ستكون العديد من الأسر قد استنفدت ما لديها من مدخرات أو تراكمت عليها ديون كبيرة، وستحتاج إلى زيادة الادخار وتقليل الاستهلاك. وبالمثل، ستحتاج الشركات والمؤسسات المالية إلى إعادة بناء ميزانياتها العمومية، وستكون أقل قدرة على الاستثمار. ومن المنطقي توقع استمرار تراجع الطلب الكلي لفترة طويلة بعد انقشاع الجائحة.

 عندئذ سيكون الوقت قد حان لحزم تحفيز ترمي إلى تحقيق التعافي المالي والاقتصادي، وستكون للإجراءات الحكومية أهميتها في ضمان العودة السريعة إلى وضع اقتصادي أكثر حيوية. ووفقا للسياق العام، قد تتضمن هذه الإجراءات تخفيض الضرائب وإصلاح النظام الضريبي، والتحويلات النقدية والدعوم، وزيادة الإنفاق على قطاعات أو مشروعات معينة. وفيما يمكن أن يثير هذا النهج جدلا محموما، فثمة مبرر قوي لمشاركة حكومية كبيرة في حزمة المحفزات.

 إن هذه الإجراءات ستكون لها آثار طويلة الأمد على النظام الاقتصادي. وحتى إذا كان للاستثمار نفس المزايا على المدى القصير، فإن بعض الخيارات ستؤتي ثمارا أفضل في تشجيع النمو المستدام والحد من الفقر على المدى الطويل. ومن ثم، فبالتفكير الاستباقي، لا ينبغي أن يؤدي التركيز العاجل على الاحتياجات قصيرة الأجل إلى إغفال الفرص المتاحة لتحقيق أهداف أخرى أطول أمدا (وتجنب التسبب في زيادة صعوبة الأهداف الأطول أمدا).

أول هذه الأهداف، تخليص الاقتصاد العالمي من الكربون بما يؤتيه من ثمار على المدى الطويل. وستؤثر خياراتنا بشأن حزم التحفيز على قدرتنا على تحقيق هذا الهدف، والتسبب في المخاطر بل والفرص أيضا.

على سبيل المثال، من الممكن أن يخلق مكون الإصلاح الضريبي في حزم التحفيز ضرائب جديدة على الوقود والطاقة، أو الكربون، وشتى الحوافز المشجعة على الحد من الانبعاثات الكربونية. ويمكن أن يتيح الانخفاض الأخير في أسعار النفط العالمية الفرصة لإعادة النظر في الدعوم المطبقة حاليا في العديد من البلدان، وتوجيه هذه الموارد إلى مسارات أخرى أكثر كفاءة للحد من الفقر أو دعم النمو مع المضي قدما على درب الانفطام عن الوقود الأحفوري.

ثمة طائفة كبيرة من الاستثمارات يمكنها أن تعزز على المدى الأقصر خلق الوظائف وزيادة الدخول وأن تحقق الاستدامة والمنافع التي يجلبها النمو على المدى الطويل. وتتضمن الأمثلة تزويد المباني القائمة بوسائل لكفاءة استخدام الطاقة؛ وإنتاج الطاقة المتجددة؛ والحفاظ على المناطق الطبيعية أو إعادة إحيائها لخدمة المنظومة البيئية ودعم القدرة على الصمود في وجه الفيضانات والجفاف والأعاصير؛ ومعالجة الأراضي الملوثة؛ والاستثمار في معالجة المياه والصرف الصحي؛ أو مد البنية الأساسية للنقل التي تتراوح بين تخصيص حارات للدراجات إلى بناء شبكات المترو.

ورغم أن التحفيز لن يكون مطلوبا على الأرجح قبل شهور، فإن الوقت قد حان الآن لتحديد أفضل حزم التحفيز الممكنة، وإعداد المشروعات الجاهزة للتنفيذ والسياسات الميسرة لها. 

 إطار التحفيز المراعي للبيئة

 للتصدي لهذه الأزمة، لا نحتاج إلى أن نبدأ من الصفر: نستطيع أن نستخدم المشروعات التي تم تحديدها بالفعل في الخطط الوطنية الرئيسية لكل قطاع، وخطط التكيف مع تغير المناخ، والمساهمات الوطنية لمكافحة تغير المناخ الواردة في اتفاق باريس. ثم يتعين بعد ذلك تقييم المشروعات من حيث قدرتها على تلبية متطلبات التحفيز، بدراسة مختلف الأبعاد الزمنية والقطاعية، والتي تشمل:

  • مزايا التحفيز وخلق الوظائف على المدى القصير، بما في ذلك عدد الوظائف الجديدة وملاءمتها للمهارات المحلية، سواء احتاجت هذه المشروعات إلى إمدادات محلية أو مستوردة، فضلا عن الجداول الزمنية لهذه المشروعات: كم من الزمن سيستغرق خلق هذه الوظائف؟
  • مزايا النمو متوسط الأجل، بما في ذلك تأثير تكاليف الصيانة، وعدد الوظائف الدائمة التي يتم توفيرها بعد انتهاء الإعمار، أو مستوى الاستثمارات الخاصة التي تم تدبيرها.
  • الاستدامة طويلة الأجل والمساهمات الرامية إلى التخلص من الكربون، بما في ذلك تقييم المسار الحالي والمستقبلي للانبعاثات، وحماية المنظومات البيئية والتنوع البيولوجي المحلية، والتأثير على إمكانيات النمو على المدى الطويل (على سبيل المثال بتحسين مستويات التعليم والصحة لدى السكان، أو تخفيض المستويات المحلية لتلوث الهواء أو التعرض لأضرار السيول).

ويمكن أن تسجل العديد من المشروعات تقديرات عالية على الأبعاد الثلاثة كلها. وتشكل كفاءة استخدام الطاقة، والحفاظ على الطبيعة، خيارات الطاقة النظيفة، واستدامة النقل مجالات لتحقيق مكاسب عامة واضحة لاستثمارات التحفيز. وكمثال على ذلك، تضمنت حزمة التحفيز في كوريا الجنوبية عام 2008 استثمارات كبيرة في هذه القطاعات، مع التركيز على تطهير الأنهار، وبناء كفاءة استخدام الطاقة، والنقل النظيف. واعتمدت البلاد أساليب تتسم بالكفاءة في الإنفاق، وشهد النصف الأول من عام 2009 صرف نحو 20% من التمويل.

ويمكن أن يخلق استصلاح أراضي الغابات المتدهورة والمسطحات الطبيعية العديد من الوظائف على المدى القصير تزامنا مع تحقيق مكاسب  صافية من حيث حماية مستجمعات المياه وتحسين المحاصيل الزراعية والمنتجات الغابية تقدر قيمتها بمئات المليارات من الدولارات. ففي إثيوبيا، على سبيل المثال، ساعد مشروع تجديد الطبيعة المدعوم في منطقة هامبو على زيادة دخل السكان المحليين واستصلاح 2700 هكتار من الغابات المحلية ذات التنوع البيولوجي، مما يعزز من مزايا احتجاز الكربون. كما قلصت زيادة الغطاء الشجري من التعرض لنوبات الجفاف المحلية.

وثمة خيار آخر واضح لخلق العديد من الوظائف يتمثل في الاستثمار بكثافة في تحديث المباني بحيث تستخدم الطاقة بمزيد من الكفاءة، وتصبح مريحة وأكثر صحة وتكيفا مع ارتفاع درجات الحرارة في المستقبل.

في حزمة التحفيز، يمكن لبرامج الأشغال العامة أن تساعد الفقراء على إدارة الآثار المباشرة لأزمة فيروس كورونا على موارد كسب رزقهم. وهذه البرامج يمكن أن تكون ضخمة: فهناك 80 مليون مشترك في برنامج المهاتما غاندي الوطني لضمان التشغيل في المناطق الريفية بالهند، و10 ملايين مشترك في البرنامج الوطني لتمكين المجتمعات المحلية في إندونيسيا. وتركز العديد من البرامج المماثلة على الري، وإعادة زرع الغابات، والحفاظ على التربة، وتطوير مستجمعات المياه، ويمكن في حالة الاختيار بعناية، تيسير التحولات الاقتصادية طويلة الأجل. ففي إثيوبيا، يساعد برنامج شبكة الأمان الإنتاجية على زيادة القدرة على الصمود والتكيف من خلال الاستثمار في خلق الأصول المجتمعية لوقف التدهور الحاد في مستجمعات المياه وتوفير مصدر أكثر استدامة للمياه.

 وعادة ما يكون من الصعب دمج مشروعات البنية الأساسية الطموحة في مجال الطاقة والنقل والمياه أو التنمية الحضرية في حزمة التحفيز لأنها تستغرق وقتا طويلا في التجهيز. إلا أن الطبيعة الفريدة لهذه الأزمة قد تتيح الوقت لإنشاء محفظة استثمارات لمشروعات البنية الأساسية الملائمة للبيئة للاستعانة بها عند الحاجة إلى التحفيز. وقد يتضمن ذلك التوسع الكبير في البنية الأساسية لشحن السيارات الكهربائية، وتخصيص حارات لسير الحافلات والدراجات الهوائية، وشبكات نقل وتوزيع الكهرباء، وتوسيع شبكات المياه والصرف الصحي، أو جعل الضواحي أكثر ملاءمة للعيش وأقل استهلاكا للطاقة.

مزايا طويلة الأجل

بالنسبة لهؤلاء الذين يركزون على المخاطر التي يمثلها التغير المناخي على المكاسب الإنمائية التي تحققت بشق الأنفس في مختلف أنحاء العالم، فإن هذه الأزمة تنطوي على شعور دفين بالانقباض. لكننا لو اعتمدنا التخطيط الاستراتيجي في تصميم الاستجابات المتعلقة بالسياسات، فسنتمكن من تحقيق نتائج قصيرة وطويلة المدى تخدم المصالح الوطنية والعالمية على السواء. لكن ينبغي البدء في التخطيط لذلك فورا. إذا فعلناها بالطريقة الصحيحة، فإن التصدي لفيروس كورونا لن يقلص فقط من الألم والمعاناة الآن، بل إنه يمكن أيضا أن يرسي الأسس لمستقبل أكثر ملاءمة للبيئة وأمنا ورخاء. 

رابط المصدر:

https://blogs.worldbank.org/ar/climatechange/thinking-ahead-sustainable-recovery-covid-19-coronavirus?cid=ecr_tt_worldbank_ar_ext

 

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M