التوجه للخليج: أوروبا والبحث عن بدائل للغاز الروسي 

د. عمر الحسيني

 

تعتبر روسيا هي المورد الأكبر لحصص الغاز الطبيعي للدول الأوروبية. لكن لسنوات طوال كانت العلاقات التجارية والاقتصادية بين دول الاتحاد الأوروبي والدولة الروسية تتسم بالتذبذب والتشكك في مستقبلها. إذ أنه برغم احتياج دول الاتحاد لمصادر طاقة متنوعة لتلبية متطلبات الأنشطة السكانية والصناعية لديهم، إلا أن العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين الروسي والأوروبي لم تهنأ بفترات سلام طويلة، مما ألقى بمخاوف عدة تتعلق بوضع قطاع الطاقة في المنطقة. ولم تزد الحرب الروسية الأوكرانية الموقف إلا تعقيداً. فهناك عقداً طويل الأجل بين بعض دول الاتحاد مع روسيا، منها ألمانيا. وهو ما يشكل ورقة ضغط لدي المعسكر الروسي، كما يضمن تدفقاً للأموال إلى روسيا على عكس رغبة أعضاء حلف الناتو بفرض العقوبات الاقتصادية على حكومة الرئيس الروسي بوتين. من هذا المنطلق، جاءت الحاجة لإيجاد بدائل سريعة للغاز الروسي من موردين آخرين، خاصة بعد توجيه الانتقادات لصانعي القرار المسئولين عن عقود الغاز تلك.

ملامح أزمة الطاقة منذ بداية الحرب

استوردت ألمانيا حوالي 56 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي من روسيا في عام 2020. وجاء ما يقرب من 55٪ من وارداتها من الغاز من روسيا، و40٪ من الطلب على الغاز في ألمانيا يأتي من الصناعة. ويبلغ إجمالي واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز من روسيا نحو 168 مليار متر مكعب.

لم يتغير الوضع كثيراً حتى بعد بداية الحرب الروسية الأوكرانية. إذ قدرت مجموعة من النشرات الاقتصادية خلال شهري فبراير ومارس 2022 أن دول الاتحاد الأوروبي حولت أكثر من 13.3 مليار يورو (14.7 مليار دولار) إلى روسيا من أجل النفط والغاز الطبيعي والفحم منذ بدء الحرب وحتى بداية مارس. كما أن التدفق الحالي للأموال الأوروبية إلى الخزائن الروسية يقدر قيمته بنحو 285 مليون دولار (217 مليون جنيه إسترليني) يوميًا للنفط وحده.

وقد قامت عدة دول أوروبية بالفعل بوضع إجراءات اجتماعية تأمينية في صالح المواطن والصناعات المعتمدة على الغاز. حيث أعلنت النمسا بمارس 2022 أنها ستنفق ملياري يورو لدعم تكاليف الطاقة لمواطنيها. كما صرحت الحكومة الإيطالية، في نفس الشهر، باستهدافها جمع 4.4 مليار يورو من خلال فرض ضريبة بنسبة 10 في المائة على الأرباح المتزايدة التي أبلغت عنها شركات الطاقة بين أكتوبر 2021 ومارس 2022 مقارنة بالعام السابق، إذا تجاوزت هذه الزيادة 5 ملايين يورو. واعتزمت إيطاليا بهذه الضريبة الجديدة، خفض الرسوم في ضخ البنزين بمقدار 25 سنتًا للتر حتى نهاية أبريل 2022، وحماية 5.2 مليون أسرة من أفقر الأسر في البلاد من الزيادات الأخرى في فواتير الطاقة المنزلية.

وفي ألمانيا، صرح اتحاد صناعة الطاقة BDEW الألماني بأن حصة روسيا من إمدادات الغاز الألمانية في الفترة من يناير إلى مارس، والتي لم يتم نشرها رسميًا، ظلت عند 40٪. كما توفر موسكو أيضًا 34 ٪ من النفط الألماني، في الغالب على طول خط أنابيب دروجبا. نتيجة لذلك، أصرت ألمانيا على أن الاتحاد الأوروبي لا يعاقب بنكين يخدمان مشتريات ألمانيا من الطاقة الروسية. أي أن الوضع لم يتغير كثيراً، رغم كل العقوبات الاقتصادية المعلنة.

كل هذه العوامل وأكثر منها جعلت روبرت هابيك، وزير الاقتصاد الألماني في الحكومة الائتلافية الألمانية وزعيم حزب الخضر، يواجه انتقادات حادة منذ بداية الحرب على أوكرانيا نتيجة لرفضه قبول حظر كامل للطاقة على روسيا رغم الرضا الشعبي الضمني عن القرار في حالة اتخاذه. حيث أظهرت عدة استطلاعات للرأي أن غالبية الشعوب الأوروبية لديهم استعداد جزئي لتقديم تضحيات خاصة بأسلوب حياتهم، بما في ذلك ارتفاع أسعار الغاز، إذا ساعدت تلك التضحيات في هزيمة روسيا.

لكن الحكومات رغم ذلك لا تتصرف طبقاً لهذه الآراء بصورة عاجلة لإدراكها بأن المواطن قد لا يعي بصورة كاملة المخاطر الحقيقية لتردي الخدمات وتهديدات البطالة الجماعية التي قد يفرضها أي حظر عاجل وغير مدروس لامدادات الغاز الروسي. وهو ما زاد من تشقق العلاقات بين أوكرانيا وألمانيا إثر عدم تعاون الأخيرة مع الأولى بصورة ترضي الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. إذ اتهم زيلينسكي ألمانيا بأن لديها ثلاث أولويات فقط هي: “الاقتصاد، الاقتصاد، الاقتصاد”. كما يرى أندري كوبوليف، الرئيس السابق لشركة الطاقة الأوكرانية الحكومية نفتوجاز، أن ألمانيا يمكن أن تتخذ موقفًا أكثر صرامة.

أوروبا تتجه للخليج

شجعت هذه الأراء الشعبية والدولية والظروف الأخيرة القارة الأوروبية على القيام بمحاولات جديدة لتنويع المصادر وتحسين فرص النزاع الاقتصادي مع روسيا. فعلى سبيل المثال، تجري ألمانيا محادثات مع النرويج وكندا والولايات المتحدة بهذا الصدد. لكن بدأت الأنظار تتجه صوب الخليج. ربما بدأتها زيارة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، غير المثمرة حتى الآن، للسعودية والإمارات. هدفت الزيارة لمحاولة إقناع حلفاء المملكة المتحدة التقليديين في الخليج بزيادة إنتاج النفط لتوفير أسعار أفضل للأسواق لديهم.

بعدها عقدت ألمانيا اتفاقاً جديداً مع قطر بشأن توريد الغاز الطبيعي المسال (LNG) بهدف مساعدتها في التخلص من اعتمادها على الطاقة الروسية. ورغم اعتبار هذا العقد مجرد حل طويل الأجل لا يؤثر على حالة الاستيراد القائمة، إلا أنه لاقى قبولاً لدى الحكومة الألمانية كبداية. كما رافق الوزير الألماني أثناء مناقشات العقد في الدوحة، كبار رجال الأعمال الألمان. حيث يستهدف هابيك الدخول في شراكة وتعاون في قطاع الطاقة طويلي الأجل. وإن لم يصرح بالأرقام التفصيلية عن الواردات المخطط لها من قطر، إلا أنه أعلن عن دخول شركات عدة في المفاوضات التعاقدية الحالية مع الجانب القطري. كما شدد هابيك على أن مستقبل أوروبا يتمثل في تطوير مجموعة متنوعة من الموردين، إذ يرى هابيك أنه لن يكون هناك فائدة تذكر من مجرد نقل اعتماد ألمانيا من مورد إلى آخر، معترفاً بأن الإدارات الألمانية السابقة ارتكبت خطأً عندما أصبحت شديدة الاعتماد على روسيا.

صدرت قطر 106 مليار متر مكعب من الغاز في عام 2020. باعت الجزء الأكبر من منتجها للأسواق الآسيوية، وهو ما يعطي حصة بسيطة متبقية لا تكفي احتياجات ألمانيا فقط وليس كل دول الاتحاد. إلا أنه من المتوقع أن تضاعف قطر إنتاجها من الغاز الطبيعي المسال تقريبًا بحلول عام 2025. وهو ما يساعد هابيك في تنفيذ وعوده بأن أوروبا بصدد تقليل تدفق الطاقة من روسيا إلى الصفر.

مستقبل قطاع الطاقة ما بعد الغاز الروسي

علقت برلين بالفعل رخصة التشغيل لخط أنابيب نورد ستريم 2 الجديد، والذي كان من المفترض أن ينقل الغاز الطبيعي الروسي تحت بحر البلطيق إلى ألمانيا. ويستبعد روبرت هابيك عكس الإغلاق المخطط للطاقة النووية في ألمانيا، والمقرر إجراؤه في نهاية عام 2022. لكن هناك تقارير تشير لإنفتاحه على إطالة عمر المحطات التي تعمل بالفحم، والتي كان من المقرر إغلاقها بحلول عام 2030.

كما توجهت انظار هابيك إلى الإمارات العربية المتحدة، التي تتحول إلى مركز للهيدروجين الأخضر. إذ يمكن للإمارات العربية المتحدة أيضًا مساعدة ألمانيا على تحقيق هدفها طويل المدى للتحول إلى مصادر طاقة أنظف واستكشاف طرقًا لتنويع مصادرها من الغاز الطبيعي في محاولة لجعل البلاد أقل اعتمادًا على روسيا.

لكن تحوم بعض الشكوك حول إمكانية تحقيق وعود هابيك بصدد وقف الاعتماد على روسيا، ليس فقط بسبب العقود طويلة الأجل مع روسيا، ولا الحجم المتوقع استيراده من قطر مقارنة بالمتطلبات الألمانية، ولكن بسبب عدم وجود محطات للغاز الطبيعي المسال في ألمانيا في الوقت الحالي. وحتى خبر البدء في محطتين جديدتين، هما محطتي Brunsbüttel وWilhelmshaven، لم يقلل من هذه الشكوك. إذ قد يستغرق بناؤهما ثلاث سنوات. على عكس الولايات المتحدة، التي حظرت صادرات النفط الروسية، ستحتاج ألمانيا إلى عدة أشهر، بل وربما إلى عدة سنوات، لتنويع إمداداتها.

كما ينوي الاتحاد الأوروبي نفسه أن يستهدف خفض وارداته من الغاز القادم من روسيا بنحو الثلثين بحلول نهاية عام 2022. كذلك يستهدف جعل أوروبا مستقلة عن جميع أنواع الوقود الأحفوري الروسي قبل فترة طويلة من عام 2030. لكن أولاً عليهم حل مشاكل التسعير. حيث من المتوقع أيضًا أن تكون أسعار الكهرباء قضية خلافية في قمة الاتحاد الأوروبي المقبلة.

إذ تشجع الدول الأعضاء الجنوبية إحداث تغييرات في الطريقة التي تعمل بها أسواق الجملة لتخفيف الضغط على الأسر، ولكنها تواجه مقاومة قوية من شمال أوروبا. حيث تريد كل من إسبانيا وإيطاليا واليونان والبرتغال تغيير قواعد الاتحاد الأوربي لتسعير الكهرباء الخاصة به، والتي ربطت بشكل فعال سعر الكهرباء بالتكلفة الباهظة للغاز، وسمحت لمجموعات الطاقة المتجددة بفرض رسوم أعلى بكثير من التكلفة.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/19026/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M